16-يناير-2025
محمد فقيري ومحمود المعتصم ومعمر موسى

محمد فقيري، محمود المعتصم، معمر موسى (تصميم الترا سودان)

محمد فقيري: الحرب تعبير عن ضعف الدولة السودانية وبلوغها مرحلة الشيخوخة!

معمر موسى: أتوقع ظهور شكل من أشكال التنظيمات الأمنية المناطقية، وبروز جيوش ولائية وإقليمية سيكون لديها سيادة حقيقية على الأرض والتأثير الأكبر على السلطة والثروة.

محمود المعتصم: المسار الحالي ينتهي في رواندا أو الصومال. وعلينا أن نحفر، عبر الحرية لا سواها، مسارات أخرى.


لم يزل حدث الحرب المشتعلة منذ الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023م يلقي بظلال كثيفة ويثير أسئلة حارقة حول خطاباتها ومواقفها ورهاناتها وأحلافها وآثارها المباشرة على الاجتماع السوداني، الموصوف بالتنوع والمتصل بجغرافيا واسعة تتجاوز حدود الدولة القطرية التي تكونت ضمن سياق تاريخي مضطرب منذ غزو محمد علي باشا في 1821م، فيما يتعدى أكثر من قرنين. ويُنظر للحرب الراهنة على امتداد السودان باعتبارها أهم نازلة تزلزل أركان الدولة، وتعصف بوحدتها واستقلالها وسيادتها وتهدد وجودها بعد أن هزت إمكانات شهودها.

إزاء ما نجتازه من محاص خطير، ومنعرج حرج، وظرف مفصلي دقيق، يستدعي قراءات سابرة وحفرًا معرفيًا في بنية الأحداث والمواقف والرهانات، حمل الترا سودان أسئلته واستفهاماته وألقى بها على رهط من الشباب الفاعل في حقول الفكر والسياسة والمعرفة، للاستئناس بآرائهم ورؤاهم الوازنة

وإزاء ما نجتازه من محاص خطير، ومنعرج حرج، وظرف مفصلي دقيق، يستدعي قراءات سابرة وحفرًا معرفيًا في بنية الأحداث والمواقف والرهانات، حمل الترا سودان أسئلته واستفهاماته وألقى بها على رهط من الشباب الفاعل في حقول الفكر والسياسة والمعرفة، للاستئناس بآرائهم ورؤاهم الوازنة. فكانت خلاصة الحوارية الأولى ما أدلى به الدكتور محمد فقيري، أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي والمختص في قضايا الدولة والفكر السياسي، والأستاذ محمود المعتصم، الأكاديمي والفاعل السياسي والناشط الثوري المشتغل على قضايا الديمقراطية والتنمية، والأستاذ معمر موسى، عضو نداء الوسط ورئيس تيار المستقبل والمشتغل على تحليل أبنية المؤسسات والسياسات من منطلق الاشتباك الجدلي قولًا وفعلًا وممارسة. على أمل أن تسهم هذه الحوارية في التقاط الأبعاد المؤثرة، واكتناه القضايا، ومقاربة الحلول، والوصول إلى خلاصات تعين على الفهم والتأويل والتحليل وبلوغ أفق المعالجة على مستوى النظر وفي مجرى العمل. فإلى مضابط الحوارية الثلاثية.

معنى الحرب ودواعيها وتداعياتها وسردياتها

كيف نمسك بناظم الحرب بعيدًا عن سردياتها؟ كيف نعيد تعريفها بعيدًا عن خطاباتها المحكية هنا وهناك؟ أهي حرب عبثية أم حرب ضرورة؟ أهي صراع بين جنرالين أم انفجار لتناقض بنيوي كثيف في عمق المشهد منذ 1956م؟ ما هي آثارها المباشرة على دولة ما بعد الاستعمار بعد أن أتت على بنيتها وقوضت هياكلها ومؤسساتها؟ هل امتد فعلها إلى ضرب منطق صيرورتها المضطرب منذ 1956م؟ كيف ندرك تأثيرها على الطبقة السياسية والنخب العمومية الموصومة بالإخفاق والفشل؟ هل تُقرأ الحرب ومفاعيلها بوصفها سببًا أم نتيجة؟ أهي تمظهر ضاج لتحلل الدولة وفشل مشروعها الوطني؟ أين تكمن الأزمة: في طبيعة الدولة أم في بنيتها؟ ما هو مستقبل الدولة في أعقاب ثورة وحرب؟

يقول محمد فقيري، أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي: إن الحديث عن الحرب الحالية كصراع بين جنرالين من قبل النخبة السياسية مضحك ومبكٍ معًا، وهو يكشف عن ضحالة التفكير لدى هذه النخبة واستغراقها في التكتيكي والمرحلي. إذ أن حميدتي ليس جنرالًا في المؤسسة العسكرية ولم ينتمِ لها أصلًا، ويقود ميليشيا ذات مكون قبلي تخلقت في ظرف الطغيان السياسي لحكومة عمر البشير. وقد أعلى الأخير من سياسة "فرِّق تسد"، سواء بين المكونات الحزبية السياسية أو القبلية التقليدية.

لذا، فإن هذه الحرب تعبير عن هشاشة الدولة السودانية، أي دولة ما بعد الاستعمار (أو 56 كما يحلو للبعض)، وحميدتي ليس هو من نقض أساسها بل هو مجرد تعبير عن حالة التناقض في بنيتها. فقد ساهمت الإنقاذ أيما مساهمة في تفكيك عُرى دولة ما بعد الاستعمار. فقد سعت وفق رؤيتها الفكرية إلى خلخلة المركزية القابضة التي كانتها الدولة السودانية في نسختها الاستعمارية.

