رأي

من يفكر للسودان؟

7 مارس 2025
العاصمة-الخرطوم.jpg
العاصمة القومية الخرطوم (أرشيفية)
عبدالرحيم حمدالنيل
عبدالرحيم حمدالنيل كاتب من السودان

طيلة السنوات الفائتة، كان سؤال: من يفكِّر للسودان؟ يسطع بقوة في ذهني، وأنا أبصر وأرى مجموعة من القرارات أو السياسات التي تبدو واضحة أنها لا تصب في مصلحة السودانيين؛ بل ربما تنعكس عليهم سلبًا. ويبرز سؤال: من يفكر للدولة؟ وهل ثمة عقل مركزي للدولة أو مركز استراتيجي يجعل نصب تدبيره وعين عقله مصلحة السودان والسودانيين، طارحًا مباحث ودراسات، وسياسات، واستراتيجيات تقوم مقام العقل للدولة السودانية، يأخذ منها أصحاب القرار السياسي والتنفيذيون خطهم السياسي وخططهم؟ أم أن الأمر يقوم على سياسة رزق اليوم باليوم التي غالبًا ما تفضي إلى طرق مسدودة وأبواب مغلقة، كحال السودان اليوم؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها أو الخاصة، لما تشكِّله من مصادر أساسية للإنتاج المعرفي اللازم للتطور والبناء الحضاري للمجتمعات الإنسانية عمومًا، ولبلادنا على وجه الخصوص. كما أصبحت مراكز الأبحاث والدراسات ظاهرة عالمية، وفاعلًا أساسيًا في عملية صنع القرار وإعداد السياسات العامة للدول، وخاصة في المجتمع الغربي. تشكل هذه المراكز إحدى الظواهر الأساسية للتغيير الحضاري والإنتاج الفكري والبحث العلمي. وكل يوم جديد في العالم تتضح فيه أكثر الأدوار التي تلعبها مراكز الفكر أو الدراسات في مجال البحث العلمي، ومدى مساهمتها في صنع السياسات، ومساعدة صناع القرار في بلورة وتجسيد أفكارهم على الواقع؛ وسد الفجوة بين ما يريد صانع القرار وكيفية تنفيذه، أو لماذا يمكن فعل هذا ولا يمكن فعل ذاك. هذا ما يفعله المتخصصون من الباحثين. وتقدم مراكز الدراسات تحليلًا لأهم المعوقات والتحديات التي تواجه صانع القرار الحكومي والخاص، وتساعده في تقليم أظافر اليأس السياسي الذي استشرى مؤخرًا، من خلال منظور العلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسة الخارجية، التي لا غنى لها عن البحث العلمي الجاد والمنهجي، حتى لا تأتي القرارات خبط عشواء، تؤثر على المدى القريب أو البعيد في المصلحة العامة للسودان والسودانيين.

بينما كان واضحًا لجميع السودانيين خطر إنشاء قوات رديفة للجيش، وتمكينها من السلاح والمعدات، مضت الدولة السودانية، في أعلى مؤسساتها الرئاسية والبرلمانية، وذهبت خلف إنشاء قوات الدعم السريع، ووضع قانون خاص بها أجازه البرلمان. وخلال السنوات التي تلت هذا الأمر، تم تمكين هذه القوات وقائدها بالمعدات والأسلحة والمعسكرات، حتى باتت قوة خطرة على السودان نفسه، وها هي تشعل حربًا في ربوع البلاد، تهدم البنى التحتية، وتقتل الناس، وتنهب مقدرات الشعب.

كثير من القرارات التي تتعلق بوجود السودان في تحالفات إقليمية أو دولية، وقرارات مهمة مثل العلاقات الخارجية أو اتفاقيات السلام، تجعلك تفكِّر: كيف تنظر الدولة إلى هذا الأمر؟ ومن يفكر لها ويمدها بالخطط؟ وهل تضع هذه الخطط مصلحة البلاد والعباد أولًا أم مصلحة الحاكمين فقط؟ وماذا تفعل الدولة لتجنُّب ارتدادات هذه القرارات على مصلحة السودان وأمنه القومي؟ وهل هنالك خطط طويلة الأمد وأخرى قصيرة الأجل؟

تحدث التغيُّرات السياسية في كل دول العالم بطرق عديدة، واحدة منها التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. وفي كل هذه الأنواع، السلمية والعنيفة، تكون ثمة مؤسسات من المستحيل المساس بها، ويكون استمرار عملها روتينيًا. لكن من الملاحظ أنه في السودان، يطال التغيير كل شيء، وهذا يجعلنا كدولة، رغم عراقة تاريخنا، نبدأ من الصفر دائمًا. فكل مجموعة تأتي إلى السلطة تحاول مسح ما فعلته المجموعة التي سبقتها. فشهدنا طمس آثار "مايو"، والصالح العام، ولجنة إزالة التمكين، وغيرها من الأعمال التي غرضها في الأساس تهيئة الحكم للمجموعة الجديدة.

انظر إلى الدستور الذي نحتكم إليه الآن، وهو مجرد وثيقة دستورية، ليس دستورًا كاملًا حتى. فنحن منذ استقلالنا لم نستطع التوافق على طريقة حكم لبلادنا وفق دستور دائم، وهيئات حكومية مستمرة في أعمالها دون قلق من أن يتم تغيير سياسي يطيح بها وبالأفراد العاملين فيها. صحيح أن كل مجموعة سياسية جديدة تحتاج إلى طاقم عمل جديد، لكنه في الغالب لا يزيد عن عشرين شخصًا يتم وضعهم في الوزارات وبعض المناصب الحساسة. لكن التغيير لا يطال كافة موظفي الدولة والخدمة المدنية مثلًا، كما فعلت الإنقاذ التي فصلت في لحظة واحدة أكثر من 450 ألف موظف وعامل في الخدمة المدنية، وجاءت بكادر موالٍ لها أيديولوجيًا ليحل محلهم.

