هل هي حرب حميدتي؟
22 سبتمبر 2025
لم يستطع حميدتي إقناع نفسه بأن توليه رئاسة ما يُسمى بالمجلس الرئاسي في حكومة التأسيس شيءٌ يدعو للفخر والمباهاة؛ فظهر محبطًا يائسًا، غير مقتنع هو نفسه بما آلت إليه أوضاعه وأوضاع قواته. وربما تأكل الحسرة قلبه؛ فبعد أن كان نائبًا لرئيس المجلس السيادي لعموم السودان، وكانت قواته لا تُحصى، مسلَّحةً كاملَ التسليح والعتاد، ويمتلك عددًا كبيرًا من الشركات والحسابات المصرفية في السودان وخارج السودان، هاهي الحرب التي ظن أنها ستجعله رئيسًا للسودان تنزع عنه كل شيء، وترجعه مرة أخرى إلى دارفور التي لم يكن يذهب إليها إلا مغاضبًا في السنوات الأخيرة، تعيده بلا سلطات، بلا أموال؛ يظهر سرًّا ويصور فيديو ثم يختفي شهورًا، بعد أن كان ملء السمع والبصر قبل الحرب، يسير وتتبعه الكاميرات والقوات وتتقدمه "السارينة".
حميدتي والبرهان
في المقابلات الهاتفية القليلة التي أجراها حميدتي في أيام الحرب الأولى مع عدد من القنوات، كرر عبارة: "أنا ما عندي مشكلة مع برهان، مشكلتي معاه الإطاري؛ لو ما الإطاري، مشكلتي معاه شنو؟" بدا حميدتي في تلك اللحظات أكثر استعدادًا لإنهاء الحرب، بدا نادمًا على حربٍ رأى بعين قلبه أنها ستسلبه كل شيء ولن يجني من ورائها شيئًا. حميدتي الذي قادته فراسته البدوية منذ البداية إلى التقدم والمضي إلى الأمام دائمًا - فمن رجل بسيط، بإمكانيات متواضعة، مضى في التقدم حتى وصل إلى مرحلة أنه كوَّن جيشًا خاصًا به من آلاف المقاتلين الذين يأتمرون بأمره؛ امتلك عددًا من الشركات التي تعمل في كل شيء: التعدين، أنظمة الحاسوب والتقنية، تصدير المحاصيل النقدية. هل يخطئ رجل مثل هذا في حسبة عملية واضحة مثل الحرب؟
تقول أبسط القراءات والتحليلات إن هذه الحرب ليست حرب حميدتي، الذي ما كان له أن يضحي بما وصل إليه من مكانة وإمكانيات في حسبة غامضة مثل الحرب
حرب حميدتي؟
تقول أبسط القراءات والتحليلات إن هذه الحرب ليست حرب حميدتي، الذي ما كان له أن يضحي بما وصل إليه من مكانة وإمكانيات في حسبة غامضة مثل الحرب؛ نتيجتها في أفضل الأحوال بالنسبة له أن يحكم بلدًا محطمًا وشعبًا يكرهه ويكره وجوده. فلماذا مضى في هذا الطريق؟ هل تم التغرير به؟ هل فُرضت عليه الحرب من جهةٍ لا يستطيع أن يرد لها طلبًا؟ هل سُحبت منه قيادة المعركة ووُضع فيما يشبه التحفظ؟ هل قادت المعركة جهة أخرى ووضعته واجهة؟ ما هي أهداف الحرب الخفية والواضحة؟ لماذا تتعدد سيناريوهات الحرب من طرف الميليشيا التي بدأت بجلب الديمقراطية والإطاري، ثم انتقلت إلى حرب من أجل قضية الهامش، وانتهت إلى حرب على الإسلاميين والجلابة؟ هل يعرف جنود الميليشيا لماذا يخوضون هذه الحرب؟ والأهم: هل يعرف حميدتي نفسه لماذا يخوض هذه الحرب وماذا يرجو منها؟
مطار مروي
لنبدأ التحليل بالسؤال: من أرسل ميليشيا الدعم السريع إلى مروي، بداية التمرُّد على القوات المسلحة السودانية، قبل يومين من اشتعال الحرب؟ ولماذا؟ ما الخطر الذي يمكن أن تمثله قاعدة مروي العسكرية على ميليشيا الدعم السريع؟ وهل عندما يسيطرون عليها سينتفي الخطر؟ تقول مجريات الحرب: لا. إذا أرسلت قيادة الدعم السريع قوةً لمنع الطيران الحربي السوداني من ضرب الميليشيا؛ لماذا قاعدة مروي رغم أن وادي سيدنا هي القاعدة الأكبر والأهم؟ لماذا لم يتم إرسال قوات إلى وادي سيدنا والسيطرة عليه قبل قاعدة مروي؟ وماذا كان في قاعدة مروي يمثل خطرًا ويجب التعامل معه من قبل الميليشيا؟ والسؤال الأهم: على من كان الخطر الذي في قاعدة مروي العسكرية؟ هذا يعيدنا إلى السؤال: من أرسل الميليشيا إلى قاعدة مروي العسكرية، وماذا كان هدفه من ذلك؟
دوافع الحرب
في لعبة الشطرنج الشهيرة، يمكن للاعب التضحية بجندي لتتقدم قطعةٌ أخرى أهم في الرقعة، ويمكن أيضًا أن يضحي بقطعةٍ أهم ليصل الجندي إلى خط النهاية ويتم ترفيعه إلى رتبةٍ أعلى تصل إلى الوزير. فهل تم التضحية بالميليشيا لحماية قطعةٍ أخرى في رقعةٍ أكبر؟ هل تم التضحية بطموحات وآمال حميدتي وميليشياته لتنفيذ هدف أهم من لعبة السلطة نفسها، لتصبح الحرب ضرورةً يموت فيها الملك ويربح منظِّم اللعبة من نشوب الحرب نفسها؛ هدفًا مثل تدمير الجيش وإمكانات السودان وموارده لحماية شيءٍ آخر، قطعةٍ أخرى خارج الرقعة، مخبأة بإمعانٍ بسردياتٍ تبذل كل حربٍ لتسمية الحرب: الإطاري، الديمقراطية، الفلول، دولة 56، الهامش، الجلابة، إلخ.