ورغم أن الحركة الإسلامية جاءت بتحالف مع المؤسسة العسكرية، إلا أنها سعت بقوة لتقويض المركز بتبني سياسات في التعليم زادت فيها أعداد المتعلمين، وإن شابها قصور. كذلك حاولت بناء نظام لا مركزي في الحكم يتيح لكل الأطراف في السودان أن تحكم نفسها وتحكم ما شاءت من القوانين بما يعزز الوحدة على قاعدة التراضي. هذه السياسات، وإن لم تبلغ تمامها، عجلت بتقويض بنية الدولة المركزية. وفي ظل غياب مأسسة بديلة تمددت القبيلة وبرزت كلاعب أساسي، وهو ما أتاح للبشير القدرة على المناورة السياسية الواسعة حتى على حزبه الحاكم. فقد أنشأ خطوط تحالف مع الكيانات القبلية واستطاع اللعب على تناقضات البنية الاجتماعية من أجل الانفراد بالحكم، وهو ما أتاح له البقاء في السلطة ثلاثين عامًا، على العكس من جعفر نميري الذي بنى تحالفات نخبوية جعلته فريسة لذات النخبة، يمينها ويسارها. إذن، فقد تجاوز الإسلاميون فكرة حكم الحزب الواحد، كما شاع في الأبيات السياسية في العالم الثالث بعد الاستقلال من الاستعمار، لكنهم تشبثوا كنخبة سياسية بمركزية الدولة ولم يتفطنوا أن بنيتها قد تحللت بأيديهم.

محمد فقيري: الحرب الحالية هي صراع على السلطة، ما في ذلك شك. ليس من قبل المؤسسة العسكرية فهي تظن بنفسها أنها أساس الدولة وقلبها النابض، ولكن من قبل الميليشيا القبلية التي بلغت من النفوذ مبلغًا يمكنها من الانقضاض بتحالفات داخلية وخارجية

يبقى أن الحرب الحالية هي صراع على السلطة، ما في ذلك شك. ليس من قبل المؤسسة العسكرية فهي تظن بنفسها أنها أساس الدولة وقلبها النابض، ولكن من قبل الميليشيا القبلية التي بلغت من النفوذ مبلغًا يمكنها من الانقضاض بتحالفات داخلية وخارجية. وهي ترى في قاعدتها الاجتماعية ضمانة لها في تثبيت سلطانها، خاصة وقد ظهر لها عجز الدولة وهشاشة مكونها السياسي. كما استخفت بالجيش، وقد كانت له رديفًا، وتيقنت أن لا طاقة له بالقتال، وقد فقد ساقيه (الدعم السريع). كذلك أغرى الدعم السريع سهولة العزف على وتر كراهية الإسلام السياسي، بما يفتح له بابًا من الدعم الخارجي الكبير ويجعله يمتطي ثورة ديسمبر التي سعت إلى إسقاط حكم البشير ومشايعيه من الإسلاميين.

عودًا على بدء، فإن الحرب تعبير عن ضعف الدولة السودانية وبلوغها مرحلة الشيخوخة. وهي في ذلك ليست بدعًا، فقد كانت ثورات الربيع العربي بمثابة إعلان وفاة لدولة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية. لكنها رسمت أفقًا جديدًا مقتضاه التدرج في بناء الجديد. بيد أن الردة على الثورة أطلقت سراح العنف وأظهرت هشاشة البنيان، ولم تستطع قوى الردة تقديم بديل موضوعي حتى الآن.

أما معمر موسى، عضو نداء الوسط ومؤسس تيار المستقبل، فيرى أن أيما ظاهرة يتم تعريفها من موقع الانحياز لها، سواء كان انحيازًا طبقيًا، أو أيديولوجيًا، أو سياسيًا، أو معرفيًا، أو حتى إسقاطًا نفسيًا تجريه الذات على الموضوع، فإنها بالضرورة تعكس الانحيازات العرقية التي تشكل إحدى الحجب الكثيفة التي تحول دون النفاذ إلى جوهر الأزمة. عليه، فإنني سأكون أكثر موضوعية وشمولًا وأنا أصوب النظر التحليلي للإمساك بالمعنى الحقيقي للحرب، وسأتجاوز قناعاتي الذاتية ومنظوراتي الأيديولوجية.

الحرب هي تكثيف لعوامل كثيرة، منها ما هو متعلق بالبنية الاجتماعية الموروثة من اللحظة الاستعمارية والممارسات الكولونيالية التي حاولت أن تسيس العرق وتحول القبيلة إلى مؤسسة فاعلة، وبالتالي تعريف السودانيين وفقًا لانتماءاتهم الإثنية والنظر إليهم بوصفهم هويات عرقية متناقضة سياسيًا. هذا الأمر ألقى بظلال كثيفة على التاريخ السياسي والاجتماعي للسودان، لكنه بدت آثاره وثماره في الحرب الراهنة بطريقة أكثر تأكيدًا.

هناك تعريف آخر ينظر للحرب باعتبارها صراعًا سياسيًا بين فرقاء ما بعد ديسمبر، بين الإسلاميين وقوى الحرية والتغيير. ولكن ما يجب الإشارة إليه والوقوف عنده هو النظر إلى الحرب بوصفها نتاجًا مباشرًا للأوضاع الأمنية الهشة التي نتجت عن سقوط حكم البشير. ومن هذه الناحية، تعتبر الحرب صراعًا بين جنرالين يعبران عن قوى عسكرية فاعلة في مسرح الأحداث. أيضًا، يمكن أن يقال إن ثمة تناقضًا اجتماعيًا بين قوى متصارعة على السلطة والنفوذ والاعتبار، تم توظيفها من فاعل إقليمي حاذق أجاد استغلالها، وهو فاعل معروف ويمكن أن نشير إليه بالتعيين بوصفه أحد روافد الإمبريالية الفرعية، وأعني بلا مراء دولة الإمارات.

إذا أردت أن أذهب عميقًا في اكتناه الفاعل الرئيس الذي أشعل الحرب في السودان، فيمكنني الإشارة إلى المنطق الضمني لسياسات العولمة والليبرالية الجديدة. وهي سياسات تنزع في جوهرها إلى تشجيع حالة التمليش العسكري بالضد من الجيوش الوطنية، والميل إلى تجزئة الدول وتفكيكها عوضًا عن صيانة وحدتها واستقلالها وسيادتها. كما تسوق منطق السوق وتعممه على الحالة الوطنية عبر خصخصة قطاع الأمن وتحويل وظيفة الجيوش إلى شركات أمنية. لقد حاولت القوى الغربية أن تستغل واقع التناقضات الأمنية والسياسية والاجتماعية عبر اختراق الدعم السريع وتوظيفه ضمن أدوات مشروعات التجزئة والتفكيك.

