29-ديسمبر-2024
الاقتصاد السوداني

يمكن القول إن استمرار الحرب خلال 2024 وجه ضربات قاسية للاقتصاد السوداني (تصميم الترا سودان)

يمكن القول إن استمرار الحرب بين القوات المسلحة والدعم السريع خلال 2024 وجه ضربات قاسية للاقتصاد السوداني. على الرغم من تعهدات وزير المالية جبريل إبراهيم بخلق موازنة تتوافق مع الوضع العسكري وتمويل القطاعات الحيوية، إلا أن الأوضاع على الأرض عكست صورة مزرية للوضع المعيشي، وتزايدت نسبة الوفيات بسبب الجوع والوبائيات.

واجه الاقتصاد السوداني خلال 2024 سلسلة من التقلبات ما بين الإشراقات الطفيفة والضربات الموجعة

منتصف كانون الثاني/يناير 2024، أعلن مجلس الوزراء المكلف من مدينة بورتسودان، العاصمة المؤقتة للحكومة، إجازة الموازنة العامة التي قدمها وزير المالية، دون الإفصاح عن بنودها سوى وعود مبذولة بتحسين وضع الخدمات الأساسية. مع ذلك، أُحجم عن بنود التنمية نتيجة عجز فاق 45% من الجملة الكلية للموازنة.

لم يتمكن الاقتصاد من المضي قدمًا مطلع العام الحالي؛ وسرعان ما أعلن صندوق النقد الدولي في شباط/فبراير 2024 عن انكماش الاقتصاد السوداني متأثرًا بالحرب الدائرة. ووُضعت نسبة تراجع في النمو وصفها مراقبون بـ"الكارثية"، وصلت إلى 18.3%، وهو معدل لم يصل إليه الاقتصاد في هذا البلد الذي يعج بالصراعات الأهلية المسلحة منذ الاستقلال.

 اقتصاد الطوارئ

في آذار/مارس من نفس العام، أعلن وزير المالية جبريل إبراهيم خلال مؤتمر صحفي أن الاقتصاد السوداني في طريقه إلى التعافي الطفيف، مستفيدًا من بعض الموارد وسد الفجوة في نقص الإيرادات. لكنه أشار أيضًا إلى أن الاقتصاد سيتحول إلى بند الطوارئ، وهو الإنفاق على الضروريات وخفض النفقات العامة. مع ذلك، لم تكن هناك بارقة أمل حول تحقق تصريحات جبريل على الأرض، ويعكس ذلك ارتفاع أسعار الوقود وغاز الطبخ والسكر والبقوليات والمنظفات وخدمات النقل بنسبة 35% خلال الربع الأول من موازنة العام 2024.

أبرز حدث اقتصادي مرتبط بالشأن الإنساني كان منتصف نيسان/أبريل 2024؛ إذ نظم المانحون مؤتمرًا في باريس لجمع التعهدات المالية للعمليات الإنسانية بمناسبة مرور عام على الحرب. جُمِعت مليارا دولار بحضور رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وأعضاء من القوى المدنية، فيما قاطعت الحكومة المؤتمر.

جاء مؤتمر باريس متزامنًا مع تحذير مسؤول برنامج الدول العربية بالأمم المتحدة، عبد الله الدردري، من خسارة الاقتصاد السوداني 25% من الناتج المحلي الإجمالي بعد عام واحد من الحرب.

 مفترق الطرق

وجدت الحكومة المكلفة في بورتسودان نفسها في مفترق الطرق عندما تهاوى سعر الجنيه السوداني في السوق الموازي في أيار/مايو 2024، وبلغ ذروته أمام الدولار الأميركي نهاية نفس الشهر بالوصول إلى عتبة ثلاثة آلاف جنيه، بعد أن كان (1500) جنيه. وأغرى تآكل الاحتياطي في المركزي تجار السوق الموازي بوضع المزيد من الأسعار على الدولار الأميركي، فيما كان لتدخل القطاع الحكومي في شراء العملات الصعبة لتوريد أسلحة أثر بالغ على العملة المحلية.

كان متوقعًا أن ترتفع نسبة التضخم قياسًا بـ"عجز الإيرادات العامة" في النصف الأول من العام 2024. وبالفعل، في تموز/يوليو من نفس العام، أعلن المركز الوطني للإحصاء عن ارتفاع التضخم من 136% إلى 194%

كان متوقعًا أن ترتفع نسبة التضخم قياسًا بـ"عجز الإيرادات العامة" في النصف الأول من العام 2024. وبالفعل، في تموز/يوليو من نفس العام، أعلن المركز الوطني للإحصاء عن ارتفاع التضخم من 136% إلى 194%. وبينما لم تكن لدى وزير المالية جبريل إبراهيم كوابح للإمساك بزمام الاقتصاد المتجه نحو الهاوية بفعل الحرب، وفق مراقبين اقتصاديين، كان الوضع المعيشي يتفاقم، وواجه المواطنون سلسلة طويلة من ارتفاع الأسعار والخدمات الأساسية مثل النقل والرعاية الصحية.

