رأي

الدعوات الانفصالية.. تفكيك للسودان أم استكمال لمشروع الحرب؟

12 مارس 2025
الخرطوم (8).jpg
العاصمة القومية الخرطوم (أرشيفية)
الفاتح محمد
الفاتح محمد كاتب من السودان

مع اقتراب سيطرة الجيش السوداني على كامل ولاية الخرطوم، تصاعدت دعوات انفصالية، الجزء الأكبر منها يستند إلى مرتكزات عنصرية واصطفافات عرقية، وسط محاولات لخلق واقع سياسي جديد يخدم أطرافًا خارجية، وعلى رأسها الإمارات، التي أصبحت الأداة الصلبة لهذا المشروع.
 

هذه الدعوات لا تأتي كحركة طبيعية ضمن النزاعات الداخلية، وإنما كجزء من استراتيجية تهدف إلى تفكيك السودان، وليس إقامة دولتين مستقرتين
 

هذه الدعوات لا تأتي كحركة طبيعية ضمن النزاعات الداخلية، وإنما كجزء من استراتيجية تهدف إلى تفكيك السودان، وليس إقامة دولتين مستقرتين. فالمسار الذي تسير فيه هذه الأفكار لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الحرب وتمزيق النسيج المجتمعي.

وفي هذا الصدد، فإن المنطق العنصري عادةً ما يقوم على التوسع الجغرافي، ولو تطلب الأمر الإبادة العرقية والاستيطان، كما حدث في تجارب تاريخية مثل الاحتلال الاستيطاني في فلسطين أو ممارسات مليشيا الدعم السريع بحق المساليت، التي ترقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان. لكن ما يجري الآن من طرح انفصال دارفور (كحل سحري) يتناقض مع هذا المنطق، إذ إنه دعوة للتنازل عن الأرض بدلًا من السيطرة عليها.

هذا التناقض يثير تساؤلات حول الجهات التي تقف خلفه وأهدافها الحقيقية، خاصةً أنه يخدم مصالح الإمارات بشكل مباشر، حيث يمنحها موطئ قدم استراتيجيًا في دارفور عبر ذراعها المتمثل في الدعم السريع، بينما يهدف في الأساس إلى تعطيل أي تحرك للجيش السوداني لاستعادة السيطرة على الإقليم.

وفي المقابل، فإن تصريحات وزارة الثقافة والإعلام في السودان بشأن أعداد قتلى الدعم السريع وفق تصنيفات قبلية تُعد خطوة خطيرة تسهم في تعميق الانقسامات وتعزز الخطاب التقسيمي، الذي يتناقض مع الجهود المبذولة خلال الفترة الماضية لترسيخ عدالة حرب أبريل باعتبارها قضية وطنية.

إن طرح مثل هذه المعلومات بطريقة غير مهنية، بدلًا من الاعتماد على تقديرات موثوقة من المؤسسات العسكرية والأمنية، يضعف الخطاب الرسمي ويضر بمساعي الدولة في تثبيت وحدة الصف الوطني. كان من الممكن تناول مسألة المرتزقة الأجانب بطرق أكثر دقة واحترافية، دون اللجوء إلى أسلوب يكرس الفهم العرقي للصراع ويفتح الباب أمام توترات غير ضرورية.

الانفصال كحيلة لإعادة تدوير الصراع

النتيجة الحتمية لهذا المشروع لن تكون دولتين منفصلتين تعيشان في استقرار، بل حربًا متجددة ستبدأ من نقطة الصفر. ويتضح هذا من خلال الترابط بين الدعوات الانفصالية وخطط تشكيل حكومة موازية بقيادة الدعم السريع، التي لاقت رفضًا واسعًا من مختلف الدول حول العالم، وآخرها رفض مجلس السلم والأمن الأفريقي.

ويتم الترويج لهذا الطرح الانفصالي في وقتٍ تتزايد فيه المؤشرات على أن خلايا هذا المشروع قد اخترقت بعض مؤسسات الدولة، ولا سيما أجهزتها الاستخباراتية، مما يشكل خطورة كبيرة على الأمن القومي.

وإن الهدف غير المُعلن لهذه الدعوات الانفصالية هو ترك ملاذ آمن لمليشيا الدعم السريع، بحيث تعيد ترتيب صفوفها استعدادًا لهجوم جديد على بقية السودان، تمامًا كما فعلت باستخدام الحدود مع تشاد ودول الجوار للحصول على السلاح والمرتزقة.

على الرغم من التهديد الذي تمثله الحركات المسلحة، مثل (حركتي مناوي وجبريل)، فإن عدم مراجعتها لمشروع (السودان الجديد)، الذي يقوم على أسس عرقية تقسيمية، وعدم تبنيها رؤيةً مختلفة تجاه قضايا التحرير والتهميش والمظلومية، يعزز احتمالات اندلاع حربٍ أخرى ضد الدولة مستقبلًا

إلى جانب ذلك، هناك محاولة لخلط الأوراق بين الحركات المسلحة والدعم السريع، لكن هذا الطرح غير دقيق. فالحركات، رغم عدم كونها نظامية، تمتلك خطابًا سياسيًا واضحًا منذ لحظة حملها السلاح، بينما الدعم السريع لم ينتج أي خطاب إلا بعد خمسة أشهر من بداية الحرب، وكان مجرد أداة للنظام السابق لمحاربة هذه الحركات.

