عند اندلاع الحرب السودانية في صباح الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، كان الجد محمود محمدنور منحنيًا في طرف سريره وهو يفرغ الحليب الذي علق في حلقه بسبب ورم سرطاني خبيث أسفل المريء سد فم معدته فصار طعامه منذ أشهر سوائل لا تشبع من جوع، ولكنه بصبر العجائز يجاهد الغثيان كي يمنحها من الوقت ما يكفي للتسرب إلى جهازه الهضمي. ومثل كل المسنين الذين مسحتهم الأيام بصوفية فطرية، كان الجد منهمكًا حد الغياب في هذه الحالة التي صارت عادة يتعامل معها بشكل طبيعي، ولكن سرعان ما انتبه منها بأصوات الانفجارات المدوية وإطلاق النار الكثيف في مكان قريب.
هو ليس من سكان هذه المدينة الصاخبة، ولم يقضِ في الحضر سوى زيارات خاطفة، ولكن في رمضان الحرب وبعد اشتداد أعراض "المرض الخبيث" الذي أصابه، وافق على مضض تحت إلحاح أبنائه وأحفاده المحبين، أن يسافر من أقصى الحدود الشرقية لتلقي العلاج في الخرطوم التي تتركز فيها كل الخدمات ضمن مظاهر أزمة الدولة السودانية التي انتهى بها المآل لهذه الحرب التي أحرقت الخرطوم أولًا في تأكيد للعبة الأقدار التي لا تعرف الصُدف.
العاصمة السودانية الخرطوم لم تكن أبدًا مدينة عادية
إن العاصمة السودانية الخرطوم لم تكن أبدًا مدينة عادية، تاريخها وتاريخ السلطة في السودان حوّلها لمأوى مهول ولكنه مؤقت لأغلب سكانها وإن طال مكوثهم بها، كأنها معسكر ضخم يضم الملايين المتواجدين لأداء مهام محددة أو الحصول على أغراض بعينها من هذه المحطة المركزية ثم العودة لمواطنهم التي تفتقر لكل شيء، فـ"اغترب" معظم السودانيين في العاصمة، وأرسل الناس أبناءهم للدراسة هناك، ويأتي آخرون لطلب العلاج أو قضاء إجراءات حكومية وغيرها من الأمور الضرورية التي احتكرتها لمصلحة حكامها، ولذلك عندما انفجرت هذه المدينة المعقدة، لم يسلم أي سوداني من تبعات ذلك.
الجد محمود كان قد وصل إلى منزل أحفاده جنوبي الخرطوم قبل أيام من اندلاع الحرب، كل ما كان يتمناه من هذه الرحلة هو "الموت بكرامة" كما ظل يردد لمرافقيه، وكأنه كان في سلام مع الحياة والموت معًا، حاله في ذلك حال كل المسنين، فلا يخشى الشيوخ الموت لأنهم عركوا الحياة وعركتهم، ولكن يقلقهم أن تكسرهم الدنيا بعد صمود السنين.
شُخص محمود قبل يومين من الحرب بسرطان خبيث في المريء انتشر إلى الغدد اللمفاوية، ما يعني أنه دخل المرحلة الأخيرة للمرض القاتل. اقترح الطبيب المعالج تركيب دعامة تفتح فم المعدة لتسمح له بتناول الطعام الصلب بعد أشهر طويلة من الجوع. استبشر العجوز بهذه الأنباء ليس لأنه سيشفى من السرطان فهو لا يطمح في الخلود، ولكن يرجو العيش بكرامة حتى اللحظة الأخيرة.
وفي المواعيد المضروبة لتأمين كرامة الشيخ بعملية تركيب الدعامة في المريء، والتي تندرج تحت بند الرعاية التلطيفية في العرف الطبي الحديث للعناية بإنسانية المرضى الذين لا أمل في نجاتهم، اندلعت الحرب وأغلقت المستشفيات والمصالح، وتعطلت حياة الملايين في ساعة واحدة.
كانوا أربعة وجدهم الذي يمر بحالة حرجة من سوء التغذية بسبب المرض، محبوسين في بيتهم جنوب الخرطوم المشتعلة، تسكن معهم الحيرة التي صارت ضيفًا ثقيلًا في كل بيت سوداني فرضت عليه الحرب أسئلة المعنى والمصير، في ظل حرب عاصفة بعثرت كل أوراقهم.
بعد أيام من الحيرة والخوف والقلق المضني تحت القصف والحرائق، سفّر الأحفاد جدهم خائر القوى بعربة تجارية مهترئة لمدينة ودمدني المجاورة ربما يجد الرعاية الضرورية هناك. وبينما يلوحون لوداع العجوز في سيارته نحو مصير مجهول، بدت أعمدة الدخان المتمايلة في المدى وكأنما هي الأخرى أذرع للمدينة الحزينة تودع أرتال الفارين من جحيم حربها الضروس.
لم يجد الجد محمود محمدنور الرعاية اللازمة في ودمدني ولا في أي مكان آخر، فبيض السودان كله في الخرطوم، وتوفي بعدها بوقت قصير دون معاناة إضافية. قال حفيده ردًا على عبارات المواساة، إن المرض كان كريمًا مع الجد محمود، لأخذه بخفة وسط أهله ومحبيه.