معمر موسى: أستطيع أن أقول بملء الفم إن المعركة الراهنة أنهت دولة ما بعد الاستعمار من حيث ضرب قوام الجيش الوطني وقوامته لصالح حالة مليشياتية عامة

بخصوص سؤال أثر الحرب على دولة ما بعد الاستعمار، أستطيع أن أقول بملء الفم إن المعركة الراهنة أنهت دولة ما بعد الاستعمار من حيث ضرب قوام الجيش الوطني وقوامته لصالح حالة مليشياتية عامة. وأنهتها – كذلك – على المستوى السياسي، فلم يعد التناقض المركزي في السودان بين اليسار واليمين أو بين الماركسيين والليبراليين، وإنما صار ذو طابع اجتماعي عرقي قبائلي. وبرزت في ثنايا المشهد قوى محافظة بشكل مسلح، في مقابل تمدد القوى المنسوبة إلى العولمة عبر أنشطة المساعدات الإنسانية وغيرها. كما أنهت الحرب مفهوم السيادة على وقع تمدد وانتشار الدعم السريع على رقعة جغرافية واسعة. وأنهتها من حيث وحدة خدمات الدولة المدنية، كقيام امتحانات الشهادة السودانية الثانوية في مناطق دون أخرى، وكذلك تداول العملة الجديدة في أماكن معينة.

مرة أخرى، تبدو تجليات سقوط دولة ما بعد الاستعمار في نهاية الحالة السياسية، وتناقص مستويات السيادة، ونشوء اقتصادات متباينة، والاضطراب الأمني الواسع. الحرب هنا ليست سببًا، وإنما نتيجة، وفق منظور التصور السياسي والاجتماعي والأمني في السودان منذ الاستقلال. وهي كذلك نتيجة لتحولات ما بعد الربيع العربي باعتبارها ثورات ملونة هددت بقاء الدول. لكنها يمكن أن تتحول إلى سبب حين تصبح الأصل والمصدر الذي نشتق منه تفكيرنا السياسي، حتى في الأدب والفنون وسائر ضروب الثقافة، فتصبح لدينا فنون حرب وموسيقى حرب على غرار وجود اقتصاد حرب.

محمود المعتصم، الأكاديمي والفاعل الثوري، لديه وجهة نظر مختلفة، إذ يقول: "أعتقد أنه يجب أولًا، رغم قسوة ويلات الحرب على شعبنا – وهي قسوة مرة في أفواهنا جميعًا، فالسوداني عزيز، وتحوله لموضوع للعنف يغضبني شخصيًا بصورة مرهقة – أن ننظر إلى المسألة بصورة فيها أقل درجة من التأثر بالعواطف حتى نفهمها كما هي. ونسأل الله الشافي المعافي أن يرفع عن أحبائنا وأهلنا هذا البلاء في أسرع وقت. ولا حول ولا قوة إلا بالله القدير".

ويضيف: لا يمكن فهم الحرب من حيث هي حرب شعواء فقط. فمثل هذه الحرب الشعواء قد يحدث صدفة أو يُفرض عليك من خارج نطاقك بالكلية أحيانًا، مثل حرب يوغندا ضد تنزانيا في 1978، التي كانت حربًا شعواء لكنها، من المنظور التنزاني، كانت حدثًا خارج نطاق فعلهم بالكامل، أي لم يكن لهم بها يد إلا لمامًا، إذ فرضت عليهم من قبل دكتاتور مجنون هو عيدي أمين، يدعمه مجنون آخر هو معمر القذافي. من هذا المنظور، تكون هذه الحرب من منظور التنزانيين مجرد مصيبة، إذ هي ليست من صنع أيديهم. ويبدأ تحليل تاريخهم من سؤال: كيف هو استعدادهم للمصائب الخارجية؟ وهو سؤال مختلف عن سؤالنا نحن حول حرب أبريل. فنحن نتعامل مع ظاهرة محلية بنسبة تقارب الـ100%، في رأيي. لم تُفرض علينا، بل صنعناها. وهذا سؤال يتجاوز سؤال قدرتنا على الحفاظ على أمننا القومي – وهو السؤال الذي أجاب عليه نظام الراحل نيريري في تنزانيا ببراعة – لسؤال آخر بالكلية: لماذا قمنا، بعد مئة عام من انطلاق مشروعنا الوطني في 1924م، بخلق حالة تفكك اجتماعي كامل أدت لتهيئة الظروف لحرب أهلية شاملة كهذه؟

وللإجابة على هذا السؤال، يقول محمود المعتصم، علينا أن نقوم بسياحة تاريخية مختصرة:  كانت ثورة 1924 قد نجحت، رغم قمعها وحشيًا من قبل الإنجليز، في حسم مسألة المشروع الوطني لصالح أنصار الاستقلال (كان هنالك طائفة من الأعيان أرادت بقاء الاستعمار، وهذه هُزمت في 1924). وبالتالي، انطلق المشروع الوطني السوداني بصورة واضحة كمشروع معادٍ للاستعمار، وأدى ذلك إلى بدء ترتيبات الاستقلال في 1953 عبر برلمان منتخب أول. ومنذ تلك اللحظة، في رأيي، لم يتمكن القائمون على المشروع الوطني (النخب) والشعب عمومًا من تكوين رؤية توافقية لنظام الحكم. ولم يكن هنالك تيار له تصور واضح قابل للتنفيذ للمشروع الوطني، اللهم إلا نفرٌ رائدٌ في اليسار السوداني في الحركة الوطنية للتحرر من الاستعمار، حزب "حستو"، الذي تطور للحزب الشيوعي السوداني. وتجد ذلك واضحًا، مثلًا، في مسألة سعيهم لإلغاء التفاوت العنصري في الأجور بين العمال الشماليين والجنوبيين، التي كان الإنجليز قد طبقوها جزافًا، وكذلك في معارضتهم لمحاولة تعريب وأسلمة الجنوب عبر المناهج.