تظل الحاجة إلى مراكز دراسات بحثية واستراتيجية تغذي الدولة بالدراسات والأبحاث ماثلة وضرورية، خاصة في السودان، لنبني على أسس علمية واضحة، بعيدًا عن التجريب الذي لا ينفع في عالم جرّب كل شيء قبل مئات السنين. وينبغي أن تكون هذه الدراسات سودانية، يقوم عليها علماء سودانيون، كل في مجاله، لا تنتهي مهمتهم بانتهاء النظام السياسي الذي أتى بهم، بل يواصلون إنتاجهم، ويتم التوظيف في هذه المراكز الحكومية وفق أسس محددة، هدفها الكفاءة فقط، وليس الانتماءات السياسية أو الجهوية أو القبلية أو الشخصية. فهكذا تُبنى الأمم، بالعمل الجاد، والمنهجي، ومراكمة الاجتهادات، التي من المؤكد ستنتج طفرة نوعية، كما يقول علم الاجتماع.

ستكون أسئلة من يفكرِّ للبلاد هي المفتاح للطريق الصحيح نحو وضع لبنات حقيقية لبناء أمة سودانية يشارك السودانيون جميعًا دون فرز في وضع الأسس الحقيقية لها

بناء السودان يحتاج إلى جميع أبنائه باختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية، فالبلاد التي يبنيها البعض لن يحدب على سلامها الجميع، وستكون أسئلة من يفكرِّ للبلاد هي المفتاح للطريق الصحيح نحو وضع لبنات حقيقية لبناء أمة سودانية يشارك السودانيون جميعًا دون فرز في وضع الأسس الحقيقية لها، لكي ننهض من الحرائق والحروب والمرض، فبلادنا الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية، بوسعها أن تحتملنا جميعًا وتوفر لنا الحياة الكريمة التي نستحقها إذا أحسنا التفكير والتدبير.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

إضراب لاجئين سودانيين في إثيوبيا عن الطعام.jpg

معنى أن نرجع.. ولماذا؟

في صبيحة 15 نيسان/أبريل 2023 اندلعت الحرب بين الجيش ومليشيا قوات الدعم السريع من  العاصمة الخرطوم. ورغم الإرهاصات والمظاهر الواضحة التي سبقت اندلاعها إلا إنها كانت مفاجئة بالنسبة للكثيرين، فيما خمن البعض ممن يتابع السياسة بأنها ستكون حرب خاطفة، وشبيهة بالعملية العسكرية التي جرت حين تمردت (هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن) في يناير 2020 وتم حسمها عسكريًا في ثلاثة أيام.


الحرب في الفاشر.png

ثلاثي إفناء الفاشر... الجوع والحصار والقذائف المدفعية

تكالبت الدنيا على الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور غربي السودان، وبات سكان المدينة على شفاء الإفناء التام، إن لم ينكسر الحصار، وتتوقف الحرب، أو تحدث معجزة في زمن اللا معجزات.


منبر جدة لسلام السودان

لماذا فشلت كل المبادرات السياسية حيال أزمة السودان؟

بعد مرور عامين على اندلاع الحرب في السودان، لم تُفلح أي من المبادرات السياسية المحلية أو الإقليمية أو الدولية في إيقاف القتال أو حتى التوصل إلى هدنة دائمة، وسط تصاعد العنف وتدهور الأوضاع الإنسانية


مليشيا سودانية

السودان.. لا يوجد ما يمنع التقهقر إلى مملكة سنارية تليدة؟

هل من الممكن أن يعود السودان عبر هذه الحرب إلى نقطة دولة سنار نفسها التي انهارت قبل قرنين؟

عامان على الحرب في السودان
سياسة

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان

مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.

حرب السودان بعد عامين من اندلاعها
سياسة

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟ 

تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي  يلوح  في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.


عامان على الحرب في السودان
سياسة

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة 

على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.

السودانيون في مصر.jpg
مجتمع

لاجئون سودانيون يبدأون رحلات شاقة لمغادرة مصر إلى بلادهم 

مع عودة آلاف اللاجئين السودانيين من المدن المصرية تشهد المعابر حركة واسعة للحافلات وفق متابعة متطوعين في غرف الطوارئ بالولاية الشمالية، بينما رجح عاملون في تنسيق هذه الرحلات عودة نصف مليون لاجئ سوداني خلال هذا العام من مصر إلى بلدهم إثر سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم، وعودة الحياة بشكل متدرج.

الأكثر قراءة

1
أخبار

السودان: طلب صربيا لا يؤثر على الدعوى ضد الإمارات أمام محكمة العدل


2
أخبار

السودان… المُسيرات تنقل الحرب إلى المدن الآمنة 


3
مجتمع

الفاشر… بقايا مدينة ترزح تحت الركام


4
أخبار

مقتل نازحين في الطريق بين مخيم زمزم والفاشر 


5
أخبار

قائد الجيش: قريبًا سننهي خطر المسيرات التي تقصف المرافق المدنية