حميدتي والحواضن.. هل يمكن لخطاب التسوية أن يكسر دائرة الخوف؟
23 سبتمبر 2025
بدأت الحرب باندفاعة مفاجئة قلبت المشهد في الخرطوم؛ تمكن الدعم السريع في ساعاتها الأولى من السيطرة على مواقع حساسة، بل ووصل إلى مشارف قيادة الجيش وحاصر قائده.
لكن سرعان ما ردت القوات المسلحة بضربات جوية مكثفة على معسكراته، فانهار نظامه العسكري وتفتت بنيته اللوجستية، ليتحوّل من قوة منظمة إلى مليشيا تتغذى على الولاء العرقي والدعم الخارجي.
وبينما يظل الجدل مفتوحًا حول من أشعل الشرارة الأولى، يبدو أن حميدتي اختار المواجهة لتفادي دمج قواته في الجيش، محاولًا فرض مشروعه عبر القوة.
في البداية، استغل حميدتي إغراء الغنيمة لكسب المقاتلين؛ كانت المعادلة تقوم على أن الحرب ستنتهي سريعًا وأن النصر قريب، بحيث يعود المقاتلون منتصرين وغانمين.
بعد أن استعاد الجيش زمام المبادرة وأخرج قواته من الخرطوم والجزيرة وسنار، فقد الرجل عنصر الإغراء بالغنيمة، ولم يعد الانضمام إلى "مليشياته" خيارًا جذابًا للمغامرين
لكن بعد أن استعاد الجيش زمام المبادرة وأخرج قواته من الخرطوم والجزيرة وسنار، فقد الرجل عنصر الإغراء بالغنيمة، ولم يعد الانضمام إلى "مليشياته" خيارًا جذابًا للمغامرين.
بعد ذلك، قرر حميدتي جعل الحواضن من المجتمعات العربية في دارفور وكردفان رهينة لمصيره؛ قدّم الصراع على أنه معركة وجود بالنسبة لها، إما أن تحتمي به أو تواجه الإبادة. بهذا الخطاب التضليلي ربط بقاءه ببقائها، واستغل الخوف والقلق ليصنع ولاءً هشًا لا يقوم على قناعة، وإنما على رهبة واضطرار.
ولم يقف عند هذا الحد، بل طوّر خطابه إلى صيغة جديدة، تعتبر السبيل الوحيد للنجاة هو إقامة "دولة خاصة" للحواضن في كردفان ودارفور، تحظى بدعم خارجي وتقوم على خطاب الحماية من الفناء.
من جانب آخر، لا يمكن النظر إلى الحواضن كضحايا فقط لابتزاز حميدتي وتضليله. فالكثير منهم اختاروا طوعًا الانضمام إلى قواته والمشاركة في الانتهاكات، سواء بدافع الغنيمة أو الانتصار للهوية. بهذا المعنى، تحوّلوا إلى شركاء في العنف، لا مجرد رهائن لخطاب الخوف. ومن هنا تبرز المعضلة: كيف يمكن للدولة أن توازن بين المحاسبة والعدالة من جهة، وفتح مسار للتسوية والمصالحة من جهة أخرى، بحيث لا تدفع هذه المجتمعات نحو مزيد من التشدد أو الانفصال؟
إضافة إلى ذلك، لم يأتِ استقواء الحواضن بالدعم السريع من فراغ؛ لكنه أيضًا لا يمكن تبريره بخطاب المظلومية السائد، فخطاب المركز والهامش لم يكن سوى أداة سياسية انتقائية، استُخدم في لحظة تاريخية لتأجيج الصراع أكثر من كونه محاولة جادة لتشخيص جذور الأزمة السودانية. فالترويج لفكرة أن مجتمعات الوسط والشمال — التي تُوصف بالجلابة — هي مركز السلطة والامتياز، في مقابل غربٍ مُستضعف ومُهمّش بالكامل، هو اختزال مشوّه للتاريخ، ومفتاح لبذور الحرب.
فالحقيقة أن السودان بأسره كان هامشًا؛ تُركت قراه البعيدة لمبادرات أبنائها، بعضهم جمع الأموال وشيد المدارس والمراكز الصحية، بينما وظّف آخرون نفس سردية "المظلومية" لتعبئة الموارد وشراء السلاح والتاتشرات وشن الحروب ضد الدولة. بهذا المعنى، لم يكن خطاب "المركز والهامش" سوى قناع لتبادل أدوار الضحية والجلاد، وإعادة إنتاج نفس الاستبداد، لكن بلسان جديد.
