منذ اندلاع الحرب الضروس بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وما خلفته من معاناة إنسانية وتشريد جماعي لأبناء البلاد، بات الموت في المنافي قدرًا حتميًا يلاحق ملايين السودانيين. منذ عام ونيف صار الرحيل القسري عن الوطن واقعًا لا يقتصر فقط على البحث عن الأمان، بل يمتد ليكون المشهد الأخير لكثير من الشخصيات التي تركت أثرًا في حياة الناس، وماتت وهي بعيدة عن تراب السودان الذي أحبته وأحبها أبناؤه.
عام 2024 حمل الأحزان لجميع السودانيين على المستوى الشخصي والعمومي؛ فمثلما تمس المأساة القائمة في البلد كل شخص في ذاته بشكل أو بآخر، ودّع السودانيون عددًا من أبرز شخصياتهم العامة، الذين قضى معظمهم نحبهم في المنافي
عام 2024 حمل الأحزان لجميع السودانيين على المستوى الشخصي والعمومي؛ فمثلما تمس المأساة القائمة في البلد كل شخص في ذاته بشكل أو بآخر، ودّع السودانيون عددًا من أبرز شخصياتهم العامة، الذين قضى معظمهم نحبهم في المنافي. رحلت خلال العام أسماء لامعة في مجالات الفن والسياسة والمال والأعمال، شكّلت جزءًا من الذاكرة الجمعية للسودانيين، إلا أن الحرب والنزوح أضافت بعدًا جديدًا لهذا الفقد، حيث جاءت وفاتهم بعيدًا عن تراب الوطن.
في عواصم الإقليم وحتى خلف البحار، توزعت أخبار رحيل ثلة من أبرز السودانيين كجرحٍ فوق جرح في ذاكرة سودانية مثقلة بالخسارات. في التقرير التالي يستعرض "الترا سودان" أبرز هؤلاء الراحلين، ويعيد تسليط الضوء على مسيرتهم وإنجازاتهم التي ستظل حاضرة، حتى وإن غاب أصحابها عن عالم الشهادة.
عميد الصحافة السودانية
في 13 شباط/فبراير 2024، توفي عميد الصحفيين السودانيين محجوب محمد صالح، في العاصمة المصرية، القاهرة، عن عمر ناهز (96) عامًا. وُلد صالح في الخرطوم عام 1928، حيث تلقى تعليمه الأساسي والثانوي وتخرج في كلية غردون التذكارية، التي أصبحت لاحقًا جامعة الخرطوم. بدأ مسيرته الصحفية عام 1949، وأسّس عام 1953 صحيفة "الأيام" مع بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان، والتي صدر عددها الأول في 3 تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام. تولى صالح عدة مناصب تحريرية فيها، كما أسس صحيفة "سودان تايمز" باللغة الإنجليزية بالشراكة مع الكاتب بونا ملوال.
منذ وقت مبكر انخرط صالح في العمل السياسي عبر الحركة السودانية للتحرر الوطني "حسدتو" عام 1946، التي تحولت لاحقًا إلى الجبهة المعادية للاستعمار ثم الحزب الشيوعي السوداني. انتخب عام 1948 نائبًا لسكرتير اتحاد طلبة الكلية الجامعية، وتولى منصب السكرتير العام في العام التالي، قبل أن يفصل من الجامعة بسبب قيادته إضرابًا طلابيًا.
في وفاته، نعته عديد الجهات في السودان، بما في ذلك مجلس السيادة الانتقالي، الذي وصفه بـ"فقيد الوطن" و"عميد الصحافة السودانية". كما أقيمت فعالية تأبين له في القاهرة وصفت بأنها "أضخم حدث ثقافي بعد الحرب"، حيث شارك فيها طيف واسع من المثقفين والأكاديميين والصحفيين والفاعلين الاجتماعيين وأهل السياسة والمهنيين.
أنتوني حجار
في الخامس من نيسان/أبريل 2024، توفي رجل الأعمال المعروف أنتوني أنيس حجار، في العاصمة البريطانية لندن، عقب صراع مع المرض. وتسابق السودانيون في نعي الراحل باعتباره أحد رموز العمل الوطني والخيري في البلاد، وسليل عائلة حجار الشهيرة بالتجارة والأعمال الخيرية. خط في رحيله قادة سياسيون وتنظيمات سياسية ومجلس السيادة أعذب كلمات الحزن والرثاء. وقال مجلس السيادة الانتقالي في نعيه لـ"حجار"، إنه مثل أنموذجًا ملهمًا للشباب في ريادة الأعمال بجانب حمل الهم الوطني، مستلهمًا تجربة القطاع الوطني الخاص في إعمار الحياة السودانية وتنميتها بجانب العمل الخيري الذي عرفت به أسرة حجار". ووصفه حزب الأمة القومي بـ"الرجل الإنسان والقامة الوطنية".