واصل التضخم الإفلات من ملاحقة وزارة المالية للشهر الثاني على التوالي، وقفز إلى 218% في آب/أغسطس 2024، ما يعني أن أسعار السلع الاستهلاكية، التي تُستورد بنسبة 95% من دول الجوار مثل مصر وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وليبيا، قفزت إلى أرقام فلكية. بينما بدأ السخط الشعبي يرتفع على الحكومة في مدينة بورتسودان، انعكس تدهور الاقتصاد على خدمات الكهرباء بتنفيذ برمجة قطوعات امتدت إلى نصف يوم في مدن بورتسودان وكسلا وعطبرة وحلفا الجديدة.

 سقوط المدن.. تكلفة فادحة

بين شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2024، تلقى الاقتصاد ضربة موجعة بفقدان عشرات الآلاف من الأفدنة الزراعية التي كانت على وشك الإنتاج، عقب اجتياح قوات الدعم السريع مناطق جبل موية ومحلية الدندر وأبو حجار والسوكي وسنجة بولاية سنار. ورغم استعادة القوات المسلحة لجميع المناطق منذ تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام، إلا أن التكلفة الإنسانية والاقتصادية كانت فادحة، بنزوح قرابة (300) ألف شخص، ونهب الأصول الزراعية والإنتاجية بواسطة قوات الدعم السريع، وفق تقارير غرف الطوارئ.

ربما ساعد إنشاء محفظة حكومية لاستيراد السلع الأساسية في بورتسودان، العاصمة المؤقتة، والتي تضم موانئ الاستيراد والصادرات بواسطة البنك المركزي ووزارة المالية، على كبح سعر الصرف في السوق الموازي.

المحفظة التي أطلقتها الحكومة في حزيران/يونيو 2024 حصلت على تمويل مالي قدر بمليار دولار. إثر ذلك، مُنعت شركات استيراد السلع الأساسية مثل الدقيق والوقود والسلع الحكومية من الدخول إلى السوق الموازي. بالتالي، لم تتلقَ أسواق العملات طلبات كبيرة تُحدث الهلع وسط المستوردين والتجار.

في تشرين الثاني/أكتوبر 2024، هجمات قوات الدعم السريع على قرى ومدن شرق الجزيرة، عقب إعلان انشقاق أبو عاقلة كيكل وانحيازه إلى الجيش، لم تكن بمعزل عن الخسائر الاقتصادية. فقد نزح نحو نصف مليون مواطن جراء الهجمات، ودخلت مدن القضارف وكسلا وحلفا الجديدة وشندي وعطبرة والفاو وبورتسودان والدامر ضمن المناطق المستضيفة للنازحين. وألحقت الهجمات أضرارًا اقتصادية بالغة على مدينتي تمبول ورفاعة، بنهب جميع الأسواق وممتلكات المواطنين، بما في ذلك السيارات ونهب المستشفيات بواسطة قوات حميدتي.

تتوقع وزارة المالية الحصول على 300 مليون دولار منتصف العام الجديد، وهو أعلى طموح بالنسبة لها

مع سيطرة طفيفة على العملات الصعبة في السوق الموازي، ونمو الإيرادات العامة بنسبة بطيئة. ومع رغبة البحث عن مخارج النجاة، نظمت وزارة المالية مؤتمرًا اقتصاديًا في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 في مدينة بورتسودان، العاصمة المؤقتة. ودعا قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى البحث عن حلول لتحسين وضع المواطنين في موازنة العام 2025 من خلال أعمال المؤتمر. فيما صرح جبريل إبراهيم أن السودان سيحصل على (300) مليون دولار من البنك الدولي قبل حلول حزيران/يونيو 2025 أثناء مداولات المؤتمر.

تغيير العملة.. البحث عن مخارج

توجت الحكومة القائمة في بورتسودان تدابيرها الاقتصادية بإجراءات جريئة في كانون الأول/ديسمبر 2024، قبل نهاية العام، بتغيير جزئي للعملة الورقية استهدف فئتي الـ (500) و(1000)، مع وضع اشتراطات بفتح حسابات للمواطنين حال وصولهم إلى البنوك لاستبدال العملة. جاء ذلك بهدف جذب الأموال من القطاع التقليدي إلى البنوك، إلى جانب محاربة العملات المزيفة المتداولة بكثرة خلال الحرب. وحمل البنك المركزي الدعم السريع مسؤولية انتشار العملات المزيفة.

يودع الاقتصاد السوداني العام الحالي بعد المرور بسلسلة من التقلبات ما بين "إشراقات طفيفة" و"ضربات موجعة"، وكأن الحرب لا تكف عن وضع مزيد التحديات أمام السودانيين. فيما لا يمكن التنبؤ، وفق خبراء في هذا القطاع، بتعافي الاقتصاد دون المرور عبر بوابة وقف الصراع المسلح والحصول على أموال طائلة من المجتمع الدولي لإعمار ما دمرته الحرب.