05-أكتوبر-2020

(Getty)

رغم مرور قرابة ثلاثة وعشرين عامًا، إلا أن الذاكرة ما تزال تحمل بعضًا من أطياف صور بثها التلفزيون القومي في العام 1997 وهو ينقل من داخل القصر الجمهوري مشاهد توقيع اتفاق "سلام" مع عدد من الفصائل المنشقة وقتها عن الحركة الشعبية، حيث صوّرت أجهزة الإعلام الرسمية الاتفاق -في ذلك الوقت محدود المصادر الإعلامية- بأنه سيضع حدًا للحرب الأهلية المندلعة في "جنوب" البلاد وقتها، حيث كانت البلاد تعيش حالة من التجييش مع علو شعارات الجهاد حتى في مدارس الأساس، متزامنة مع بث البرنامج سيئ الصيت "في ساحات الفداء"، التي أسست لنا كأطفال في ذلك الوقت إدراكًا –ولو مختلًا- لصورة الحرب الأهلية الدائرة في تلك الأيام في جنوب البلاد.

خلت الخرطوم وشوارعها من أي مظاهر للاحتفال بتوقيع السلام رغم طغيانه على مواقع التواصل الاجتماعي

استذكرت هذه المشاهد بينما كنت أستقل إحدى وسائل المواصلات الداخلية في الخرطوم، صباح التوقيع على اتفاق السلام بين الحكومة الانتقالية وعدد من حركات الكفاح المسلح، بينما يتحدث اثنتان من النساء بصوت جهور ساخرات من فعاليات اتفاق السلام الموقع في جوبا، قائلة إحداهن للأخرى: "هم قاعدين في السلام ونحن قاعدين في صفوف العيش؛ سلام شنو؟ إن شاء الله المطرة تغرقهم".

اقرأ/ي أيضًا: وقاحة مبدأ المساعدات مقابل التطبيع

ما إن سمعت الحوار حتى قفز إلى ذهني أن سودانيي "الوسط" ربما يرون أن "الخبز" أهم من "السلام"، لكن لم تستقر الفكرة ثوانٍ في ذهني حتى استدعيت أرشيفًا هائلًا من اتفاقيات سلام وقّعت على مدار تاريخ الصراع السياسي السوداني، حيث ظلّت –الاتفاقيات- حبرًا على ورق، بل حتى أن أنجحها رحلت وموقعوها جنوبًا تاركةً لنا وحيدين لنشهد أقسى تسع سنوات في ذاكرة شمال السودان الحديثة.

خلت الخرطوم وشوارعها من أي مظاهر للاحتفال بتوقيع السلام، رغم طغيانه على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه طوال تجوالي داخل الخرطوم خلال يوم التوقيع؛ لم أر أي مظاهر تعكس حجم الاتفاق الذي أخذت مفاوضاته أكثر من عام من عمر الفترة الانتقالية، اللهم إلا لافتة وحيدة ضخمة الحجم بشارع المطار تتحدث عن السلام، بالإضافة إلى بعض التجهيزات الجمالية بذات الشارع، بينما خلت الخرطوم وأحياؤها من أي مظاهر تعكس ضخامة الحدث.

تكبل الذاكرة السودانية مشاهد اتفاقيات عديدة ذهبت مهب الريح. ليس في عهد الإنقاذ فقط، وإن كان له النصيب الأوفر منها، بل منذ العام 1972 حينما وقّعت نواة الحركة الشعبية لتحرير السودان، قوات حركة الأنيانيا، اتفاق سلام مع "حكومة مايو"، عرف باتفاق أديس أبابا، والذي استعاد ذكراه وتجربته الراحل جون قرنق في أثناء الأيام الأخيرة قبيل توقيع اتفاق السلام الشامل 2005، حيث حكت الوسيطة الدولية، وزيرة التنمية الدولية للنرويج، هيلدا جونسون، في كتابها التوثيقي "اندلاع السلام"، عن كيف التف الأطفال حولهم في زيارتهم لإحدى المناطق في "جنوب السودان" مرددين لأغنيات كورالية تذكر صراحة اتفاق أديس أبابا 1972، في إشارة أطلقتها الشعبية إلى الضامنين الدوليين مذكرة إياهم مصير اتفاق 1972 الذي لم يقد لحل شامل، كحال معظم الاتفاقيات التي مرت على الدولة السودانية.

اقرأ/ي أيضًا: وداعًا للانقلابات العسكرية في السودان

إحدى المهام التي كان من المؤمل أن تنجزها ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة؛ هي إعادة التعريف للمصطلح السياسي، أو بالأصح إعادة العلاقة بين المواطن والسياسة إلى شكلها الطبيعي، فبعد ثلاثين عامًا قضاها المواطن تحت نير الديكتاتورية واستئثار قلة بالحكم، ونشوء طبقات ومجتمعات تدير حياتها بعيدًا عن مؤسسات الدولة وسياستها الرسمية؛ نشأت علاقة مختلة بين المواطن والعملية السياسية، فظلّ المواطن غير المشتغل في الشأن العام ينظر إلى العملية السياسية بوصفها أمرًا فوقيًا، لا يلامس أرض الواقع، كأنها عرض مسرحي في سوقٍ عام.