إدارة الحرب
منذ نشوب الحرب، كان حميدتي أبعدَ عن الميدان، وربما عن السودان كلِّه، وكذلك شقيقه القائدُ الثاني. فمن الذي كان يدير الحرب من طرف المليشيا؟ هل هو عثمانُ عملياتٍ؟ أم هناك غرفةٌ أخرى يقودها آخرون؟ لا يستطيع حميدتي أو عبد الرحيم قيادة دفة المعركة وهما اللذان يخشيان أن تكون الاتصالات مراقبة؛ فكيف لشخصٍ لا يستطيع الاتصال أو التواصل أن يُدير حربًا؟ أبصرنا في الحرب انضمامَ قواتٍ بلافتاتٍ متعددةٍ إلى الدعم السريع: شخصياتٌ وإداراتٌ أهلية ومليشياتٌ مختلفة. فمن كان يفاوضهم ويقنعهم بالانضمام؟ من كان يدفع لهم؟ كيف كانت تتم عمليات الدفع هذه وعمليات الإقناع؟ من تولى هذه الأمور في غياب حميدتي وشقيقه؟ ثم الأهم: من كان ممسكًا بكل الخيوط، يحرِّك هذه القطع من طرف المليشيا؟
أهداف الحرب
في العلوم الجنائية يمثل الدافع أحد أهم العلامات للاستدلال على المجرم. إذا طرحنا الأسئلة الصحيحة، يمكننا التقدم نحو الحقيقة والاستدلال عليها بالتحليل. أولًا علينا معالجة سؤال: هل كان حميدتي يطمح إلى حكم السودان عبر الحرب؟ وتبدو الإجابة واضحة: حميدتي يعلم جيدًا أنه لا يستطيع حكم السودان عبر الحرب. ما وصل إليه بدون الحرب يكفيه شر خوض حربٍ ربما تطيح بكل ما حصل عليه سابقًا؛ فهو كان الرجل الثاني في الدولة، ولديه -كما قلنا سابقًا- شركاتٌ وقواتٌ تصل إلى المئات تأتمر بأمره. فلماذا يضيّع كلَّ هذا في لعبةٍ خاسرةٍ كالحرب؟ إلا إذا لم تكن الحرب قراره، بل كانت قرار جهةٍ أخرى يأتمر هو بأمرها، وفرضت عليه خوض حربٍ ربما لا يعرف دوافعها الحقيقية حتى الآن، ولا يعرف أهدافها، ولا كيف سيذهب ريعها إلى الجهة التي أمرته بذلك.
السلطة ليست هدفًا للحرب من قبل المليشيا؛ فالسلطة كانت بيد حميدتي، فلماذا يخوض حربًا من أجلها؟ إذن ما هي الأهداف الخفية والواضحة لمليشيا الدعم السريع؟ ونحن نحاول فك طلاسم هذه الأسئلة يمكننا أن نسأل: هل استطاعت المليشيا إنشاء أية سلطة في الأماكن التي سيطرت عليها في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة وبقية المدن والولايات، أم أنها حطمت السلطة ومبانيها ولم تُقم أية سلطاتٍ تقوم مقامها؟
أرى أن أحد أهداف الحرب هو تحطيم الجيش السوداني بالكامل، تحطيم المقدرات العسكرية للقوات المسلحة، وتحطيم البنية التحتية للسودان. لذلك كانت أهم سمات هذه الحرب هي التحطيم: تحطيم المنازل والبنى التحتية والرموز الحضارية والمعالم المهمة للسودان
إذن لم تكن السلطة هدفًا للحرب؛ فلم يتم تشكيل أية حكومة طوال أكثر من عامين رغم سيطرة المليشيا على العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، ومطار الخرطوم، والقصر الجمهوري - رمز السلطة في السودان. فماذا كان هدفُ الحرب؟
أرى أن أحد أهداف الحرب هو تحطيم الجيش السوداني بالكامل، تحطيم المقدرات العسكرية للقوات المسلحة، وتحطيم البنية التحتية للسودان. لذلك كانت أهم سمات هذه الحرب هي التحطيم: تحطيم المنازل والبنى التحتية والرموز الحضارية والمعالم المهمة للسودان، مثل المتحف القومي ومتحف التاريخ الطبيعي والجامعات والمعامل - كل الرموز الحضرية. كانت هذه الحرب تهدف إلى إعادة السودان عشرات السنوات إلى الوراء.
إذا نظرنا إلى المنطقة لوجدنا أن حرب السودان تكمل لوحة حروبٍ أخرى تم فيها تحطيم الجيوش، مثل حرب العراق، وحرب سوريا، وحرب ليبيا؛ كانت كل ملامحها تحطيم الجيوش والمقدرات العسكرية لتلك الدول، لمصلحة عدوٍ محددٍ مهمته تحطيم الجيوش الكبيرة في المنطقة وتحطيم مقدراتها. وبقطعة موزاييك حرب السودان تبدو الصورة أوضح لرؤية من يدير الحرب، ومن يستفيد منها، وما هي دوافعها.
لكن الجيش في هذه الحرب بات أقوى: استعاد ذاكرة الحرب والقتال، عرف مكامن ضعفه وعمل عليها، عرف حاجته من التسليح وعمل عليها؛ أي أن أهدافًا عكسية دخلت في شباك الخصم الغامض، رقم صفر - الزعيم الغامض الذي يعرف حقيقته الجميع.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