من هنا، يصبح تفكيك هذا الخطاب ضرورة وطنية، لأنه رسّخ الانقسام، وفتح الباب أمام "مليشيات" مثل الدعم السريع لتبرير جرائمها وإقناع الحواضن بأنها تدافع عن وجودها، بينما هي في الحقيقة تُساق لتكون وقودًا لمشروع شخصي وأسري، مدعوم خارجيًا، لا علاقة له بالعدالة ولا بتوزيع السلطة والثروة.
المطلوب من الدولة اليوم يتجاوز فقط المسألة العسكرية إلى صياغة خطاب سياسي وإعلامي تطميني، يحرر الحواضن من أسر الخوف ويقدّم لها ضمانات حقيقية للعيش المشترك في إطار الدولة
لذلك، المطلوب من الدولة اليوم يتجاوز فقط المسألة العسكرية إلى صياغة خطاب سياسي وإعلامي تطميني، يحرر الحواضن من أسر الخوف ويقدّم لها ضمانات حقيقية للعيش المشترك في إطار الدولة. إذا غاب هذا البعد، فسوف يظل خطاب حميدتي يجد صدى، لأنه قائم على معادلة بسيطة: البقاء مع "المليشيا" ضمانة للنجاة، بينما انتصار الجيش تهديد بالانتقام.
كما أن حواضن حميدتي نفسها ليست كتلة صلبة؛ فبينها أصوات متململة وناقمة على كلفة الحرب، وأخرى ترى في مشروع "الدولة الخاصة" مغامرة محفوفة بالمخاطر. هذه الأصوات يمكن أن تتحول إلى قاعدة للتغيير إذا وجدت من يخاطبها بصدق ويمنحها ضمانات حقيقية. فالتعامل مع الحواضن بمنطق "الجناة فقط" يختزل تعقيد المشهد ويضيع فرصة استراتيجية لتفكيك خطاب حميدتي من الداخل.
وفي السياق، لا يمكن النظر إلى علاقة الحواضن بالدعم السريع بمعزل عن التدخلات الإقليمية والدولية. فالسلاح والتمويل القادم من أطراف إقليمية، على رأسها الإمارات، ساعد على تحويل هذه المجتمعات إلى أذرع عسكرية بالوكالة، بينما اكتفت المنظمات الدولية بإدانة شكلية لممارسات الدعم السريع. هذا التواطؤ الخارجي عمّق المأزق، وحوّل الحواضن إلى رهائن لمشاريع لا تعبّر عن مصالحها الحقيقية.
أيضًا، لو قررت الدولة المضي قدمًا في المعركة دون مراعاة هذه الجوانب، فإنها ستضع نفسها أمام خيارات محدودة: إما سحق تلك الحواضن وتجريدها من القدرة على العنف وإخضاعها، وهو خيار صعب نظريًا وغير أخلاقي ويعني في جوهره الانتقام منها، أو الترويج لخطاب انفصالي يصوّر الصراع على أنه عرقي، ويؤكد أن هذه الحواضن لا يمكن التعايش معها، مما يدفع البعض إلى تبني خيار تقرير المصير، كما حدث مع جنوب السودان سابقًا.
وأعتقد أنه إذا وقعت الدولة، عبر مؤسساتها، في هذا الفخ — وهناك بالفعل مؤشرات على ذلك من خلال الاعتقالات على أسس عرقية أو بتهم التعاون مع الدعم السريع — فإن ذلك يعني عمليًا تخليها عن دورها كدولة وظيفية قامت أساسًا لخدمة الشعب أيًا كان. ورغم أنها لم تكن كذلك في يوم من الأيام، إلا أنها ظلت دولة مركزية قابضة، ما يجعل خطر الانزلاق نحو إعادة إنتاج نفس أخطاء الماضي قائمًا.
ختامًا، إن معركة الدولة ليست فقط مع "مليشيا آل دقلو" المدعومة خارجيًا، بل مع خطاب الخوف الذي يستعبد الحواضن ويصوّر لهم أن بقاءهم مرهون ببقاء "المليشيا".
فالخيار الحقيقي يبدو في إعادة تعريف الدولة نفسها لا في الانفصال، دولة تُخضع الجميع لعدالة انتقالية شاملة، وتفتح الباب لمصالحة لا تعني الإفلات من العقاب بطبيعة الحال، وإنما المساءلة المنصفة. هي وحدها القادرة على كسر حلقة الخوف. بهذا فقط يمكن بناء عقد اجتماعي حقيقي يعيد الاعتبار للضحايا، ويحرر الحواضن من قيود حميدتي وكذبه، ويضع السودان على طريق التسوية العادلة متجاوزًا سوءات التصفية الانتقامية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة
الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،

