"حين تخطر على بالي مدينة ود مدني يقفز إلى ذهني ذلك الحراك الثقافي الشعبي الكبير الذي لمسته منذ سنوات مراهقتي وصباي الباكرة، الطريق إلى المجمع الثقافي الذي يربض في شارع النيل، معرض الكتاب المستعمل المستمر الذي اتخذ من حديقة وقيع الله مقرًا دائمًا له؛ واتخذه مثقفو مدني وكُتابها مكانًا للتجمع وإقامة الندوات الأدبية.. شجرة المعرفة التي هي في الأصل شجرة لبخ عريقة ضاربة بجذورها عميقًا في الأرض، كحال الثقافة والأدب في أرض المدينة".
في بوابة الدخول تستقبلك لافتة كتب عليها أهل مدني: عاصمة الثقافة والجمال
يتداعى الكاتب والروائي والشاعر، عبدالرحيم حمدالنيل، وهو يتذكر "أيام ود مدني"، المدينة التي شغلت الناس خلال الأيام الماضية بعد تمكن الجيش من استعادتها عقب سيطرة للدعم السريع استمرت أكثر من عام.
ود مدني.. عصامة الثقافة والجمال
في بوابة الدخول إلى المدينة، تستقبلك لافتة كتب عليها أهل مدني: (عاصمة الثقافة والجمال). هذا جانب آخر عن المدينة، بعيدًا عن المعارك والمواجهات الدامية، والحرب اللعينة التي تدور في السودان منذ العام 2023، وتكاد تقضي عليه وعلى أهله.
عن ود مدني، مدينة الفنون والآداب، يقول الناقد الدرامي، والإعلامي السر السيد: "هناك مدن سودانية كثيرة وجدت نوعًا من الترميز، إذ تطلق عليها بعض الأسماء المختزلة التي تحمل دلالات كثيرة، في أحيان تُطلب من أهل المدينة، أو يطلبها شخص بعينه، لكنها في النهاية تسود. مثلًا الأبيض (عروس الرمال)، وعطبرة (مدينة النضال)، وأمدرمان (الحضارة)، أما ود مدني فدائمًا يقال (مدني الثقافة).
يواصل عبدالرحيم حمدالنيل تداعيه عن ود مدني، ويقول لـ"الترا سودان" "شجرة اللبخ تلك كان يجلس تحتها القاص الكبير محمد عزالدين - رحمه الله، ويتجمع عندها لفيف من أهل الإبداع يتداولون الكُتب والمجلات والنقاشات، من لدن الشاعر الراحل الكبير محمد محيي الدين صاحب (الرحيل على صوت فاطمة)، و(عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر)، التي كتبت لتخليد ذكرى أحد فناني ومناضلي مدني طه يوسف عبيد، الذي قضى برصاص نظام أيار/مايو 1982 في تظاهرة خرجت ضده قبيل الانتفاضة الشعبية التي أطاحت به في 1985".
ويتابع حمد النيل "كما تضم – الشجرة المدينة - القاص مبارك الصادق، والناقد خليفة النوحي، والشاعر صالح علي صالح، والراحل يوسف تاج الدين، والكاتب والناقد جابر حسين وغيرهم، وظل المنتدى الأدبي – عند الشجرة - مستمرًا ومتواصلًا لـ(رابطة الجزيرة للآداب والفنون)، في يوم محدد من أيام الأسبوع داخل الحديقة نفسها".
يواصل السر السيد في حديثه عن المدن السودانية، وترميزاتها الإحالية، ويفيد "الترا سودان" بقوله: "بالنظر إلى تاريخ المدن السودانية من موقع الثقافة تجد مدينة ود مدني فعلًا مكانها في السياق الثقافي، لكن أكثر ما يميزها القول إنها كانت وراء تكوين مؤتمر الخريجين، المؤتمر المعروف والمؤثر في نيل السودان لاستقلاله".
