رأي

حركات سلام جوبا والدولة.. ابتزاز أم جزاء سنمار؟

24 يونيو 2025
مناوي وجبريل 2.jpg
وزير المالية جبريل إبراهيم وحاكم إقليم دارفور أركو مني مناوي
عبدالرحيم حمدالنيل
عبدالرحيم حمدالنيلكاتب من السودان

يظنّ قطاعٌ من بقايا نظام الإنقاذ في الدولة السودانية أنهم، بعد إزاحة الدعم السريع من المشهد، سيكون طريقهم مُعبَّدًا مرة أخرى إلى السلطة. لكن في هذا الطريق، فجأةً، ظهر أبوعاقلة كيكل و"درع البطانة"، الذي ربما صَنعته القوات المسلحة تحت إشراف قائد الجيش نفسه؛ لخلق موازنات جديدة مع الحركات المسلحة العديدة التي تنحدر جميعها من إقليم واحد. لذلك، جاءت "حرب التحرير" لتعطي صك امتياز لقوات "درع البطانة" لتكون أساسية في المشهد القادم.

أيضًا، يبدو وجود مني أركو مناوي، الذي تسيطر حركته المسلحة بموجب اتفاق جوبا على وزارة المعادن، خطرًا على الإسلاميين الذين يظنون أن كل منابع الثروة في السودان يجب أن تؤول إليهم.

ربما يدفع بقايا نظام الإنقاذ بالشعب السوداني مرة أخرى لخوض معركتهم الجديدة مع حركات دارفور، مني وجبريل تحديدًا

وربما يدفع بقايا نظام الإنقاذ بالشعب السوداني مرة أخرى لخوض معركتهم الجديدة مع حركات دارفور، مني وجبريل تحديدًا، اللذَين يسيطر أحدهما على وزارة المالية والآخر على وزارة المعادن. وهذه المرة، ستنطلق الشرارات على أساس جهوي، كمعركة محتملة على الحدود بين ولايتي شمال دارفور والشمالية، مثلًا، أو كمحاولات شيبة ضرار المستمرة للتحرّش بالحركات المسلحة، لدفعهم لمغادرة بورتسودان، التي ما زالت السلطة المركزية بها، إلى حين تهيئة الخرطوم مرة أخرى لتعود عاصمة للبلاد.

عندما أقول "بقايا نظام الإنقاذ"، فإنني أعني طبقةً موجودة في مفاصل الدولة (الجيش، جهاز الأمن، الشرطة.. إلخ)، بوسعها دفع التناقضات إلى أعلاها حتى تنفجر. هذا جوهر ما أجاده نظام الإنقاذ، ولديهم خبرة كبيرة فيه؛ حيث مارسوا، لسنواتٍ قاربت الثلاثين عامًا، اللعب على هذه التناقضات، مما أشعل حروبًا في كافة أطراف السودان، بينما كانوا في السلطة المركزية يتلاعبون بها، ويتفقون مع فصائل لتنشقّ عن الحركات، مما ساهم في تناسُل الحركات المسلحة حتى بلغت المئات، عوضًا عن حركة واحدة أو اثنتين فقط.

ستقوم أذرع السلطة المركزية في المرحلة القادمة بقنطرة مناوي، ليكون جاهزًا أمام كثير من الأصوات التي لم تقبل وجوده أساسًا في السلطة، لتنتاشه. ومناوي، الذي يطمع دائمًا فيما لدى غيره، بدأ الأمر بخريطة دارفور التي ظهرت خلفه في خطاب معايدته الأخير، والتي تضم جزءًا من أراضي الولاية الشمالية، لتصبح حدود إقليم دارفور مع مصر وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى. وبفعله هذا، يقدِّم مناوي نفسه لقمة سائغة للرافضين لاتفاق جوبا، الذي منح الحركات المسلحة حصصًا في الثروة والسلطة، ربما لا تروق للكثيرين، لكنهم قبِلوها على مضض. وستمهِّد السلطة المركزية لهذه الأصوات للهجوم على مناوي، وربما حتى المطالبة بإلغاء الاتفاق نفسه.

لكن، على ماذا يراهن مناوي؟ وما الذي يجعله يظنّ أن بوسعه ليّ ذراع السلطة المركزية مرة أخرى؟ هل دفاعهم عن الفاشر وحده، كقوات مشتركة، يمنحه هذه القوة؟ تعوَّد مناوي على الابتزاز؛ فهو كلما أبصر دعمًا قادمًا للحكومة من جهةٍ، قدَّم مطالبات مالية. ففي حكومة حمدوك السابقة، ما إن رأى في الأفق اجتماعًا للمانحين بخصوص السودان، حتى طالب بـ"750" مليون دولار، رغم أن هذا المبلغ نفسه لم يدخل خزينة الدولة أساسًا، وكان الدعم مجدولًا وموجَّهًا لقطاعات محددة.