موت بطيء
قصة محمود هي قصة الآلاف من مرضى السرطان والكلى والسكري وذويهم من الذين تقطعت بهم السبل بسبب الحرب في رحلة علاجهم بالعاصمة. عذابات مروعة مجهولة مر بها آلاف الأبرياء دون أي ذنب اقترفوه سوى كونهم سودانيين في مقام الخسائر الثانوية في صراع فيلة الخرطوم التي لا تبالي بالحيوات التي بناها الناس بصبر النمل وعرق السنين.
مأساة مرضى الكلى تحديدًا كانت من أبرز مظاهر انهيار النظام الصحي التي أثارت الرأي العام، لقد مات المئات بسبب توقف مراكز الغسيل الضرورية لبقائهم، وبث بعضهم مناشدات تقطع نياط القلب لما يعانونه من عذابات السموم التي تنخر في أجسادهم تقتلهم ساعة فساعة. وعبّر الناس على مواقع التواصل عن خليط من العجز واليأس والحنق والغضب والخوف والرجاء والحزن والغبن والتسليم، وفوق ذلك كله، التضامن والتعاطف الإنساني الغريزي في مثل هذه الظروف.
قصة الصحفي السوداني الراحل عبدالكريم قاسم هي ملمح من ملامح مأساة مرضى الكلى هذه، حيث توفي بعد معاناة قاسية من مضاعفات توقف الغسيل. وكان قاسم قد أطلق مناشدات عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، يطالب فيها قوات الدعم السريع بفك الحصار الذي تفرضه على مستشفى الأمل في مدينة بحري بالعاصمة الخرطوم، والسماح للكوادر الطبية بالدخول حتى يتمكن مرضى الكلى من إجراء الغسيل. لكن مناشداته "لم تجد أذنًا سامعة، ولا قلبًا رحومًا، ولا عقلًا مدركًا، حتى توقّف قلبه عن الخفقان، وأسلم الروح إلى بارئها" - كما قالت نقابة الصحفيين السودانيين التي نعته بمرارة.
كتب قاسم على صفحته قبل أيام من وفاته: "غسيل الكلى متوقف. إذا لم تقتلك الحرب والرصاصة سيقتلك عدم الغسيل"، ثم رحل بعدها دون أن يتمكن أحد من إنقاذه تحت جنون الحرب التي لا تكترث لإنسانية الإنسان، وهو الذي وصفه زملاؤه بأنه كان رفيع الخلق، طيب المعشر، موطّأ الأكناف.
وكان مدير المركز القومي لأمراض وجراحة الكلى في السودان الدكتور نزار زلفو قد وصف وضع مرضى الكلى لـ"الترا سودان" بأنه "كئيب"، كيف لا والتقارير تقول أن "جميع" مرضى الكلى في غرب دارفور قد توفوا بسبب توقف الغسيل! إن الكارثة الإنسانية التي تسببت بها الحرب في السودان غير مسبوقة، وربما سنحتاج لسنوات طوال قبل الإحاطة بكل جوانبها.
خسائر في العمر
الخرطوم لم تكن عاصمة المرضى فقط، عشرات الآلاف من طلاب التعليم العالي من شتى أنحاء السودان وحتى من خارج البلاد ينتسبون لجامعاتها، هذه الجامعات التي تحولت مبانيها إلى ثكنات عسكرية عقب نهبها وتخريبها، وفي حالة واحدة على الأقل، قبرًا لخريجيها، حيث دُفن "الطِّقيع" محب جامعة الخرطوم وابنها البار في ميدانها الغربي، وذلك عقب مقتله برصاصة قناص وهو في طريقه لداخل الحرم الجامعي الذي قضى فيه زهرة شبابه، وصار أحد ثوابته الأليفة ومشاهيره المعروفين.
إن الجيل الحالي بمؤسسات التعليم العالي في السودان تعرض لأنواع من المآسي الكفيلة بتحطيم آمال وطموحات أكثر الناس ثباتًا، حيث ووجه بالقمع خلال الثورة السودانية وقدم الشهيد تلو الشهيد حتى النصر، ثم ضاعت عليه سنوات دراسية غالية بسبب الاضطرابات السياسية التي أدت إلى تعليق الدراسة بالجامعات على عدة مرات، وقبل أن يتنفسوا الصعداء ضربت جائحة كورونا العالم ونتج عنها الإغلاق العام الذي ضيع عليهم المزيد من سنين العمر.
إبراهيم صالح الطالب بالمستوى الثاني بجامعة الرازي، شاب مثابر تفوق في امتحان الشهادة الثانوية السودانية في العام 2018، وأحرز نتيجة أدخلته كلية طب الأسنان بجامعة البحر الأحمر، ولكن نسبة للإغلاقات المتكررة للجامعة خلال الاحتجاجات الشعبية والصراعات القبلية والاضطرابات شرقي السودان، قرر النقل لجامعة الرازي الخاصة التي تقع مبانيها جنوبي العاصمة الخرطوم، فالجامعات الخاصة قلما تغلق أبوابها، وذلك لغياب النشاط السياسي نسبيًا فيها، واستقلاليتها لحد ما عن سلطة التعليم العالي، ما يمنحها قدرًا من الحرية في مواصلة الدراسة على الرغم من الإغلاقات الكثيرة التي طالت الجامعات الحكومية.