الشاهد هنا ليس تفاصيل فعلهم السياسي، ولكن وضوح أنه كان يحدث تحت مظلة تصور وطني يفكر في المشروع الوطني بشكل كلي، وليس من منظور سياسة "رزق اليوم باليوم" التي كانت تعمل داخلها بقية النخب. لكن هذا التيار اليساري ظل ضعيفًا لحد كبير، ربما حتى تم القضاء عليه في 1971، وذلك لأسباب داخلية وخارجية في التيار، ربما انبرى أستاذنا عبد الله علي إبراهيم لشرحها حتى لم يترك في ذلك شاردة ولا واردة. الشاهد في سياق شرحنا المختصر هو أنه ما عدا هذه القلة، كانت السياسة عبثية لحد كبير. فتجد، مثلًا، أن تكوين الدستور قد تعطل من 1953 إلى قيام انقلاب الفريق عبود في 1959 بسبب خلافات لا نهائية بدون قدرة على المساومة داخل رؤية وطنية جامعة. وتكرر الأمر بعد قيام ثورة أكتوبر 1964، وهذه المرة بصورة أكثر عبثية، فقد كانت الحركة الإسلامية في بداية تكوينها، رفقة قوى يمينية أخرى شديدة الحماسة لفكرة الدولة الإسلامية، التي أدت ليس لحادثة طرد الشيوعيين من البرلمان فقط، بل كذلك لتصعيد نبرة الخلاف مع الجنوبيين الذين رأوا (وهم محقون) في فكرة الدستور الإسلامي تهديدًا مباشرًا لهم، فهم ليسوا مسلمين. وفي خضم الهرج بالديمقراطية، ظهرت العقيدة الانقلابية مرة أخرى في صفوف الجيش، وأنتجت عبر استغلال تناقضات اليمين واليسار نظامًا قمعيًا لفترة طويلة. يقوم بحلحلة المشاكل الوطنية ليس عبر الرؤية الوطنية الجامعة والتفاوض والمساومة الديمقراطية، بل بطريقة "أمسك لي وأقطع ليك"، والتي هي مثل الاستدانة بالربا: حل مؤقت يزيد الأمور سوءًا مستقبلًا. فتم إضعاف الأحزاب السياسية، وعرقلة النقاش العام، وإفساد الفضاء العام بالقهر.

وتكرر التهريج بالديمقراطية، إذ لم تستغل الأحزاب السياسية فترة نميري في بناء مشاريع وطنية والحوار عبرها، بل في المعارضة الإثارية الآنية. وبالتالي، تكرر النظام العسكري القمعي، لكن هذه المرة في شكل يميني. وللأسف، استطال، واستطالت حالة "أمسك لي وأقطع ليك" القمعية، واستفحلت بالتالي المشاكل الوطنية، مثل مسألة الريف، ومسألة الفقر والتنمية، ومسألة العلاقات الخارجية وإضعاف وضع السودان فيها، ومسألة الهجرة، وغيرها. وبالتالي، ترافق الإضعاف والإفقار العام للمجتمع والدولة بسبب الاستبداد وغبائه الهيكلي، مع ظاهرة خلق الميليشيا للدفاع عن الدولة. فلم تقم الميليشيا كجزء من محاولات عبثية لحلحلة المشاكل الأمنية والاجتماعية الريفية فقط، بل قامت كذلك في ظل تدهور قدرة الدولة على التحكم في التدخلات الأجنبية. إن كان الاتحاد الأوروبي أولاً ومسألة "عملية الخرطوم"، أو السعودية والإمارات ومسألة حرب اليمن، أو الفصائل الليبية، أو فاغنر.

محمود المعتصم: هذه الدرجة من التدمير الكامل للمجتمع السوداني سببها هو غياب المشروعات الوطنية التي تريد أن تفهم المشكلة بصورة دقيقة، ثم تقترح لها حلولًا حقيقية، وتناقش هذه الحلول وتتفاوض مع بقية المشروعات الأخرى بصورة رصينة

ما أود قوله هو أن هذه الدرجة من التدمير الكامل للمجتمع السوداني سببها هو غياب المشروعات الوطنية التي تريد أن تفهم المشكلة بصورة دقيقة، ثم تقترح لها حلولًا حقيقية، وتناقش هذه الحلول وتتفاوض مع بقية المشروعات الأخرى بصورة رصينة. (ذلك تعريف الأحزاب السياسية، وبهذا التعريف ربما يمكن القول إنه ليس لدينا أحزاب، بل ناشطون وفاعلون مشاغبون في أغلب الأمر).

على سبيل المثال، ستجد أنه إلى الآن يغيب عن نقاشنا العام أي حديث عن الدستور. فقد توصل الفاعلون السياسيون لقناعة مفادها أن الصراع بينهم هو صراع قوة فج، لا حاجة فيه لتفاصيل المشروعات الوطنية (وتبدأ المشاريع بتصور دستوري بالطبع). وأقول ساخراً إنه لو وجدت الديمقراطية (كمشروع وطني وليس كشعار لطيف) ما وجده مشروع عبثي أخرق مثل "دولة البحر والنهر" من نقاش عام، لكانت نصف مشكلتنا قد حُلت. لكن النشاط السياسي الإثاري اليومي يخدمه الكلام الاعتباطي الصراعي العنصري الآني، ولا تخدمه الديمقراطية كمؤسسة دستورية عتيدة.

يمكن بالطبع الإشارة للتفاصيل: من أطلق الرصاصة الأولى، الدول الإقليمية، الوضع الدولي في ظل انسحاب الولايات المتحدة عسكريًا من الشرق الأوسط وتركيزها على الصين وروسيا، إلخ. وكل تلك تفاصيل مهمة ولها في التسبيب للحرب نصيب. لكن كل ذلك ما كان ليدمرنا بهذا الشكل لو كنا بنينا مشروعًا وطنيًا راسخاً لا يفتح المجال لوجود مئات الآلاف من المقاتلين السودانيين في الريف جاهزين لتصويب جهودهم نحو تدمير البلاد برمتها. هؤلاء مشكلتنا نحن. وسيظلون مشكلتنا ولن تُحل مسألة العنف بلا ترتيب شامل يحتاج لقعدة وتفكير. ولنبدأ بجريدة تتكلم بلسان مشروع الديمقراطية، وسنجد أن لها قراء.

دلالات الصراع بين الجيش وقوته الساندة

وعلى مستوى أعمق، كيف نفهم اشتعال الصراع بين المؤسسة العسكرية وما خرج من رحمها قوةً ساندة لها؟ لماذا لم تقم الحرب مع النقيض العسكري والأيديولوجي في تكوينات سلام جوبا؟ أو حتى في أقصى تفاصيل النقيض منه كحركة الحلو التي انضمت مؤخرًا للصراع؟ لماذا هي حرب بين الجيش ويده الباطشة؟ ولماذا هي داخل المكوّن العسكري الصاعد إلى قمة السلطة ما بعد ديسمبر؟ ما هو دور النخبة السياسية يمينًا ويسارًا وأحزاب تقليدية ومجتمع مدني؟