أسامة بيكلو
بعد أشهر قليلة من رحيل الموسيقار محمد الأمين، تجددت أحزان الوسط الفني السوداني في 24 أيار/مايو 2024، بوفاة الموسيقار السوداني المعروف أسامة بابكر التوم، الشهير بـ"أسامة بيكلو"، بعد صراع طويل مع مرض القلب. كان الراحل قد أجرى عدة عمليات جراحية في القلب قبل اندلاع الحرب في الخرطوم، من بينها تركيب صمام، إلا أن ظروف النزوح ومعاناة توفير العلاج بعد الحرب زادت من تدهور حالته الصحية.
ارتبط اسم أسامة بيكلو بالعمل مع عمالقة الغناء السوداني، إلا أن أبرز محطاته الفنية كانت مع الموسيقار الراحل محمد الأمين. ونعاه زملاؤه في الوسط الفني وجمهوره داخل السودان وخارجه، مشيدين بإسهاماته الموسيقية وأخلاقه العالية، معتبرين رحيله خسارة كبيرة للساحة الفنية.
إبراهيم شوتايم
في أواخر حزيران/يونيو 2024، حملت الأسافير نبأ بدا جانبيًا في خضم الأحداث الجسام التي يشهدها السودان بطوله وعرضه جراء الحرب، ألا وهو مقتل أيقونة الثورة السودانية، المواطن الصحفي الموهوب والإنسان الدارفوري صاحب المواقف والحكايات، إبراهيم شوتايم. قتل شوتايم بقذيفة جراء قصف قوات الدعم السريع لمدينته الفاشر، ليصبح ضمن إحصائيات القصف العشوائي الذي سلب حياة الآلاف في المدينة المنكوبة.
برز اسم إبراهيم شوتايم أثناء اعتصام القيادة العامة في العاصمة الخرطوم، خلال أحداث ثورة ديسمبر المجيدة. كان شوتايم أحد أهم الموثقين لأحداث الاعتصام، والهجمات المتكررة عليه. ولم يتوقف نشاط شوتايم الصحفي عند ذلك، بل استمر في عمله طوال اضطرابات الفترة الانتقالية عقب الإطاحة بعمر البشير.
نبيل متوكل
عقب معاناة طويلة مع المرض، توفي الممثل الكبير نبيل متوكل في 23 تموز/يوليو 2024، في شرق السودان الذي رحل إليه نازحًا يعاني من ويلات المرض. وُلد الراحل نبيل متوكل في الخرطوم بحري عام 1954، وبدأ مسيرته الفنية في عام 1972 عندما اكتشفه الفنان الراحل الفاضل سعيد وقدم له أول مشاركة مسرحية في "النصف الحلو". حصل متوكل على جائزة أفضل ممثل عن دوره في مسرحية "أبوفانوس"، كما تم ترشيحه للالتحاق بمعهد الموسيقى والمسرح لكن لم يتمكن من ذلك بسبب التزامات الفرقة.
في الفترة من 1976 إلى 1980 عمل نبيل متوكل كضابط إداري في مدينة واو بجنوب السودان، ثم عاد بعدها إلى العمل مع فرقة الفاضل سعيد. قدم مع فرقة الفاضل سعيد أكثر من 6200 عرض مسرحي وشارك في العديد من العروض المسرحية التي جابت مختلف أقاليم السودان. اشتهر نبيل بشخصياته المسرحية المميزة التي كانت تلقى استحسانًا كبيرًا من الجمهور، حيث كان يحظى بترحيب حار في المدن السودانية، خاصة مع عروض مسرحية "برلمان النساء" التي استمرت لأكثر من 250 عرضًا.
محمود سر الختم
وفاة البروفيسور محمود سر الختم وزير التربية والتعليم في مصر كانت مفاجئة. التقارير قالت إن الوزير سقط مغشيًا عليه في 16 آب/أغسطس 2024، في باحة فندق بالدقي في قلب الجيزة التي أتاها مستشفيًا من مضاعفات داء السكري.
في نعيه، تذكر السودانيون أدوار بروفيسور محمود سر الختم الوطنية وجهوده المخلصة في وزارة التربية والتعليم التي قادها في أحلك الظروف، وكنموذج يحتذى به في التفاني والتواضع وإنكار الذات طيلة فترة خدمته في قطاع التعليم التي امتدت لأكثر من أربعين عامًا.
الفاتح جبرا
رحل الفاتح عبدالله يوسف "الفاتح جبرا" الشهير بـ"ساخر سبيل" في 21 أيلول/سبتمبر 2024. توفي الكاتب الصحفي الكبير إثر نوبة قلبية ألمّت به في مستشفى القلب بإمبابة، في العاصمة المصرية القاهرة. كان جبرا قد لجأ إلى العاصمة المصرية ضمن مئات آلاف السودانيين الذين غادروا إلى الجارة الشمالية عقب اشتعال الحرب في البلاد.