في حديثه لـ"الترا سودان" قال هذا الطالب المتعطل عن الدراسة الآن بسبب الحرب، إنه كان يشعر بالامتنان للفرصة الثانية التي توفرت له في جامعة الرازي بالخرطوم، وذلك على الرغم من صعوبة التغيير والانتقال بعد سنوات في البحر الأحمر، ولكن حلمه في إكمال تعليمه الجامعي كان الدافع الأكبر لتجاوز الإحباط وهواجس البدايات الجديدة، ذلك بالإضافة للدعم المادي والمعنوي السخي الذي وفرته له الأسرة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد إبان فترة الحكومة الانتقالية.
عشرات وربما مئات الآلاف من الطلاب الجامعيين في السودان الآن مثل إبراهيم توقفت دراستهم مرة أخرى بسبب الحرب، والكثيرون مروا بتجارب مشابهة لمحاولة تقليل الأضرار التي تسبب بها الواقع المضطرب في السودان السنون الماضية. يقول والد إبراهيم لـ"الترا سودان": "على الأقل في الأزمات السابقة التي واجهت دراسته الجامعية كانت لدينا حلول بديلة مثل النقل لجامعة خاصة على الرغم من التكلفة العالية على اقتصاد الأسرة، لكن هذه المرة كل الطرق مسدودة"، يشعر هذا الأب بالحسرة ويوحي حديثه بشعور مؤثر بقلة الحيلة.
مسؤولون غير مسؤولين
وتحاول العديد من الأسر المسارعة لإرسال أبنائها خارج البلاد لمواصلة دراستهم دون هدر مزيد من الوقت، بالذات مع تطاول أمد الحرب دون أفق للحل والتخريب الشامل الذي طال مؤسسات الدولة المعنية ومباني الجامعات، ما يعني صعوبة العودة للأوضاع الطبيعية في الخرطوم حتى بعد توقف القتال بوقت طويل. ولكن هنا تظهر أزمة أخرى هي أيضًا تحت بند الخسائر الثانوية رغم فداحتها، فقد شلت الحرب جميع المؤسسات الخدمية، وغابت الدولة والهياكل الإدارية والمؤسسات، فلم يتمكن الأهالي والطلاب من استخراج جوازاتهم ولا شهاداتهم الضرورية لمحاولة اللحاق بقطار العمر خارج السودان، وعلق الملايين داخل البلاد لا يلوون على شيء.
وحتى كتابة هذه الأسطر بعد مضي أكثر من أربعة أشهر من الاقتتال بين الجيش والدعم السريع، لم تتمكن الدولة ولا حتى من استئناف استخراج الأوراق الثبوتية للمواطنين، ناهيك عن حماية المدنيين في مناطق النزاع وإغاثة المنكوبين والنازحين، وهذا الفشل لا يمكن فهمه إلا في إطار تضاؤل قيمة الإنسان أمام هذا الجهاز الاستعماري الذي لا يعنيه سوى جني الريع لصالح مختطفيه المتعاقبين منذ الاستقلال حتى وصل به التفسخ لما نراه الآن من فظاعات في شوارع المدن وعلى شاشات القنوات الإخبارية.
في حلبة هذا الصراع الدموي ضاعت مصائر الملايين تحت أقدام الجنرالات
ومع استمرار المعارك بشتى أنواع الأسلحة داخل الأحياء السكنية وبيوت المواطنين، لا يستطيع أي محلل سياسي أو حتى صانع قرار التنبؤ بمتى وكيف ستنتهي هذه الحرب، خصوصًا بعد التكلفة العالية التي دُفعت والجرائم الشنيعة التي ارتكبت والتدمير الشامل للبنية التحتية الفقيرة ابتداءً. ولكن على الرغم من ذلك كان من الممكن لمن تولوا زمام المسؤولية بحكم الأمر الواقع، إبداء بعض الاهتمام بمصائر السودانيين وتسهيل أحتياجاتهم الضرورية بالأخص في الظروف الحالية التي تتطلب حتى التفاني والتضحية والمثابرة، ولكن لم يجد هذا الشعب المظلوم سوى التجاهل والإهمال.
ويمكن صياغة الكثير من الحجج التي تبرر ضرورة الحرب الحالية في السودان، وحتى وضعها في سياق الواجب الأخلاقي والوطني المبدئي الذي لا يمكن التنازل عنه، بل وحتى فداءه بالنفس والمال، ولكن تبقى حقيقة أن في حلبة هذا الصراع الدموي ضاعت مصائر الملايين تحت أقدام الجنرالات، فقد سحقت أفيال السلطة في الخرطوم السودانيين دون رحمة ولا حتى التفاتة إشفاق.