محمود المعتصم: أعتقد أن القوة التي تشكّلت داخل الجيش هي أكثر قوة من قوات سلام جوبا ولها علاقات خارجية. وبعد الثورة، تجذّر وضعها العسكري والاقتصادي. ووصول الأمر إلى قوتين متقاربتين في العتاد يؤدي منطقيًا إلى زيادة احتمالية الصدام. يجب كذلك إعطاء حميدتي حقه من الثناء؛ فهو بنى هذه القوة خطوة بخطوة حتى وصلت للوضع الحالي. وكنت كلما عاب عليه مهرجو النخبة السودانية أنه "راعي إبل"، فكرت أن من يدير مؤسسة بالغة التعقيد مثله لعقدين يستحق في عرف الغربيين ليس الدرجة الجامعية فقط، بل تقديم محاضرات عن تجربته. ولا حاجة له للشهادة، فهو حقق الهدف من الشهادة نفسها. إلا أننا أمام نخب معاقة ذهنيًا. هذا غير أن رعي الإبل هو محمدة في رأيي، فأنا معجب هنا في الولايات المتحدة مثلًا برعاة البقر والخيول، وهم شديدو الاعتداد بأنفسهم ولا ريب. كيف تحوّل المحاسب أو الصيدلي بمهنهم المملة إلى ذمّ مهنة بديعة كرعي الإبل؟ لا أدري.

المهم، بالعودة لسؤالك، فلماذا بعد ديسمبر؟ السبب أن ديسمبر أضعفت الدولة بإنهاء نظام حكمها المستبد، وتلك رجة قوية بطبيعة الحال، ولم تتمكن من خلق نظام بديل له قابل للاستمرار. دور النخبة كبير، وليس نخبة الصف الأول فقط، بل الثاني والثالث أيضًا. (حاولت في بداية الحرب إيصال رسالة لنخب الصف الثاني والثالث أنها مؤهلة للترقي درجة إن أحسنت إدارة الأزمة، لكن استمر كل لاعب في التقوقع في كهفه كالعادة، وبالتالي بقيت نخب الصف الأول في مكانها). على سبيل المثال، كانت النخب الديسمبرية قد وعدتنا بمؤسسة اسمها النقابة. وكنت، على سبيل المثال، شاهدًا على تكاسل هذه النخب في خلق نقابة الأطباء حتى وصلت حرفيًا بعد فوات الأوان، ووصلت ضعيفة.

لجان الأحياء تحولت من مجال تنظيمي اجتماعي قاعدي إلى مجموعات من الثوريين تستثني بالتعريف أغلب سكان الأحياء غير الراغبين في التظاهر الدائم. لم تُقم ولا عملية انتخابية واحدة (لا أقول قومية فهذه رفضتها النخبة وهربت منها هروب السليم من الأجرب، وقلنا لا مشكلة، لكن لماذا لم تُقم أي انتخابات محلية أو ولائية؟). حتى لجنة إزالة التمكين جاءت بلا نظام استئناف، فأصبحت حالة هزلية شعبوية. لماذا حدث هذا؟ لأنه لم يكن هنالك تصور لمشروع وطني يعي أنه بحاجة لهياكل اجتماعية ليقف عليها. فالنقابة ليست فقط يافطة تستعملها لإسقاط الإنقاذ، بل هي كذلك هيكل اجتماعي تنسجه مع غيره من الهياكل بحيث تمكن المجتمع من التنسيق والتفاوض وخلق نظام سياسي قابل للاستدامة.

محمود المعتصم: ربما عادى الإسلاميون الثورة بصورة إثارية منفعلة، أو دينية أصولية لم يفكروا فيها كثيرًا، فأضعفوا الدولة بصورة أكبر، وفي غير مصلحتهم، وفي غير مصلحة الوطن

على الصعيد الآخر، ربما عادى الإسلاميون الثورة بصورة إثارية منفعلة، أو دينية أصولية لم يفكروا فيها كثيرًا، فأضعفوا الدولة بصورة أكبر، وفي غير مصلحتهم، وفي غير مصلحة الوطن. وليست ثمة دلائل تشير إلى أي تحسن. دعني أحكي لك قصة شخصية، فيبدو أن هذه الحرب بعنفها قد دفعت الناس للكفر بصورة أكبر بالتفكير وبفكرة المشروع الوطني المبدئي، وربما قربتهم وجدانيًا من فكرة بائسة غير ممكنة هي فكرة المستبد العادل الذي يرى الكل "الضو طفّاه"، ومن ثم بغم يسكت الكل ونستريح.

تكلمت مؤخرًا مع صديق تزاملنا في إطار العمل على خلق المؤسسات القاعدية لأطباء المهجر، وكان شديد التمسك بعبارات مثل "أهداف ثورة ديسمبر" في الماضي. تكلمت معه مؤخرًا حول تكوين تنظيم مجتمع مدني معني بمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان والعمل على دفع التحول الديمقراطي، فوجدته قد كفر بكل ذلك وقال لي إننا يجب أن نعمل على تدريب الأطباء وكفى. فيبدو أن العقل السوداني ما يزال لم ير العلاقة بين الاستبداد وغياب العدل وغياب المشروع الوطني وقتل هؤلاء الأطباء وتهجيرهم. فمن سندرب إن كان الوطن قد استحال إلى محرقة مثل الصومال والكونغو وليبيا وسوريا؟

معمر موسى: نشأت الحرب بين فرقاء الهامش والمركز السوداني منذ أنانيا 1 والحركات الشعبية وتكويناتها، وليس انتهاء بحركات دارفور وما تبقى منها. الاختلاف كامن في أن قوات الدعم السريع امتلكت قوة هائلة وعتادًا عسكريًا ضخمًا، وتوافرت له قوة اجتماعية حاضنة بشكل واضح وراديكالي، فضلًا عن انحياز عدد مقدر من منسوبي الحركة الإسلامية ممن عملوا في الدولة وخبروا دروبها. تُقرأ هذه الأمور في سياق علاقات الدعم السريع الإقليمية الموصولة بالعلاقات الدولية ومقدراته الاقتصادية. وهناك بعد ذاتي متعلق بطموح حميدتي وتلاقيه مع مخاوف قوى الحرية والتغيير، وتلاقيه كذلك مع مطامع القوى الإقليمية والعالمية التي وطّد صلاته معها منذ اشتراكه في مشروع مكافحة الهجرة الذي رعته مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ومشاركته كذلك في عاصفة الحزم.