جلس مناوي وجبريل يتفرّجان على الجيش وهو ينهار، والمدن والمناطق والفرق العسكرية ومباني الحكومة تسقط في يد الدعم السريع؛ بينما كانا يتفرّجان ويتبنيان فقه الحياد، رغم أنهما جزء من الحكومة نفسها، فالأول حاكم لإقليم دارفور، والثاني وزير للمالية، ويملك كل واحدٍ منهما جيشًا. ظلّا على الحياد، بينما مدن وولايات دارفور يتم احتلالها من قبل قوات الدعم السريع، واحدة تلو الأخرى. ذبح منسوبو الدعم السريع والي ولاية غرب دارفور، الذي كان زميلًا لهم في اتفاقية جوبا للسلام، ويتبع مباشرةً للجنرال مناوي بحكم أنه حاكم لإقليم دارفور. أبصرا معًا مجزرة الجنينة، وتقتيل وتشريد أهالي دارفور، ولم يتزحزحا عن حيادهما، حتى بلغ غبار المعارك مدينة الفاشر، معقل أهاليهما وموطن السلطة الإقليمية، فأعلنا انحيازهما لجيش الدولة، بعد ما يقارب العام على انطلاق الحرب.

ما فعله مناوي، ربما هو ما يريده سرًا فلول النظام البائد، الذين يجيدون العمل على تقسيم الكيانات وبعثرتها

خطاب مناوي، الذي قدّمه بينما خلفه خريطة لولاية شمال دارفور تأخذ أجزاءً من الولاية الشمالية، وإثارته لنقطة حدود إقليم دارفور، ووضع خريطة تتغوّل على حدود الولاية الشمالية، وإثارة الجدل في هذا الوقت، ربما كانت وراءه رؤية لخطط إعادة الإعمار، ورؤيته بعض المال قادمًا إلى السودان. فهو رجلٌ يجيد الابتزاز، ولعب الأوراق، وإعادة خلطها. وسرعان ما التقط قائد ثاني الدعم السريع، عبدالرحيم دقلو، القفاز، وخرج في خطاب معلنًا أن وجهتهم القادمة هي الولاية الشمالية وولاية نهر النيل.

يحدث كل ذلك، ربما تمهيدًا للتلويح بالتواطؤ مع قوات الدعم السريع، والسماح لها باجتياح الفاشر، وفتح الطريق لها إلى "الدبة" التي تتبع للولاية الشمالية، وتتاخم الفاشر التي يحاصرها الدعم السريع منذ عام وبضعة أشهر.

ما فعله مناوي، ربما هو ما يريده سرًا فلول النظام البائد، الذين يجيدون العمل على تقسيم الكيانات وبعثرتها، ودقّ إسفين بين التحالفات والكتل، وداخل الحركات المسلحة نفسها، التي تشظّت في عهدهم من حركتين إلى مئات الحركات.

بالمقابل، يريد البرهان خلع البزّة العسكرية والذهاب إلى الحكم منفردًا كرئيس جمهورية. هذه هي المرحلة التي وصل إليها، لكن يقف في طريقه ذاك اتفاق جوبا، الذي وضع له عقار وآخرون في مجلس السيادة، وجبريل ومناوي في وزارتي الثروة (المعادن والمالية). لكن الحرب لم تنتهِ لينقض غزل الاتفاق ويمضي؛ رغم أنه يريد أن يعلن الانتصار والانفراد بالحكم.

خطة ما بعد الحرب لا تشمل الحركات المسلحة، والإسلاميين، و"قحت"، وجماعة "الموز"، فقط دولة عسكرية/أمنية. ستعود الحرب إلى الأطراف كما كانت. هكذا تحدث التبعية التي يريدونها للسودان: حروب دائمة، استنزاف موارد، أنظمة فاسدة.

ليس من مصلحتهم نهوض مارد بإمكانيات اقتصادية مهولة في هذا المكان، لذا ما أن تنتهي حربٌ إلا ودُبِّرت الثانية. مع تباشير انتهاء حرب الجنوب في 2003، قامت الحرب في دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، وجبال النوبة، إلى أن وصلت الوسط والمركز؛ وستعود مرة أخرى إلى الأطراف.

ما يدور من لغطٍ هذه الأيام حول انسحاب القوة المشتركة من منطقة المثلث للضغط على السلطة لحل الحكومة من قبل رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس، ربما يأتي في ذات السياق الذي أشرتُ إليه أعلاه، إذا تأكدت المعلومة التي تناقلتها الأسافير وبعض المنصات الإعلامية، وأغضبت حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، الذي وصفها بحملة اغتيال شخصية، وأن تسريب محاضر الاجتماعات للإعلام هو سوء نية واضح، يؤكد هذا التحليل.

ما يحدث من صراع خفي ظهر إلى العلن حول محاصصة تكوين الحكومة الجديدة وأنصبة الحركات، بحسب اتفاق جوبا للسلام، كان متوقّعًا

ما يحدث من صراع خفي ظهر إلى العلن حول محاصصة تكوين الحكومة الجديدة وأنصبة الحركات، بحسب اتفاق جوبا للسلام، كان متوقّعًا. يراه البعض كـ"جزاء سنمار" للحركات المسلحة التي تقف الآن في الخنادق في معركة الكرامة، بينما يراه آخرون كابتزاز من الحركات المسلحة التي وقفت على الحياد طويلًا في هذه المعركة، ولم تقبل بالمشاركة إلا وفق اتفاقٍ سريٍّ يقضي بحصولها على مقابلٍ ما لم يُفصح عنه. غير أنه، في كل الأحوال، يكشف مأزق السلطة في السودان، ومأزق الإنسان السوداني الذي ينتظر هذه التكوينات جميعًا.