أسماء كبيرة تنتمي للمدينة أثرت ثقافيًا على مستوى البلاد عامة، مثلًا الفنان محمد الأمين مؤدي الأغنية الشهيرة (مالو أعياه النضال بدني.. روحي ليه مشتهيه ود مدني)
ويتابع السر السيد: "كما عرفت مدني ثقافيًا بـ(رابطة الجزيرة للآداب والفنون)، وهناك أسماء كبيرة تنتمي للمدينة أثرت ثقافيًا على مستوى البلاد عامة، مثلًا الفنان محمد الأمين مؤدي الأغنية الشهيرة (مالو أعياه النضال بدني.. روحي ليه مشتهيه ود مدني)، والفنان أبو عركي البخيت، فهما من مدني، وفي الشعر نجد الشاعر محمد محيي الدين، والقاص أحمد الفضل، والناقد المعروف مجذوب عيدروس".
مؤتمر الخريجين
وعن تكون مؤتمر الخريجين وتأسيسه في مدينة ود مدني، وهو المؤتمر الذي أسهم في نيل السودان لاستقلاله في العام 1956، يقول حمدالنيل "ظلت مدني موئلاً للمصادفات الأدبية والشعرية منذ ما قبل تكون الدولة الحديثة بشكلها المعاصر، فقد تفتقت فكرة مؤتمر الخريجين منها؛ بدأت فكرة المؤتمر على المسرح السياسي نتيجة لنشاط المثقفين السودانيين في المجالات الثقافية والاجتماعية، وقد بدأت الدعوة لتجمع الخريجين في مقال لخضر حمد في جريدة السودان عام 1935م، ثم أبرز الفكرة ونادى بها أحمد خير المحامي، ابن مدينة ود مدني، في محاضرة له في نادي الخريجين بود مدني في عام 1937م".
ويضيف حمد النيل: "نشرت مجلة الفجر المحاضرة وعرضت الفكرة على لجنة نادى الخريجين بأم درمان برئاسة إسماعيل الأزهري -أول رئيس وزراء بعد استقلال السودان- الذي لم يتحمس لها في بادئ الأمر، ثم عقدت المؤتمرات والندوات في كل مكان من أم درمان وبورتسودان وود مدني؛ وبعد مجهودات عدة وافقت الحكومة على قيام المؤتمر، وأصدر السكرتير الإداري منشورًا داعيًا له".
ويؤكد حمدالنيل أن نادي الخريجين في ود مدني لا يزال يشهد عديد الفعاليات الثقافية والاجتماعية، كان آخرها معرض للكتاب قبيل حرب 15 أبريل بأيام.
وفي تحليله لموقع ود مدني الثقافي، يقول الناقد السر السيد "من المحتمل أن موقع مدينة ود مدني وتركيبتها السكانية أسهم في ذلك، فهي خليط من سحنات مختلفة، من بينها جاليات أجنبية، وأعتقد أن هذا منح المدينة ميزة التمازج الثقافي، كما أنها كانت قريبة جدًا من موقع رئيسي لمسألة التنمية في السودان وهو مشروع الجزيرة الزراعي، ما أضاف أبعادًا أيضًا في التنوع السكاني".
ويضيف "التنوع السكاني، والتمازج بين مختلف السحنات، بلا شك له دور كبير في الازدهار الثقافي، لأنه يؤشر على أنه سيكون هناك تنوع في التعبيرات الثقافية".
ويتابع السر السيد: "مدينة ومد مدني من المنظور الثقافي تحتل موقعًا مميزًا جدًا، فإطلاق لقب أو مسمى عاصمة الثقافة عليها لم يأتِ اعتباطًا، فالمدينة تعج بالرموز الثقافية السابق ذكر بعضها، كما أنها شكلت، كما ذكرت، حالة فريدة في التمازج بين المكونات السودانية، وحتى الأجنبية".
ظلت ود مدني ترفد الحركة الثقافية والإبداعية في السودان بالمبادرات والكُتاب والفعاليات المختلفة، في شتى ضروب المعرفة والفن
ظلت ود مدني ترفد الحركة الثقافية والإبداعية في السودان بالمبادرات والكُتاب والفعاليات المختلفة، في شتى ضروب المعرفة والفن. نعم، تورطت "مدينة الثقافة" في الحرب الدائرة الآن، ونالت منها الجراح ما نالت، وأسمى ما نتمناه الآن هو أن تتعافى، وأن يكون تعافيها مدخلًا لتعافي البلاد بأكملها.