محمد فقيري: النخبة السياسية التي برزت بعد مؤتمر الخريجين كانت مشغولة بالبحث عن امتيازات السلطة، وليس التفكير فيها لأجل بناء وطني يجد السودانيون أنفسهم فيه. وقد عاش السودان تناقضًا حتى في ممارسته للديمقراطية، فالأحزاب الطائفية لم تكن تحقق شرط الديمقراطية، إذ تحتكر أصوات منسوبيها لزعيم الطائفة الذي يوزعها وفق مشيئته. تحالف بعض أفندية مؤتمر الخريجين مع هذه الأحزاب لأجل بلوغ السلطة، وسارع البعض الآخر إلى التحالف مع الجيش باعتباره مؤسسة حديثة لأجل المسارعة في التحديث، لكنهم تورطوا في أفنديتهم، وحاصرتهم رغبتهم في تأكيد امتيازاتهم كنخبة خُلقت لتحكم. وجاء في الآخرة منهم الإسلاميون في ما عرف بنظام الإنقاذ الوطني.

خطاب المعركة ومعركة الخطاب

وبخصوص التصورات الرؤيوية حول خطاب المعركة ومعركة الخطاب ما بين الأفق المنشود والأفق الممكن، ما بين إنهاء وتفكيك هيمنة النخبة النيلية وفق سردية التهميش التي امتطتها قوات الدعم السريع وأنصارها، وما بين ما أطلقته القوى المدنية المطالبة بعقد تسوية على شروط استئناف أو الاستدراك على الاتفاق الإطاري، وما بين موقف قطاع عريض بضرورة القضاء على التمرد بالحسم العسكري... كيف نقيّم المواقف الموزعة ما بين "لازم تقيف" و"بل بس" و"الطقع يكون نضيف"؟

معمر موسى: أرى أن استعمال مفردة "تمرد" لم يعد مجديًا، لأنها تنطوي على اعتراف بشرعية ما على "عصابة" الدعم السريع، وأعتقد أن ما تقوم به "الدولة" هو نوع من إنفاذ القانون ضد عصابات إجرام منظم تستهدف الممتلكات العامة والخاصة، فضلًا عن الترويع والإرهاب وما لا يقع حصره ووصفه من العنف بكافة أشكاله وصنوفه.

معمر موسى: المليشيا لا تمتلك مشروعًا على أي مستوى كان: فكري أو سياسي أو اجتماعي. هي ليست أكثر من بيدق أوكل إليه تنفيذ مهام كبيرة في السودان، واستعانت بإنتلجنسيا "رثة" حاولت أن تصوغ خطابًا متعجلًا بأخلاط متناثرة من مشروعات فكرية مختلفة

 أما استعارة الخطابات، سواء كانت مستندة إلى التحليل الثقافي أو التهميش وتوظيفه في سياق سردية المليشيا وأعوانها، فهي كلمة حق أريد بها باطل. المليشيا لا تمتلك مشروعًا على أي مستوى كان: فكري أو سياسي أو اجتماعي. هي ليست أكثر من بيدق أوكل إليه تنفيذ مهام كبيرة في السودان، واستعانت بإنتلجنسيا "رثة" حاولت أن تصوغ خطابًا متعجلًا بأخلاط متناثرة من مشروعات فكرية مختلفة، فأنتجت هذا المستوى من خطاب المعركة الذي لا يفي بالشروط المنطقية لمعركة الخطاب.

محمود المعتصم: الكلام المناطقي المتطرف عن المشكلة السودانية هو بلا قيمة. فكل ما ذكرته في الأعلى كان سيحدث في كل منطقة على حدة إن كنا منفصلين مسبقًا. بل ويتوقع المرء من العنصريين القائمين على هذا الخطاب أن يكونوا أكثر سوءًا لشعوبهم من نخبتنا السودانية التي لخصنا حصادها في الأعلى. لكن في نفس الوقت يجب التفكير في التهميش والعدالة وتوزيع الثروة، ليس من على سرج التفرقة العنصرية، بل بوصفها مسألة وطنية تهمنا جميعًا. وتبدأ الثقة في مثل هذا التفكير غير الجهوي عندما يملك كل منا حظًا من التأثير السياسي مساويًا للآخر، ونعني الديمقراطية. أما في ظل الشمولية والخمش بالقوة والمعاملة كيفما كان، فبالتأكيد سيرتاب كل منا من الآخر. نحتاج إلى مساومة عامة ناتجة عن تفاوض يقوده مثقفون مؤهلون في الصحف والندوات والميديا، ثم ممثلون منتخبون من قبل شعوبهم.

 مساومة مناطقية سودانية تؤسس لثقة واحدنا بالآخر بعد حروبنا الطويلة. أذكر هنا مساومة "كونيتيكت" المعروفة بين الأميركيين في القرن الثامن عشر التي رتبت لعلاقة المناطق ببعضها رغم تعقيد اختلاف الكثافات السكانية ومسألة البحر والضرائب على البضائع. نحتاج مثل هذه المساومات، ليس مع لوردات حرب ومتسلقين سياسيين كما حدث بعد ثورة ديسمبر، بل عبر أناس منتخبين من قبل أهلهم، ويسبق ذلك نقاش ثقافي رصين وصادق. لقد قتلنا بعضنا البعض بما فيه الكفاية. حان الوقت لأن نتكلم.

محمود المعتصم: قوات الدعم السريع تجاوزت في منطقها على الأرض الحرب إلى الإرهاب والتطهير العرقي والتمادي في جرائم الحرب، فتحولت بذلك، في رأيي، لجماعة إرهابية لا يجب التفاوض معها وإلا هددنا أنفسنا بعنف منفلت اللجام سيطول

فيما يخص الحرب الحالية، فهنالك مسألة يجب الوقوف عندها، وهي أن قوات الدعم السريع تجاوزت في منطقها على الأرض الحرب إلى الإرهاب والتطهير العرقي والتمادي في جرائم الحرب، فتحولت بذلك، في رأيي، لجماعة إرهابية لا يجب التفاوض معها وإلا هددنا أنفسنا بعنف منفلت اللجام سيطول. فهذه العصابات يجب هزيمتها عسكريًا رغم التكلفة الباهظة والبدء من تلك النقطة. ولكن ما يغفل عنه البعض أحيانًا أن الحروب هي كذلك سوح للعمل السياسي التأسيسي. فأنت لا تحارب مثل الدعم السريع بكتائب "البراء بن مالك" إلا إن أفلست. فليس الدعم السريع تنظيمًا معاديًا للدين حتى تواجهه بكتائب إسلامية، بل هم مسلمون أصبحوا جزءًا من مشكلة وطنية، وتواجههم في مستوى المسألة. وددت لو بدأنا في المناطق الآمنة في استعادة مؤسساتنا الاجتماعية، ليس في شكل بيروقراطية الدولة فقط، بل في شكل حق الناس في التنظيم والتعبير والبدء في التفاوض في مستقبلهم أصالة عن أنفسهم.