"أبو لولو" كمرآة لعنف الدعم السريع
تجاوز ظهور المجرم المدعو "أبو لولو" في مقاطع الفيديو الأخيرة من الفاشر كونه مجرد واقعة دموية جديدة في سجل الحرب السودانية، الى كونه حدثًا إعلاميًا مُحمَّلًا بالرموز، استُخدم - بوعي أو دون وعي - لصرف الأنظار عن المنهجية الأعمق للعنف داخل الدعم السريع.

مجزرة الفاشر.. حقيقة الحرب وجوهرها
سيتذكر السودانيون في المستقبل أن قوةً شبه نظامية تمردت على الدولة، وجمعت أشتاتًا من القتلة واللصوص من السجون والمليشيات، استأجرتها إحدى الدول لتحطيم السودان ونهبه وتجيير موارده لها. سيتذكرون تلك الليلة التي سقطت فيها أكثر المدن مقاومةً للغزو، وكيف أقاموا فيها مجزرةً لا أول لدمويتها ولا آخر لوحشيتها. وستكون هذه الذكرى هي الحصانة التي ستحمي السودانيين والدولة السودانية من تكرار أخطاء الماضي، بكل…

هل ما زال في السودان متسع للعقلاء؟
قبل أيام، اهتزت ولاية شمال كردفان على وقع حادثة مأساوية باغتيال الناظر سليمان جابر جمعة، زعيم قبيلة المجانين، إلى جانب واحد وعشرين من أعيان وشباب منطقته في المزروب بسقوط طائرة مسيرة. وتبادل على إثرها الاتهامات بين مجلس السيادة والدعم السريع وقوىً سياسية مختلفة. مع العلم أن الكارثة وقعت بعد أسابيع من توترات محلية واشتباكات محدودة بالمنطقة، ومثلت ضربةً موجعةً للإدارة الأهلية التي فقدت أحد أبرز…

مرصد حقوقي: أكثر من 11 ألف قتيل و32 ألف جريح في هجمات الدعم السريع على الفاشر
أعلن مرصد مشاد لحقوق الإنسان أنه وثّق مقتل أكثر من 11,700 مدني وإصابة نحو 32,000 آخرين خلال ما وصفها بـ"المجازر الواسعة" التي شهدتها مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة في تشرين الأول/ أكتوبر 2025.

الخرطوم وكسلا تعلنان فتح المعسكرات لمساندة الجيش في المعارك
أعلنت ولايتا الخرطوم وكسلا تجهيز معسكرات التجنيد لدعم الجيش السوداني في الحرب ضد قوات الدعم السريع، في المعارك الجارية غربي البلاد.

أردوغان: نواصل الجهود لوقف الصراع السوداني ولن نكتفي بالمتابعة
قال أردوغان، في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول: "سنواصل جهودنا الدبلوماسية لضمان السلام والأمن في السودان ولا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري هناك".

غرفة طوارئ: مدينة بابنوسة خالية من السكان تمامًا
قالت غرفة طوارئ بابنوسة بولاية غرب كردفان إن المدينة خالية من السكان بنسبة 100% بعد نزوح قرابة 177 ألف شخص جراء الاشتباكات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ كانون الثاني/يناير 2024.