وعلى الرغم من التهديد الذي تمثله الحركات المسلحة، مثل (حركتي مناوي وجبريل)، فإن عدم مراجعتها لمشروع (السودان الجديد)، الذي يقوم على أسس عرقية تقسيمية، وعدم تبنيها رؤيةً مختلفة تجاه قضايا التحرير والتهميش والمظلومية، يعزز احتمالات اندلاع حربٍ أخرى ضد الدولة مستقبلًا. كما أن هذه الحركات ستظل عرضةً للتأثيرات الخارجية والدعم الإقليمي أو الدولي في أي وقت، وهو الخطاب الذي يستغله الانفصاليون في تعزيز دعواهم ومخاطبة مخاوف السودانيين.

ولكن الفرق الأهم هو أن الحركات المسلحة حاليًا تقف في صف الدولة، ولها اتفاقيات تمنحها امتيازات، وهي ملتزمة (ولو ظاهريًا) بمسار الاندماج في الجيش السوداني، كما يتضح من خطوة دمج قوات مالك عقار. فلماذا إذن يتم طرح سيناريو التمرد في هذا التوقيت؟ ومن المستفيد منه؟

لماذا الانفصال خيار كارثي؟

في هذا السياق، لا يمكن تحقيق السلام أو التنمية في ظل التمزق والانقسام، والتاريخ قد أثبت ذلك مرارًا. فعلى سبيل المثال، لم يؤدِّ انفصال الجنوب إلى استقرار، بل استمرت النزاعات بسبب التنافس العرقي والصراعات المحلية، حيث أصبح العدو الرئيسي في نظر الجميع هو "الخصم الداخلي" في كل منطقة.

ولا يوجد أي دليل منطقي أو واقعي على أن الانفصال يمكن أن يجلب السلام، ومن يروّج لهذه الفكرة إما مُغيَّب أو صاحب أجندة خارجية. بعض هؤلاء يتحركون بحسن نية، لكن الطريق إلى الفوضى غالبًا ما يكون مفروشًا بالمثالية غير الواقعية، في حين أن آخرين مدفوعون بأجندات خفية أو طموحات شخصية مدمرة. لهذا، لا يمكن فهم الصراع السوداني بمعزل عن العوامل الداخلية والخارجية التي تحرّكه.

وفي هذا الصدد، فإن العدو الحقيقي للسلام في السودان هو من يرسّخ فكرة الصراع العرقي ويدفع باتجاه الانقسام، محاولًا تصوير النزاع على أنه مجرد صراع اجتماعي أهلي على أسس عرقية، بينما في الواقع هو جزء من مشروع أوسع يسعى إلى تفكيك الدولة واستتباعها إقليميًا بما يصب في مصلحة الأمن القومي للكيان المحتل عبر حليفته الإمارات. بالتالي، فإن انتصار السودان يكمن في تلاحم مجتمعه وتماسك كيانه الوطني، بينما تكمن هزيمته في التمزق والتشرذم.

وإذا انفصلت دارفور، فستواجه مصيرًا صعبًا، كونها ستصبح دولة حبيسة بلا منفذ بحري، مما يجعلها عرضة لصراعات داخلية وحروب أهلية منذ اليوم الأول. هذه الأوضاع ستفتح الباب أمام التدخلات الإقليمية والدولية، مما يحوّل المنطقة إلى ساحة صراع دائم بدلًا من تحقيق الاستقرار المنشود.

ومن جهة أخرى، فإن الانفصال لا يعني نهاية الحرب، بل قد يؤدي إلى ظهور حدود جديدة للنزاعات، حيث يمكن أن تتكرر نفس الصراعات العرقية في كردفان وشرق السودان. مع تفكك الدولة، سيزداد خطر انتشار الميليشيات والجريمة المنظمة، مما يحوّل السودان إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة غير المستقرة.

وفي المحصلة، من خلال التجربة السابقة لانفصال جنوب السودان التي تقدم درسًا واضحًا، فقد أدى الانفصال إلى اندلاع حروب داخلية وانهيار اقتصادي بدلًا من تحقيق السلام والتنمية. بدلًا من الاستفادة من الموارد وبناء دولة مستقرة، غرقت المنطقة في مزيد من الفوضى، وهو نفس المصير الذي قد يواجه أي منطقة أخرى تسير في طريق الانفصال.

المواطنة كأساس للحل

التحدي الأكبر الذي يواجه السودانيين اليوم ليس مجرد وقف الحرب، بل بناء السلام ومعالجة أسباب الحرب عبر نموذج سوداني للعدالة الانتقالية، إلى جانب بناء دولة قادرة على إدارة تنوعها وخلق نظام سياسي قائم على المواطنة المتساوية. لكن المشكلة أن هذه الفكرة غائبة عن الخطاب السياسي، حيث تُطرح كشعارات دون أن تتحول إلى مشروع عملي مدعوم فكريًا وإعلاميًا.