وتنبؤك قدرة شخص ضالع في تقوية الدعم السريع، والتفاوض مع "إسرائيل"، وغيرها من دلائل ضعف التفكير والفساد وعدم المصداقية، مثل البرهان، تنبؤك بقدرة شخص مثله على الاستمرار في قيادة جيشنا عن حقيقة أننا، كأمة، فقدنا الفعالية السياسية فيما يخصنا. ومثل هذا التوجه نحو السعي للاستقرار في القاع، وعسكرة الحياة برمتها بحجة أن ذلك ضرورة من ضرورات الحرب، سيحول الجيش تدريجيًا بالفعل إلى ميليشيا. بينما بتحريك طاقات المجتمع السوداني الحر أثناء الحرب، تحسم هذه الحرب بصورة أسرع.

أتمنى أن يلاحظ القارئ أن "كنكشة" البرهان، وهو "فاسد غير مؤهل لأن يكون خفيرًا"، دع عنك قائد جيش في حرب تحرير مصيرية - أتمنى أن يلاحظ أن كنكشة البرهان ومجموعته على مقاليد الحكم لم تتوقف عند كونه قائدًا للجيش فقط، بل تعدتها لتحرم الناس حتى من حكومة قومية تدير شأنهم. ووجدت القوى السياسية الموالية للبرهان في حال من الرضوخ بفكرة أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". و(أها، المعركة استمرت سنتين، حنسمع صوتكم متين يعني؟) قصار قامة وروح صعدوا لتولي مسألة الشعب.

احتمالات التفكك وبروز المنطق المناطقي

أنتجت الحرب واقعًا شديد التعقيد فيما يتعلق بإرهاصات تفتت الدولة وتفكك أبنيتها ونشوء أكثر من سلطة في جغرافيا الصراع، في مقابل بروز انقسامات حادة في الاجتماع السوداني وظهور النعرات الإثنية والمنطق المناطقي وخطاب الهامش والمركز. هل تحمل الحرب إرهاصًا بانقسام جديد أم هي الفوضى؟ أم ماذا؟ هل تمضي إلى عسكرة المجال العمومي أم العودة إلى منصة الانتقال؟

محمد فقيري: لن يكون انقسام السودان من جديد أمرًا هينًا، وذلك لاعتبارات عدة، من أهمها تعقد المشهد الاجتماعي نفسه

محمد فقيري: لن يكون انقسام السودان من جديد أمرًا هينًا، وذلك لاعتبارات عدة، من أهمها تعقد المشهد الاجتماعي نفسه. فدارفور مثلًا هي خليط من مجموعات إثنية يصعب أن تنقاد بالعنف وحده من قبل إثنية بعينها، وكذلك المشهد في معظم أرجاء السودان. وهو ما يعزز عندي إمكانية التأسيس على قاعدة التراضي، إذ إن أهم ما كشفته الحرب هو عدم قدرة المؤسسة العسكرية، حتى وإن ظاهرتها قوى سياسية، على ضبط بوصلة الاجتماع السوداني بالقوة المحضة. فقد حمل السودانيون السلاح جنبًا إلى جنب مع المؤسسة العسكرية. لكن المخوف هنا هو تغليب التكتيك من قبل النخبة، عسكرية كانت أو مدنية، إذ حينها سيتسع الفتق على الرتق.

معمر موسى: ستحدث محاولة لإعادة هندسة المشهد، وستسعى كل دائرة لممارسة ضغوطات هائلة بغرض فرض رؤيتها حول إعادة بناء الواقع وفق تصوراتها ورهاناتها. وبحسب تحليلي، استنادًا إلى نماذج ومقاربات ومنهج مقارن عبر تجارب وخبرات مختلفة، سيظل الاجتماع السوداني متماسكًا على المستوى المشهدي مع إعادة تموضع الناس ضمن ممارساتهم وخياراتهم. فلن يفكروا مرة أخرى من خلال منظومات سياسية ذات طابع حداثي، ولن ينظموا أنفسهم وفق التنظيمات الحزبية. خلاف ذلك، سيعيدون تنظيم أنفسهم وفقًا لتحديدات عرقية ذات منزع مناطقي. هذا على مستوى القوى المحافظة. أما القوى الحديثة فستظل فاعلة بأدوات المجتمع المدني وعبر أدوات العمل السياسي على نحو سطحي. أما على مستوى حدوث انفصالات بصورة كاملة، فهو في ظني متعذر بسبب انعدام الإمكانات وارتفاع التكلفة، وأن مستوى التفتت بلغ مرحلة دقيقة.

أتوقع ظهور شكل من أشكال التنظيمات الأمنية المناطقية، شيء يشبه "ناشونال قارد" في أميركا. بروز جيوش ولائية وإقليمية سيكون لديها سيادة حقيقية على الأرض والتأثير الأكبر على السلطة والثروة. وسيكون هناك شكل مركزي شبيه بالفيدرالية الإثنية المطبقة في إثيوبيا أو نموذج التقسيمات الطائفية في لبنان ما بعد اتفاق الطائف.

محمود المعتصم: بناءً على ما قلته في الأعلى، كل ذلك حله بسيط: مؤتمرات قاعدية في المناطق الآمنة وحكومات توافقية منتخبة. وحرية رأي وتعبير ونقاش عام مفتوح في مسائلنا العامة في وضح النهار. باختصار: مفهوم المواطن، الذي له حقوق وواجبات، وبلا وصاية. وصلنا عبر القمع والحلول الأمنية والإسكات، والعنف، إلى حال من التفكك والكراهية واليأس. ألم يحن وقت تجريب طريق آخر؟ سأعطيك مثالًا: مسألة الانفصال أو "حق تقرير المصير". إذا سألت القائمين على أمرنا، تجدهم يتعاملون معها أمنيًا: منع الحديث عنها، التعامل مع أنصارها كخونة، إلخ. لكن ما لن تجده منهم هو أي نقاش مفصل لها كظاهرة اجتماعية تاريخية. وستجد نفس هذه الجهات المتشنجة العنيفة الأمنية تقبل، بعد حدوث الانفصال، به بلا كثير تدبر ولا اهتمام، كأنه حدث طبيعي. حدث معنا ذلك مع الجنوب: حارب جيشنا وخسرنا أبناءً وأموالًا لا تُحصى، خمسون عامًا، ثم حدث الانفصال الذي حُرِم علينا التفاوض الديمقراطي أو النقاش الحر حوله. وبعد حدوثه، عاد كل بيروقراطي إلى مكتبه بلا أقل اهتمام. بل قال بعضهم: "طَلَع الانفصال أفضل". ولم نناقش حتى الآن المسألة في أصلها: ما هو حق تقرير المصير؟ ما هو موقفنا منه؟ ولماذا؟ بحيث عادت كل هذه الأسئلة كما هي، وعدنا للحلول الأمنية أو المفاوضات الفوقية التي تستثني الشعب.