الذاكرة السياسية السودانية من أطول ذواكر شعوب المنطقة خبرة سياسية

لا يعود ذلك فقط لعهد "الإنقاذيين" فالذاكرة السياسية السودانية من أطول ذواكر شعوب المنطقة خبرة سياسية، باختبارها لأنماط حكم متعددة، وثورتان وئدتا قبل أن تكتملا، وربما هذه الخبرة "اليائسة" هي ما جعل جيل التسعينات ينتظر كل هذه الأعوام ليقوم بثورته بنفسه بعد أن استطاع القطيعة مع تلك الذاكرة المصابة بالفصام، حيث أضحى العقل الشعبي يستجلب أحكامه من لدن ذاكرة عبثت بها السنون وتطاول العهود الديكتاتورية وخطبها الرنانة.

ورغم أن الثورة التي أحدثت التغيير في السودان عقب ثلاثين عامًا هي ثورة "شعبية" في الأساس، إلا أن عدم تلمس تغيير ملموس في حياة الناس ومعاشهم، وتفاقم الأزمات الاقتصادية ينذر بخطر انتكاسة وردة أخرى تصيب العقل السوداني لتزيد من التباعد ما بين لغة السياسة ودلالاتها المعيشية اليومية.

لم يكن التعاطي العاجز عن إدراك قيمة الاتفاق الموقع حديثًا بجوبا حصرًا على الطبقات الشعبية أو بعيدي الصلة من غير الفاعلين في المشهد السياسي، بل تعداه لتأخذ قوى سياسية نصيبها من التفكير الحتمي غير الخلاق، الذي يرى مسار التاريخ مسار معد مسبقًا، ويعجز حتى عن إدراك دوره في صنعه أو حتى تغيير مجراه في أسوأ الفروض وأكسلها. فقد أطل الحزب الشيوعي قبل أيام عبر بيان له يدعي فيه أن الاتفاق ليس إلا مشروعًا لتقسيم السودان، دامغًا بالفشل المستقبل الذي ما زال في رحم الغيب.

على صعيد سياسي آخر، وبينما رشَحَت أنباء عن انخراط رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في لقاءات مغلقة مع قائد الحركة الشعبية شمال عبدالعزيز الحلو بجوبا، سارعت حركة وجيش تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد نور، لتنفي نفيًا قاطعًا ما تناقلته وسائل إعلامية عن قرب انخراطها في مفاوضات مع الحكومة الانتقالية، مرددة أسطوانتها المشروخة عن أنها لديها تصور آخر لعملية السلام ستعلنه في الوقت المناسب، مجددة عهدها الدائم بنفي أي تقارب بينها والحكومة الانتقالية، بحجج تشكك في جدوى آليات الحوار المطروحة من قبل الانتقالية.

لا يخفى على أحد -اللهم إلا من انقلبت مقلتاه فصار ينظر إلى الداخل- أن ثمّة "إرادة سياسية" لوضع حد للخلافات والسعي لبناء الدولة السودانية يتحلى بها معظم الفاعلين في مصير الفترة الانتقالية؛ قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري وحركات الكفاح المسلح التي من المتوقع انخراطها القريب في أجهزة الحكم، فبحسب مصادر صحفية، نص الاتفاق  أن يضاف تضاف ثلاثة مقاعد للمجلس السيادي، بالإضافة إلى إعادة تشكيل مجلس الوزراء لاستيعاب القوى الجديدة، كما ينص أيضًا على إعادة تقسيم نظام الحكم في السودان على أساس الأقاليم، مما ينذر بتغير إداري سيكون له أثر اجتماعي كبير، فنظام التقسيم الولائي الذي استنته الإنقاذ كان أحد الأسباب التي ساهمت في زيادة الهوة الاجتماعية بين مكونات السودان الثقافية والإثنية.

اقرأ/ي أيضًا: المشهد السياسي ما بعد اتفاق السلام.. كيف سيكون؟

تمثل الاتفاقية الموقعة بجوبا، دفعة جديدة "منقذة" من الدماء في جسد الثورة، فالاتفاق جاء بعد مخاض عسير، في وقت بدأ فيه البعض يتساءل عن الثورة وجدواها في ظل تأخر إنجاز أول أهداف الفترة الانتقالية "السلام" إضافة إلى أن الاتفاق يعيد تماسك العناصر الفاعلة في المشهد السياسي، ويقلل من حمل الضغوطات السياسية الملقاة على عاتق الحكومة الانتقالية في شراكتها السابقة بين قوى سياسية مدنية وعسكريين، كما يضمن التفاف ووحدة جماهيرية أوسع بتلمس جماهير أكثر المناطق تضررًا لثمرة التغيير.

السودانيون سيظلون ينظرون لأي اتفاق سلام بأنه مضيعة للوقت ما لم يحدث تغيرٌ حقيقي

ورغمًا عن ذلك والثمار المرتجاة، فالسودان لم يكن طيلة الثلاثين عامًا الأخيرة دولة واحدة، فعزل مدن السودان وأقاليمه عن بعضها، وتطاول الحرب الأهلية في أطرافه، قد عمّق من إحساس العزلة والفرقة بين السودانيين، كما أراد النظام المُباد، فظلّت صورة دارفور ومناطق الصراع في السودان في عقل السودانيين مناطق محكومة بالجحيم والحرب الأبدية، كما أن السودانيين سيظلون ينظرون لأي اتفاق سلام بأنه مضيعة للوقت ما لم يحدث تغيرٌ حقيقي ومستدام يقلص هذه المساحات الشاسعة ما بين كلمة "اتفاق سلام" و "واقع الأرض".

اقرأ/ي أيضًا

أبيي بين سلطتين انتقاليتين.. هل من اختراقات؟

القضية الفلسطينية في سياق أوسع