لا زالت الحرب تدور، لكن الحاضنة السياسية التي استند عليها البرهان عقب انقلاب 2021 (الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية)، لا تبدو هي هي. والتحالفات العسكرية في ذلك الوقت لم تعد هي نفسها، بعد تمرّد الدعم السريع وذهاب بعض الحركات المسلحة مع الجانب الآخر. لذلك، يبدو موقف البرهان صعبًا في هذا التوقيت، الذي يحتاج فيه إلى تماسك الجبهة الداخلية، ربما حتى إنهاء الحرب، ثم الشروع في التسويات السياسية والمحاصصات التي ربما تغيّر وجه الحرب كاملًا.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

نازحو الفاشر في الدبة

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة

الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،


أبو لولو

"أبو لولو" كمرآة لعنف الدعم السريع

تجاوز ظهور المجرم المدعو "أبو لولو" في مقاطع الفيديو الأخيرة من الفاشر كونه مجرد واقعة دموية جديدة في سجل الحرب السودانية، الى كونه حدثًا إعلاميًا مُحمَّلًا بالرموز، استُخدم - بوعي أو دون وعي - لصرف الأنظار عن المنهجية الأعمق للعنف داخل الدعم السريع.


مدينة الفاشر تحت القصف

مجزرة الفاشر.. حقيقة الحرب وجوهرها

سيتذكر السودانيون في المستقبل أن قوةً شبه نظامية تمردت على الدولة، وجمعت أشتاتًا من القتلة واللصوص من السجون والمليشيات، استأجرتها إحدى الدول لتحطيم السودان ونهبه وتجيير موارده لها. سيتذكرون تلك الليلة التي سقطت فيها أكثر المدن مقاومةً للغزو، وكيف أقاموا فيها مجزرةً لا أول لدمويتها ولا آخر لوحشيتها. وستكون هذه الذكرى هي الحصانة التي ستحمي السودانيين والدولة السودانية من تكرار أخطاء الماضي، بكل…


Kadogli.jpg

هل ما زال في السودان متسع للعقلاء؟

قبل أيام، اهتزت ولاية شمال كردفان على وقع حادثة مأساوية باغتيال الناظر سليمان جابر جمعة، زعيم قبيلة المجانين، إلى جانب واحد وعشرين من أعيان وشباب منطقته في المزروب بسقوط طائرة مسيرة. وتبادل على إثرها الاتهامات بين مجلس السيادة والدعم السريع وقوىً سياسية مختلفة. مع العلم أن الكارثة وقعت بعد أسابيع من توترات محلية واشتباكات محدودة بالمنطقة، ومثلت ضربةً موجعةً للإدارة الأهلية التي فقدت أحد أبرز…

الفاشر أقمار صناعية.jpeg
أخبار

مرصد حقوقي: أكثر من 11 ألف قتيل و32 ألف جريح في هجمات الدعم السريع على الفاشر

أعلن مرصد مشاد لحقوق الإنسان أنه وثّق مقتل أكثر من 11,700 مدني وإصابة نحو 32,000 آخرين خلال ما وصفها بـ"المجازر الواسعة" التي شهدتها مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة في تشرين الأول/ أكتوبر 2025.

والي الخرطوم ووزير الصحة
أخبار

الخرطوم وكسلا تعلنان فتح المعسكرات لمساندة الجيش في المعارك

أعلنت ولايتا الخرطوم وكسلا تجهيز معسكرات التجنيد لدعم الجيش السوداني في الحرب ضد قوات الدعم السريع، في المعارك الجارية غربي البلاد.


Recep Tayyip Erdoğan
أخبار

أردوغان: نواصل الجهود لوقف الصراع السوداني ولن نكتفي بالمتابعة

قال أردوغان، في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول: "سنواصل جهودنا الدبلوماسية لضمان السلام والأمن في السودان ولا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري هناك".

بابنوسة
أخبار

غرفة طوارئ: مدينة بابنوسة خالية من السكان تمامًا

قالت غرفة طوارئ بابنوسة بولاية غرب كردفان إن المدينة خالية من السكان بنسبة 100% بعد نزوح قرابة 177 ألف شخص جراء الاشتباكات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ كانون الثاني/يناير 2024.

الأكثر قراءة

1
مجتمع

أم روابة بين الهدوء والقلق.. بداية موسم الحصاد


2
مجتمع

نازحو الفاشر في الدبة.. مأساة الفقد والتشريد


3
أخبار

الجيش يصد هجومًا عنيفًا على الفرقة 22 بابنوسة


4
أخبار

شبكة أطباء السودان: الدعم السريع أقدمت على حرق الجثث في الفاشر


5
أخبار

رحلة محفوفة بالمخاطر.. والي شمال دارفور يصل إلى بورتسودان