منذ بواكير السبعينيات، وتحديدًا، 1973، تاريخ صدور كتابه الأول عن الهوية "ديناميات وتكوين الهويّة"، ظلّ فرانسيس دينق، في ملاحقة مستمرةٍ، امتدت لعقودٍ خمسةٍ، من أجل الإجابة على سؤال: من نحن؟
دينق: العلاقة بين دينق مجوك وبابو نمر تُمثّل واحدةٍ من اشراقات الانسانية، والتي انبنت على تقبل الآخر للآخر، واحترامه على أساس التنوع والعيش المشترك
مشغول بسؤال الهوية
اختلف السودانيون، لدرجة التقاتل، لكن دينقعمل تنفيذيًا بوزارة الخارجية السودانية، وخرج من السودان، ليشغل منصبًا أمميًا رفيعًا بالأمم المتحدة، ثم انقسم السودان إلى سودانيين، لكن ظلّت ملاحقة فرانسيس لسؤال الهُويّة كما هي. منذ تلك البواكير، وحتى جلسته ظهر السبت الماضي، بكلية الهندسة جامعة الخرطوم، ضمن فعاليات الدورة العاشرة لجائزة الطيب صالح، ظلّ فرانسيس دينق مشغولًا بالإجابة عن سؤال الهُويّة عبر محاضرته التي أمّها المئات باهتمامٍ بالغٍ ، واختار لها عنوان "الهُوية في ظل العولمة".
اقرأ/ي أيضًا: الخروج من حالة الخدر ما بعد الكولونيالي السعيد
انطلق فرنسيس دينق للتأسيس لمناقشة الهُوية مجددًا، بالاستناد على مفاهيم أربعةٍ هي: التنوع، الكرامة، المساواة، والهُوية، في إشارةٍ إلى كون أربعة المفاهيم هذه لا تنفصل عن بعضها، وهي أيضًا البناءات الأولية والأساسية التي تقف عليها مفاهيم حقوق الإنسان. وفي ذلك ربط لمفهوم الهوية الجديد بالنسبة لفرانسيس، يتجاوز التنظير والنقاش لمشكلة السودان المحلية، بحسب ما يرى ويكتب سابقًا، إلى تخوم العالمية. وفي ذلك يُقرر دينق، وهو يناقش الهُوية أنها تبدأ أول ما تبدأ بالمحلي، ثم الإقليمي، فالعالمي.
معجب بنماذج عايشها
ويتداعى فرانسيس دينق في محاضرته، في ذكر أحداث شخصية، لها علاقة باندلاع سؤال الهُوية، والآخر المختلِف بالنسبة له. فيذكُر دخوله طالبًا بالمرحلة الثانوية، بمدرسة خور طقّت. يقول: "كنا نرى أنّ كل الطلاب الآخرين، الذين أتوا من كل نواحي الشمال، بمن فيهم النوبيون والدار فوريون والنوبة، كنّا نراهم عربًا ومسلمين. وهو أمرٌ جعلنا أمام تحدٍ كبيرٍ".
كما لم ينس فرانسيس دينق أنْ يأتي على ذكر نموذجين مشرقان في حياته، النموذج الأول: العلاقة التي ربطتْ بين والده، زعيم دينكا نقوك، بابو نمر، ناظر عموم المسيرية، بكردفان. والنموذج الثاني: عمّه دينق أيوتْ الذي كان يصف أبيي، بأنّها العين من الجسد. ويخلص إلى أنّ العلاقة بين الناظرين: دينق مجوك وبابو نمر كانت تُمثّل واحدةٍ من اشراقات الانسانية، والتي انبنت على تقبل الآخر للآخر، واحترامه على أساس التنوع والعيش المشترك.
وهو ما نجّى تلك العلاقة من التباسات العنصرية التي تبدأ برأيه بوعي زائف. "الوعي العُنصري، هو أحد مظاهر الوعي عمومًا، وهو نوعٌ من الفخر بهُويّة المرء التي يتصفُ بها كل قومٍ يعيشون في عالمهم الخاص، وما أنْ يتفاعل أولئك مع قومٍ آخرين، ويواجهون تحديًا تجاه ذواتهم المستعليةِ، إلا استتبع ذلك خلاف وصراع". يقول فرانسيس دينق.