يعد جبرا من ألمع كتاب الأعمدة الصحفية في السودان. اشتهر بكتاباته الساخرة وانتقاداته الحادة للفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة السودانية فترة حكم نظام المؤتمر الوطني. سخّر جبرا قلمه وسخريته اللاذعة لمحاربة الفساد وجرائم نظام الإنقاذ ما جعل عموده الراتب (ساخر سبيل) أحد أشهر الأعمدة في تاريخ الصحافة السودانية. عمل الفاتح جبرا أيضًا على دعم المبادرات التطوعية ولُقب بالأب الروحي لمبادرة (شارع الحوادث) التي عملت على دعم المرضى وذويهم في مستشفيات العاصمة الخرطوم، ثم انتشرت إلى شتى ولايات البلاد.
محمد المكي إبراهيم
في 29 أيلول/سبتمبر 2024، رحل بمستشفى في الشيخ زايد بمصر، الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم، رائد مدرسة الغابة والصحراء في الأدب السوداني. وُلد إبراهيم عام 1939 بمدينة الأبيض بشمال كردفان، وتلقى تعليمه في مدرسة خور طقت الثانوية وجامعة الخرطوم بكلية القانون، ثم واصل دراسته في باريس.
عُرف إبراهيم بـ"شاعر الأكتوبريات" لدوره في الحركة الشعرية المرتبطة بثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964 في السودان، وكان من مؤسسي مدرسة "الغابة والصحراء" المعبرة عن الهوية السودانية. أصدر دواوين شعرية بارزة، منها "أمتي" و"بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت"، وترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية.
سلطان كيجاب
ألقى رحيل نجم السباحة السوداني والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية عبد المجيد سلطان كيجاب بظلال الحزن على السودانيين. توفي كيجاب في الولايات المتحدة الأميركية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بعد صراع مع المرض. أثارت وفاة السباح السوداني الكندي المعروف جماهيريًا باسم سلطان كيجاب الحزن على إرث رياضي امتد لعقود.
وُلد كيجاب في السودان عام 1955 وبدأ مسيرته الرياضية مبكرًا، ليصبح رمزًا في سباقات الماراثون والسباحة الدولية. مثل السودان في بطولات عالمية وترك بصمته في العديد من السباقات الكبرى، بما في ذلك سباق القنال الإنجليزي. كما أسس أول مدرسة سباحة للشباب بالسودان ودرّب آلاف السباحين. واستمرت مسيرته بعد تقاعده كممثل للسودان في اللجنة الأولمبية الدولية وكمدرب للسباحة في عدة دول، ما جعل منه أيقونة رياضية خالدة.
هاشم صديق
توفي الشاعر السوداني الكبير هاشم صديق في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بدولة الإمارات العربية المتحدة. هاشم صديق هو شاعر ومبدع سوداني متنوع المواهب، برز في مجالات الشعر والمسرح والدراما الإذاعية والتلفزيونية، إلى جانب نشاطه الأكاديمي والصحفي.
ولد هاشم صديق في أم درمان عام 1957، ودرس المسرح والنقد في السودان والمملكة المتحدة. تتلمذ على يد أبرز الأساتذة ودرّس في المعهد العالي للموسيقى والمسرح حتى عام 1995، حيث أسهم في إنشاء مكتبة المسرح السوداني. وبدأ "شاعر الملحمة" مسيرته الفنية منذ صغره عبر الإذاعة، وقدم أعمالًا بارزة في الشعر والمسرح والدراما، منها قصيدته "النهاية" ومسرحيته "أحلام الزمان".
اشتهر هاشم بكتابة أوبريت "ملحمة قصة ثورة"، التي أضحت تراثًا وطنيًا خالدًا يروي يوميات الثورة السودانية. سياسيًا، واجه صديق تضييقًا واعتقالات بسبب أعماله المنتقدة للنظامين العسكريين في عهد النميري والبشير، حيث تعرضت العديد من أعماله للمنع والمراقبة. وبرغم ذلك، استمر في ترك بصمة أدبية وثقافية عميقة في المشهد السوداني حتى وفاته.
الموت في المنافي
رحيل هذه الشخصيات السودانية البارزة لم يكن مجرد خسارة فردية لعائلاتهم وأحبائهم، بل هو خسارة جماعية لوطن يعاني من نزيف مستمر في كوادره وأبنائه المبدعين، فوق ما تحصده الحرب القائمة منذ نيسان/أبريل 2023.
يجسد الموت في المنافي شهادة أخرى على الثمن الذي يدفعه السودانيون جراء الحرب، بالرحيل عن الحياة بعيدًا عن أرضهم وشعبهم، ضمن مأساة وطن بأكمله
ويجسد الموت في المنافي شهادة أخرى على الثمن الذي يدفعه السودانيون جراء الحرب، بالرحيل عن الحياة بعيدًا عن أرضهم وشعبهم، ضمن مأساة وطن بأكمله، حيث تتحول الحدود الجغرافية إلى حواجز تفصل السودانيين عن جذورهم وأحلامهم. ويبقى الأمل في أن تنتهي الحرب، ويعود السودان ملاذًا آمنًا لأبنائه أجمعين.