لذلك، فإن الحل ليس في الانفصال، بل في إعادة هيكلة الدولة على أسس المواطنة، وتعزيز الحكم المحلي والولائي وفق معايير تنموية لا تتأثر بتقسيمات الأنظمة السابقة. السودانوية يجب أن تكون الهوية الجامعة، بعيدًا عن التصنيفات العرقية أو الإقليمية، وهذا يتطلب خطابًا سياسيًا واضحًا وواقعيًا يخاطب جميع السودانيين.

من الضروري مواجهة أي دعوات انتقامية أو استهداف إثني، لأن الانجرار إلى هذا المستنقع يخدم مشروع التفكيك وعملاءه الذين يسعون إلى تعميم الفوضى والفتنة العرقية

ومن المهم أيضًا أن يكون واضحًا أن الحرب الحالية ضد الدعم السريع والمرتزقة الذين تم تجنيدهم لتنفيذ مشروع تفكيك السودان، وليست ضد عرب دارفور أو أي مكوّن اجتماعي آخر.

ومن الضروري مواجهة أي دعوات انتقامية أو استهداف إثني، لأن الانجرار إلى هذا المستنقع يخدم مشروع التفكيك وعملاءه الذين يسعون إلى تعميم الفوضى والفتنة العرقية. العدل يجب أن يكون هو المعيار الأساسي، وأي تجاوزات يجب أن تُواجه بالقانون، وليس بردود فعل عنيفة تؤدي إلى دورة جديدة من العنف.

ختامًا، السودان أمام مفترق طرق، والاختيار بين الوحدة والانفصال ليس مجرد قرار سياسي، بل مسألة حياة أو موت لمستقبل الدولة. إن الدعوات الانفصالية ليست حلولًا، بل مشاريع لتكرار الكارثة. والرهان الحقيقي هو على بناء دولة المواطنة، حيث يتمتع الجميع بحقوقهم دون تمييز، مع إدارة الصراعات بالحوار السياسي لا بالسلاح والانفصال.

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

إضراب لاجئين سودانيين في إثيوبيا عن الطعام.jpg

معنى أن نرجع.. ولماذا؟

في صبيحة 15 نيسان/أبريل 2023 اندلعت الحرب بين الجيش ومليشيا قوات الدعم السريع من  العاصمة الخرطوم. ورغم الإرهاصات والمظاهر الواضحة التي سبقت اندلاعها إلا إنها كانت مفاجئة بالنسبة للكثيرين، فيما خمن البعض ممن يتابع السياسة بأنها ستكون حرب خاطفة، وشبيهة بالعملية العسكرية التي جرت حين تمردت (هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن) في يناير 2020 وتم حسمها عسكريًا في ثلاثة أيام.


الحرب في الفاشر.png

ثلاثي إفناء الفاشر... الجوع والحصار والقذائف المدفعية

تكالبت الدنيا على الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور غربي السودان، وبات سكان المدينة على شفاء الإفناء التام، إن لم ينكسر الحصار، وتتوقف الحرب، أو تحدث معجزة في زمن اللا معجزات.


منبر جدة لسلام السودان

لماذا فشلت كل المبادرات السياسية حيال أزمة السودان؟

بعد مرور عامين على اندلاع الحرب في السودان، لم تُفلح أي من المبادرات السياسية المحلية أو الإقليمية أو الدولية في إيقاف القتال أو حتى التوصل إلى هدنة دائمة، وسط تصاعد العنف وتدهور الأوضاع الإنسانية


مليشيا سودانية

السودان.. لا يوجد ما يمنع التقهقر إلى مملكة سنارية تليدة؟

هل من الممكن أن يعود السودان عبر هذه الحرب إلى نقطة دولة سنار نفسها التي انهارت قبل قرنين؟

عامان على الحرب في السودان
سياسة

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان

مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.

حرب السودان بعد عامين من اندلاعها
سياسة

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟ 

تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي  يلوح  في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.


عامان على الحرب في السودان
سياسة

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة 

على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.

السودانيون في مصر.jpg
مجتمع

لاجئون سودانيون يبدأون رحلات شاقة لمغادرة مصر إلى بلادهم 

مع عودة آلاف اللاجئين السودانيين من المدن المصرية تشهد المعابر حركة واسعة للحافلات وفق متابعة متطوعين في غرف الطوارئ بالولاية الشمالية، بينما رجح عاملون في تنسيق هذه الرحلات عودة نصف مليون لاجئ سوداني خلال هذا العام من مصر إلى بلدهم إثر سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم، وعودة الحياة بشكل متدرج.

الأكثر قراءة

1
أخبار

السودان… المُسيرات تنقل الحرب إلى المدن الآمنة 


2
مجتمع

الفاشر… بقايا مدينة ترزح تحت الركام


3
أخبار

مقتل نازحين في الطريق بين مخيم زمزم والفاشر 


4
أخبار

قائد الجيش: قريبًا سننهي خطر المسيرات التي تقصف المرافق المدنية 


5
أخبار

أصوات انفجارات تهز محيط قاعدة وادي سيدنا بأم درمان