مشوار طويل مع الهوية وسؤالاتها المعقّدة، بدأت منذ "ديناميات الهوية" كتابه الأول، مارًا بكتاب "تكوين سودان جديد؟: أمة تبحث عن هويتها"، الصادر في 2010، وليس انتهاءً بحُواراته العديدة، ومحاضراته. أو عبر مقولته "ما يفرقنا هو ما لا نجرؤ على قوله"، أو المسكوت عنه بتفسيرات أخرى. وهي مقولة أطلقها أواخر الثمانينات، وصارت تلخيصًا لقضايا الهُوية الزلقة في السودان.
والمقولة أيضًا العظم الأساس الذي سعت مجمل كتابات فرانسيس لتلخيصه، والوصول إلى الاعتراف بهويّات الآخرين واحترامها، وهو أمر لا يتحقق اعتباطًا وإنما: "ثمرةً لتعليم وتثقيف بعضنا بعضًا، حول القيم والسِماتْ الثقافية التي تسم بيئات الثراء، وفضاءات التنوع، وما يكون بين مكوناتها من تفاعلٍ".
اقرأ/ي أيضًا: أقباط السودان بعد الثورة.. ما الجديد؟
قبل انفصال السودان الذي يرى فرانسيس دينق واحدة من نتائج مشكلة الهوية في السودان، كان يرى خياراته في ثلاث: مساواةٌ تقوم على الوحدة، في ظل العدالة الكاملة. أو التعايش مع احترام التنوع، أو الانقسام. وبالرغم من أنّ فرانسيس كان يقف مع الرأي الأول: المساواة في ظل العدالة، إلا أنّ الخيار الأخير هو الذي انتصر واقعيًا فيما بعد، وانفصل جنوب السودان في العام 2011.
معجب بأجندات التحرر الإسلامي
ويقرّظ فرانسيس دينق العديد من الكتابات التي أسست لوضع عتبات بناء للهوية السودانية، على رأسها تقف كتابات الطيب صالح، التي برأيه ساهمت في التعريف بالسودان وثقافاته لدى الآخرين. وهو تعريفٌ عمّقه الاستعمار عبر تجهيل بعضنا ببعضنا. وكذلك حركة الإحياء الإسلامي بقوله : " لقد أصبح إعجابي يزداد بأجندات حركة الإحياء الإسلامي، بوصفها ظاهرةً من ظواهر التحرر الثقافي لما بعد الاستعمار". وهو ما بعث دهشة عدد وافرٍ من حضور محاضرته.
وعليه، ما تزال حسرة انفصال السودان 2011 ماثلةً أمامه، ويقطع: "بخسنا أنفسنا، إذ لم نحصل إلا على جزء من الوطن الذي نملكه جميعًا بوصفنا سودانيين".
متشبث بالأمل
الوحدةُ والانفصال درجتان من علاقات متحركةٍ، تقوى وتضعف بما يفعله الناس، وبما يصنع الزعماء والقادة
لكن رغم تلك الحسرة، ما تزال الآمال معلّقةً بواقعية أنّ السودان وجنوب السودان ما تزال الصلات والروابط التي تجمع بينهما كثيرة، ويمكن البناء عليها، بالرغم من أنّ رباطهما بشكل سلبي بحسب فرانسيس دينق: "البلدان مرتبطان ما يزالا بالصراعات العابرة للحدود، بما يجعلهما يتورطان في حروب بالوكالة". ويضيف: "إذا ما تعاون البلدان في إيجاد حلول لنزاعاتهما الداخلية بنجاحٍ، وفي إيجاد شروط وفرص مناسبة، فإنّه حتى إن لم يعودا إلى وحدةٍ كاملة، فقد يُهييء ذلك جوًّا عامًا وإطارًا للتعاون الحميم الذي قد يُمثّلً شكلًا من أشكال إعادة اللُحمة والاندماج".
لكن برغم ذلك، ما يزال الأمل معقودًا في عقل وقلب فرانسيس برغم الانفصال. وما يزال لديه الحُلم بعودة السودان الذي يُمثّل بالنسبة له: "ملتقى أعراق وإثنياتٍ، وأديان". أنْ يُصبح "بؤرةً لتواصل السلام والتصالح".
وعمليًا من الممكن أنْ يكون: بلد واحدٍ بأنظمةٍ متعددةٍ. لأنّه يرى بأنّ الوحدةُ والانفصال درجتان من علاقات متحركةٍ، تقوى وتضعف بما يفعله الناس، وبما يصنع الزعماء والقادة.
اقرأ/ي أيضًا:
الحزب الشيوعي السوداني في متاهته