أن يُنهي متطوعو غرف الطوارئ تجهيز الوجبات في مرفق عام أو مسجد أو مبنى اجتماعي سيما في العاصمة الخرطوم، هو الشغل الشاغل لتقديم الطعام يوميًا لمئات الآلاف من العالقين بين خطوط النار والمعارك بين الجيش والدعم السريع، والتي تدخل شهرها السادس.
سارع المواطنون الذين وجدوا أنفسهم في قلب الأجسام الطوعية إلى إقامة المطابخ العامة نتيجة تعذر تدخل المنظمات الدولية في مناطق الاشتباكات
وعلق العديد من السودانيين في العاصمة الخرطوم منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، بينما نزح نحو خمسة ملايين شخص إلى الولايات الأفضل نسبيًا من الناحية الأمنية. وإزاء نقص مريع في المساعدات الإنسانية، يعكف متطوعون على تجهيز الوجبات في المرافق العامة وتوزيعها على المتأثرين في الأحياء، أو الطهي في مكان محدد بالحي والمشاركة في تناول الطعام جماعيًا؛ وهي قيمة اجتماعية موجودة بين السودانيين، ما ساعدهم على ابتكار هذه الطريقة بسهولة.
ما هي التكيّة؟
يطلق السودانيون على المرافق العامة التي توفر الطعام للمحتاجين اسم "التكية"، وهي عبارة مستوحاة من "الاتكاء"، أي الجلوس وتناول الطعام متى ما رغبت في ذلك، وهي عادات تنتشر في مناطق الطرق الصوفية على مستوى البلاد، أو حتى المناسبات الاجتماعية مثل الزواج وسرادق العزاء.
ومع اشتداد المعارك العسكرية في العاصمة الخرطوم وسط الأحياء السكنية، لم يجد المدنيون مفرًا من البقاء في المنازل بين الجدران يسمعون دوي المدافع التي قد تمر فوق رؤوس بيوتهم، كما أن إغلاق غالبية الأسواق قسرًا بسبب الحرب وتوقف الحياة الاقتصادية قلل من المصادر المالية التي كان يعتمد عليها المواطنون.
وربما بسبب تأخر المجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة في إغاثة العالقين في العاصمة الخرطوم نتيجة اشتداد النزاع المسلح في الشهرين الأولين، إضافة إلى انعدام الممرات الآمنة، تطوع بعض المواطنين في الأحياء لتنظيم الغرف المشتركة لطهي الطعام في المرفق العام بالحي وتقديمه إلى السكان العالقين.
مطابخ عامة
رويدًا رويدًا تنامت هذه المشاريع الإنسانية وانتشرت في غالبية أحياء الخرطوم، وتعد أم درمان من أبرز المدن في العاصمة المثلثة التي تقيم المطابخ العامة في المرافق العامة.
ويعتمد المتطوعون في شراء مواد الطعام على التبرعات التي يقدمها الأفراد وبعض المنظمات من داخل السودان وخارجه، ولا يكف المتبرعين من ارسال المال عبر التطبيقات المصرفية كوسيلة سريعة لشراء السلع الغذائية، حيث توفر المراكز العاملة في هذا المجال الوجبات اليومية التي تتكون من العدس والفول في الغالب ووجبة "من الحساء المطبوخ باللحم والخبز" يسميه السودانيون "الفتة"، وأحيانًا طبقًا من الأرز في العشاء.
ويعتمد المتطوعون أيضًا على تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل "واتس آب" و"فيسبوك" لنشر قائمة المطلوبات لتوفير الوجبات اليومية، وبصورة كبيرة يعتمدون على التحويلات المصرفية عبر التطبيقات الإلكترونية.
سابقة سودانية
عند مدخل مسجد في منطقة شرق النيل في العاصمة الخرطوم، يفاجئ المتطوعون العالقين يوميًا بتجهيز الطعام، ويمكن للأشخاص أخذ كفايتهم منه إلى المنزل خاصة للمسنين أو المرضى. الترابط الاجتماعي المنتشر بين السودانيين في هذه المواقع، يطرح أسئلة على شاكلة لماذا اندلعت الحرب في هذا البلد؟
ولم يكن أمام العالقين خيار سوى البقاء في العاصمة الخرطوم أو تلك المدن التي تشتعل فيها الحرب في زالنجي والجنية ونيالا والأبيض، كون النزوح أيضًا خيار صعب مع انعدام الإمكانيات المالية وعدم اليقين من أن منطقة النزوح أفضل حالًا من منازلهم.
مراكز المتطوعين هذه التي توفر الطعام، قد تكون "سابقة سودانية" فريدة من نوعها وحلًا خرج من بين حطام الحرب ودمارها الواسع
وحتى إذا لم تكن هناك معارك عسكرية، فإنه من الصعب على مواطن لم يحصل على راتبه منذ أشهر، أو نهب متجره أو سرق ماله أو فقد مصادر دخله المالي - من الصعب عليه أن يشتري الطعام، لذلك فإن مراكز المتطوعين هذه التي توفر الطعام، قد تكون "سابقة سودانية" فريدة من نوعها وحلًا خرج من بين حطام الحرب ودمارها الواسع، حتى اضطر مسؤولون غربيون للإشادة بغرف الطوارئ في جلسات مجلس الأمن الدولي.