الشعوب تنفصل أحيانًا، ألا يمكننا النقاش حول هذه المسألة بلا تشنج وبصورة مفتوحة وحرة؟ أقول إن ذلك هو الطريق الوحيد للوحدة بين المجتمعات السودانية، أن تجد نفسها تتفاوض وتتكلم مع بعضها البعض كفاحًا، وليس عبر الدولة الشمولية أو لوردات الحرب قادة العصابات الذين ليس لهم أي شرعية ديمقراطية تجاه شعوبهم.

أقول مرة أخرى: نحتاج إلى مشروع وطني ديمقراطي يقبل بقرارات الناس في شؤونهم، ونبقى معًا كسودانيين طواعية. المسألة ليست مسألة نخبوية، بل قاعدية يجب أن تُحل داخل مبادئ صادقة تحترم الناس. السوداني مواطن وليس رعية. هذا الأمر لم تفهمه الدولة الاستعمارية بعد.

مشروعات التسوية وأفق المعالجة الممكنة

 بموازاة الفعل العسكري في محاور القتال، تنشط محاولات لتسوية الصراع انطلاقًا من منظورات مختلفة وضمن شروط وأسس مقبولة لطرف ومرفوضة عند طرف آخر. كيف نرى أفق المعالجة الممكنة في خضم سيل المبادرات الإقليمية والدولية، من لدن منبر جدة وحتى المبادرة التركية الأخيرة؟

محمد فقيري: التسوية السياسية لا ينبغي لها أن تكون وفق شروط نخبوية كما هو الحال فيما عُرِف بالاتفاق الإطاري. فالسودان ليس وقفًا على مجموعتين سياسيتين (قوى الحرية والتغيير، الإسلاميون)، بل ينبغي توسيع دائرة التسوية لتشمل مكونات المجتمع المختلفة. عندها فقط يمكننا أن نتحدث عن مشروع وطني حقيقي. وهنا يمكن للقيادة العسكرية أن تستثمر التفاف الجماهير حولها في أن تبادر هي بالمشروع. وهي بذلك تستطيع أن تقاوم الضغوطات الخارجية متى جاءت لتعزز اتجاهًا بعينه لا يخدم مصلحة المجموع السوداني. وفي ظني، التسوية المرجوة ينبغي لها أن تنطلق منذ الآن لتعجل بالسلام، وتضع خاتمة للحرب، تجنب السودانيين مزيد البلاء، وترسم ملامح الجديد المتراضي عليه. هذا متى توفرت الإرادة وصح العزم.

محمود المعتصم: ربما بات واضحًا، بعد استفحال أمرنا، والأغراب يخوضون فيه لساقيهم، أنه آن الأوان للتركيز على أن الحل للمشكلة السودانية هو سوداني خالص. أقول حتى بصورة شخصية: أقترح مثلًا أن نكتب كمثقفين وسياسيين ميثاقًا يحرم على أحدنا الظهور في أي وسيلة إعلام غير سودانية، لا جزيرة ولا عربية ولا سي إن إن. لا قبول لتبرعات غير تبرعات السودانيين، لا نشر إلا عبر دار أو صحيفة سودانية، وهكذا.. حتى لا نفتح باب الإقليم والدول العظمى الذي هو قاع بلا قرار وسيقضي علينا كأمة، كما قضى على الصومال والكونغو وسوريا وليبيا. ما يسمى بـ"الجيوسياسة" هي في الحقيقة حالة متطرفة من البلطجة بالقوة والسياسة المبنية على غياب أي مبدأ إلا ما يسمى بـ"المصلحة"، معرفة بأكثر طريقة مادية فجّة مقرفة. هذا الباب يجب إغلاقه ونبدأ بأنفسنا كمثقفين وفاعلين، ولنا قدرة كبيرة على فرض شرط أخلاقي عام إن أحسنا التمسك بهذه الفضيلة.

محمود المعتصم: يبدأ حل مشكلتنا بتأسيس مبادئنا فيمن نكره، وفيما نكره، وليس فيمن نحب وفيما نحب. كل من آلمته هذه الحرب عليه أن يبدأ بالشدة على نفسه

الأمر الآخر هو إغلاق باب الاستبداد الروحي. قرأت كثيرًا مؤخرًا عن رغبات عابرة لقمع "القحاتة" حال انتهاء الحرب. وأعتقد مثل غيري من السودانيين في "تفاهة القحاتة" وربما خيانتهم للوطن. لكني لا أجامل نفسي بالقبول بقمعهم. وإن قبلت ذلك، أصبحت جزءًا من مشكلتنا التاريخية. وفشيت غبينة مؤقتة تافهة وضيعنا وطنًا.

يبدأ حل مشكلتنا بتأسيس مبادئنا فيمن نكره، وفيما نكره، وليس فيمن نحب وفيما نحب. كل من آلمته هذه الحرب عليه أن يبدأ بالشدة على نفسه. يتأسس الحل على مبادئ الديمقراطية، حرية المعتقد والتعبير، وحرية التنظيم، واستعمال هذه المبادئ لبناء مؤسسات السودانيين الاجتماعية داخل وخارج الدولة (ونبدأ من خارجها). التفاوض السوداني - السوداني في كل المسائل المصيرية بلا وصاية من نخب غير منتخبة، والوصول لمساومات عديدة وكبيرة وتنازلات. نحن لن نبني هذا البيت وكل منا ممسك بزناد رغباته المتطرفة. المسار الحالي ينتهي في رواندا أو الصومال. علينا أن نحفر عبر الحرية، لا سواها، مسارات أخرى.