31-ديسمبر-2024
جبل توتيل ليلًا

جبل توتيل ليلًا (الترا سودان)

تُعَدُّ سلسلة جبال التاكا من أبرز المعالم الطبيعية في ولاية كسلا بشرق السودان، حيث تحتضن مدينة كسلا وتلتف حولها، مما يضفي على المدينة جمالًا فريدًا. تتميز هذه الجبال بقممها المستديرة وصخورها الملساء، التي تبدو كأنها تحاكي "قطاطي" المدينة والمباني التقليدية مثل ضريح الختمية المتاخم، والذي يُعَدُّ معلمًا رئيسيًا في المنطقة، وأهم المباني الأثرية في سفح جبل توتيل.

في كسلا، تعد سلسلة جبال التاكا أهم وجهة سياحية، ومصدر فخر لأبناء الولاية

في كسلا، تعد سلسلة جبال التاكا أهم وجهة سياحية، ومصدر فخر لأبناء الولاية. تحوي السلسلة عديد الجبال، مثل موسى وطارق وأويتلا ومكرام وغيرها من القمم التي تحيط بمدينة كسلا، ولكن توتيل هو الوجهة المفضلة للزوار. يقع جبل توتيل في الختمية القديمة، أقصى شرق كسلا، حيث يتوافد السكان والسياح في الأمسيات للاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة والهواء الطلق، مشرفين على المدينة من سفوح توتيل، يتأملون الغروب وهم يرتشفون القهوة بالزنجبيل على أنغام موسيقى البجا والبني عامر والحقيبة الشعبية، في مزيج سوداني ساحر تمثله مدينة كسلا وولايات شرق السودان بتنوعها الغني.

أعلى القمم في جبال التاكا تبلغ 851 مترًا فوق سطح البحر، وهي من الجبال الملساء ذات الصخور الضخمة والمرتفعات الجبلية التي تحمل مسميات تعكس تاريخ المنطقة وثقافتها الغنية، وفي مناطق ساحرة، تتلاقى هذه الجبال مع نهر القاش الموسمي، لتشكل صورة طبيعية بهية تروح عن أنفس الزوار.

نبع توتيل

في جبل توتيل ضمن سلسلة جبال التاكا، يُعَدُّ نبع توتيل، الذي يتدفق ماؤه العذب من بين صخور الجبل الملساء، من أهم المزارات التي تطوف حولها الأساطير. ولن يفوّت الإنسان الكسلاوي فرصة أن يردد للزائر أن "البيشرب من توتيل تاني بجي راجع"، حيث يُعتقد شعبيًا أن من يشرب من ماء هذا النبع الذي تحوم حوله الحكايات الأسطورية، سيعود إلى كسلا مرة أخرى وفقًا للنبوءات القديمة والمعتقدات الصوفية المحلية، مما يضفي على توتيل بُعدًا روحانيًا وقدسية خاصة.

يقول همام، وهو أحد مرتادي الجبل من أبناء كسلا، إنهم يسمعون الأساطير حول نبع توتيل منذ وعيهم للدنيا. إحدى هذه الأساطير أن هذا النبع تفجر تحت حافر حصان لأحد السادة الصوفية الذين تنتشر مراقدهم حول توتيل. وعلى الرغم من أن مياه توتيل مرتبطة بشكل مباشر بالأمطار، إلا أن العديد من الكسلاويين يصدقون المرويات حول النبع الأشهر في السودان.

أمسيات في الجبل

تُحيط بجبل توتيل عديد المقاهي التقليدية التي تقدم الشاي والقهوة على الطريقة المحلية، أي بالزنجبيل الحار على فخار "الجبنة"، مما يتيح للزوار فرصة التعرف على تراث المنطقة وتذوق نكهاتها المميزة. كما يُقام سوق حيوي على سفح الجبل، حيث يمكن للزوار شراء المشغولات اليدوية والأواني الفخارية والإكسسوارات المصنوعة من الخرز "السكسك"، والتي تعكس ثقافة وتراث سكان المنطقة من قبائل البني عامر والبجا وغيرهم من أهل شرق السودان.

جبل توتيل
يقضي الكسلاويون أمسياتهم على هذه السفوح الملساء وهم يتأملون الغروب ويرتشفون القهوة (الترا سودان)

وبحسب التجار في الجبل، تتنوع أوقات الذروة. يقول صاحب مقهى في جبل توتيل لـ"الترا سودان"، إن الأهالي في كسلا يفضلون عطلة نهاية الأسبوع لقضاء الوقت في سفح الجبل. ولكن مؤخرًا، مع نزوح أعداد ضخمة من السودانيين إلى المدينة الآمنة، صار الجبل مزدحمًا طوال أيام الأسبوع، وحتى في أوقات الصباح الباكر التي لم تكن مشهورة لمثل هذه الزيارات.

مملكة الجن

بجمالها المهيب، تُعَدُّ جبال التاكا مصدر إلهام للعديد من الفنانين والمصورين، حيث تنتشر في لوحات ولقطات الفنانين المحليين، ولكن تضاريس هذه الجبال المتفردة في جمالها الطبيعي، تخفي أساطير كثيرة يحكيها السكان المحليون بشيء من الجدية. يقسم بعض أبناء الختمية القديمة التي يحيط بها جبل توتيل أنهم يسمعون أصوات الجن ليلًا من أعلى الجبل. الأسطورة في كسلا تقول إن بالجبل مملكة من ممالك الجن، وأن ثمة أماكن محرمة لا يجب أن يصلها الناس في أعالي القمم بعيدًا عن السفوح الصخرية الملساء.

مواطن: إن ما يسمعه الناس من أصوات في القمم إنما هي لأنواع القرود التي تقطن في الأعالي، وأهمها قرد التِّقل متوسط الحجم "البابون"

محمد عمر الذي يقطن بالقرب من الجبل يكذب لـ"الترا سودان" هذه الروايات، مؤكدًا أن ما يسمعه الناس من أصوات في القمم إنما هي لأنواع القرود التي تقطن في الأعالي، وأهمها قرد التِّقل متوسط الحجم "البابون". هذه القردة بأسنانها الحادة وحجمها الكبير، متوحشة وخطيرة حين تجوع أو تشعر بالتهديد، وقد هاجمت سكان الختمية القديمة والمناطق المتاخمة في أكثر من مرة.

إرث غني

تبقى سلسلة جبال التاكا شاهدًا حيًا على الجمال الطبيعي الذي تتميز به ولاية كسلا، حيث تتناغم تضاريسها المتنوعة مع الإرث الثقافي الغني لسكان المنطقة. بالنسبة للكسلاويين، هذه الجبال ليست مجرد وجهة سياحية فحسب، بل هي رمز للارتباط العميق بين الإنسان والطبيعة.

إن ولاية كسلا بما تحمله من معالم طبيعية مثل جبال التاكا ونبع توتيل، وما يزخر به مجتمعها من عادات وتقاليد أصيلة، تقدم مثالًا عن التنوع السوداني وثرائه. في أسواقها الحية ومقاهيها التي تقدم القهوة بالطريقة التقليدية، وقبل ذلك معالمها الطبيعية الفاتنة، فرصة لاستكشاف تفاصيل الحياة الهادئة والأصالة السودانية. ومع النزوح الأخير للسودانيين الذين تدفقوا إلى كسلا، تصبح معالمها الطبيعية، وعلى رأسها جبال التاكا، بعضًا من ذاكرة ملايين السودانيين، وجزءًا من المعالم السودانية المهيبة التي توحد إرث السودانيين ومخيالهم الجمعي.