نزوح الفاشر إلى الدبة.. حين تضغط الجغرافيا وتنكسر السياسة
الآثار الكارثية لما وقع في الفاشر لن تمحي قريبًا. الآلاف قتلوا وشردوا وانتهكت أعراضهم في واحدة من أسوأ مشاهد الحرب الدائرة في السودان، بل هي مأساة مكتملة،

"أبو لولو" كمرآة لعنف الدعم السريع
تجاوز ظهور المجرم المدعو "أبو لولو" في مقاطع الفيديو الأخيرة من الفاشر كونه مجرد واقعة دموية جديدة في سجل الحرب السودانية، الى كونه حدثًا إعلاميًا مُحمَّلًا بالرموز، استُخدم - بوعي أو دون وعي - لصرف الأنظار عن المنهجية الأعمق للعنف داخل الدعم السريع.

مجزرة الفاشر.. حقيقة الحرب وجوهرها
سيتذكر السودانيون في المستقبل أن قوةً شبه نظامية تمردت على الدولة، وجمعت أشتاتًا من القتلة واللصوص من السجون والمليشيات، استأجرتها إحدى الدول لتحطيم السودان ونهبه وتجيير موارده لها. سيتذكرون تلك الليلة التي سقطت فيها أكثر المدن مقاومةً للغزو، وكيف أقاموا فيها مجزرةً لا أول لدمويتها ولا آخر لوحشيتها. وستكون هذه الذكرى هي الحصانة التي ستحمي السودانيين والدولة السودانية من تكرار أخطاء الماضي، بكل…

هل ما زال في السودان متسع للعقلاء؟
قبل أيام، اهتزت ولاية شمال كردفان على وقع حادثة مأساوية باغتيال الناظر سليمان جابر جمعة، زعيم قبيلة المجانين، إلى جانب واحد وعشرين من أعيان وشباب منطقته في المزروب بسقوط طائرة مسيرة. وتبادل على إثرها الاتهامات بين مجلس السيادة والدعم السريع وقوىً سياسية مختلفة. مع العلم أن الكارثة وقعت بعد أسابيع من توترات محلية واشتباكات محدودة بالمنطقة، ومثلت ضربةً موجعةً للإدارة الأهلية التي فقدت أحد أبرز…

مرصد حقوقي: أكثر من 11 ألف قتيل و32 ألف جريح في هجمات الدعم السريع على الفاشر
أعلن مرصد مشاد لحقوق الإنسان أنه وثّق مقتل أكثر من 11,700 مدني وإصابة نحو 32,000 آخرين خلال ما وصفها بـ"المجازر الواسعة" التي شهدتها مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة في تشرين الأول/ أكتوبر 2025.

الخرطوم وكسلا تعلنان فتح المعسكرات لمساندة الجيش في المعارك
أعلنت ولايتا الخرطوم وكسلا تجهيز معسكرات التجنيد لدعم الجيش السوداني في الحرب ضد قوات الدعم السريع، في المعارك الجارية غربي البلاد.

أردوغان: نواصل الجهود لوقف الصراع السوداني ولن نكتفي بالمتابعة
قال أردوغان، في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول: "سنواصل جهودنا الدبلوماسية لضمان السلام والأمن في السودان ولا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري هناك".

غرفة طوارئ: مدينة بابنوسة خالية من السكان تمامًا
قالت غرفة طوارئ بابنوسة بولاية غرب كردفان إن المدينة خالية من السكان بنسبة 100% بعد نزوح قرابة 177 ألف شخص جراء الاشتباكات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ كانون الثاني/يناير 2024.
