02-نوفمبر-2019

عبد الله حمدوك (إندبندنت العربية)

لوهلة تتبدى صعوبات السنوات الطوال تحت وطأة نظام الإنقاذ الشمولي الدموي، الذي تمدد في كل المساحات وحاصر منافذ العمل السياسي والثقافي والاجتماعي، والنشاط الاقتصادي. لم يترك النظام البائد منفذًا الإ وتسللت منه كوادره وقوانينه وقيوده، كعنصر مؤثر وكابح للفعل والعقل المعارض، الذي يواجه صعوبات في إدراك انهيار النظام، وفي النهوض لقيادة المرحلة كتحالف حاكم للبلاد بعد ثلاثين عامًا من العمل المعارض بما يعبر عن الثورة وأهدافها.

ما زال العديد من كوادر النظام المنهار في حالة إنكار وعدم تصديق لما حدث

 للحق، فإن هذه الحالة الراهنة تبدو مبررة بالنظر لتطاول أمد بقاء النظام في الحكم، وقدرته على تجاوز أحلك وأصعب التحديات التي واجهته من تمردات عسكرية، وصلت مغامراتها حتى القتال داخل الخرطوم، وهبات جماهيرية ظلت تتكرر باستمرار طيلة السنوات الأخيرة من حكمه، كانت أعنفها وأكبرها أثرًا وخطرًا هبة أيلول/سبتمبر 2013، التي أوشكت أن تطيح به لولا لجوئه للقمع الوحشي واستخدام القتل المفرط في مواجهتها.

اقرأ/ي أيضًا: رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات

واقع معقّد

هذا الواقع المعقد خلق حالة من عدم تصور إمكانية سقوط النظام، وبالتالي التفكير في سيناريوهات اليوم التالي لذلك السقوط. وللمفارقة فإن هذا الواقع يمتد حتى لكوادر ذلك النظام، التي لم تستوعب بعد كيف أفلحت الثورة التي فجرها طلاب المدارس الثانوية في ولايات البلاد النائية عن مركز السلطة، جراء غضبتهم لعدم توافر أرغفة الخبز والمواصلات، أن تتدحرج مثل كرة الثلج حتى تستوي على الأرض، ثورة جارفة تؤدي لإسقاط نظام أحصى على الناس أنفاسهم، وتصيد كل حركاتهم وسكناتهم بل تنصت حتى على مكالماتهم الهاتفية، واخترق حتى حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحقهم في أماكن العمل والأحياء السكنية، وتفنن في شق صفوفهم وتفتيت وحدتهم بإثارة الضغائن والخلافات واختراقهم بعناصر مدربة لذلك الغرض. وما زال العديد من كوادر النظام المنهار في حالة إنكار وعدم تصديق لما حدث.

حسنا! لقد هزم أهل السودان نظام الإنقاذ وشيعوا أفكاره إلى مزبلة التاريخ، وقد كشفت الهبة الجماعية التي استمرت لما يزيد حتى الآن عن العشرة أشهر، عن قطيعة لا مثيل لها بين الأجيال التي خرجت للشوارع لإسقاط النظام مع كل أرثه، وقد حولت أهازيج الثوار وأناشيدهم ونكاتهم الذكية اللماحة، ذلك النظام القمعي البوليسي المخيف داخليًا وخارجيًا، والذي حرس سلطته بالدم والمعتقلات والمليشيات إلى محض أضحوكة بشعاراته وأكاذيبه ورموزه وإعلامه.

مضت الثورة السودانية مثل نسمة طليقة في الفضاء، من بيت لبيت في كل البلاد، بسخريتها من كل ذلك الرصيد المدهش من الكذب والتدليس والنفاق، حتى صار مجرد انتماء الشخص لذلك النظام سببًا في الاختباء والإنكار.

 اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

وقد حاول العقل العسكري الأمني-الذي طالما قهر وقمع السودانيين- ردهم وكسر شوكتهم، حينما أطلق العنان لفئة من عناصره، التي تربت على الحقد والكراهية ونمت على إمتيازات السلطة، فكانت مجزرة القيادة بكل إجرامها وعنفها الوحشي العاري، آخر ما يملك النظام القديم وبعض أعوانه من العسكر، لدحر الشعب وتفتيت توحده، باستخدام نظرية الصدمة والرعب والترويع، بجرائم وحشية لم تفرق بين شيخ وشاب رجل أو امرأة، بل طالت حتى الأطفال والرضع، لإنهاء الثورة المتطاولة والعصيان الذي عم مختلف أنحاء البلاد، ولكن رد الشعب كيدهم في نحورهم والقمهم حجرًا، حينما داس على جراحه ونهض من جديد ليهزم الوحشية ويفضح جلاديه، ويحيلهم إلى مجرد مجرمين يجتهدون للهرب بفعلتهم وإخفاء آثارها، بعدما أرغموا على تقبل حقيقة أنهم هزموا وسقط المشروع الزائف الذي حشدوا السلاح لحمايته، بسلاح أقوى مما يتصورون؛ الثورة السلمية.

والحال كذلك وبعد هذا الصعود السوداني العظيم، وحتى الآن تبدو الخطى متعثرة للقوى السياسية المشكلة لتحالف الثورة الحرية والتغيير، وأقل استعدادًا لتولي زمام المبادرة والإنفكاك من أسر العقود الثلاثة، في مسارات العمل المعارض كتحالف حاكم للبلاد، ينتظر منه الثوار أجوبة عاجلة حول أهداف وشعارات ثورتهم.

هذا الانتقال لن يتحقق تلقائيًا وهو يتطلب استيعابًا لحقائق أفرزها إنتصار الثورة. أولها أن التعامل مع تحديات إدارة جهاز الدولة هو شأن يقتضي الاستعانة بأهل الخبرة ممن يعلمون خفايا وقوانين ونظم الدولة، وقد كان أمرًا محيرًا عدم الاستعانة بالرصيد الكبير الذي تمتلكه القوى المعارضة من مفصولي الصالح العام وضحايا الفصل التعسفي الذين شردتهم ممارسات الإنقاذ، ويمثل هؤلاء رصيدًا من الكفاءات والخبرات أشبه بجهاز استشاري في مختلف مجالات الخدمة المدنية.

اقرأ/ي أيضًا: تركة البشير البالية.. دولة موازية تؤرّق السوادنيين

ماذا يحتاج التحالف؟ 

وتقتضي المعادلات الجديدة كذلك إعادة تأسيس التحالف الذي تشكل على عجل للحاق بوقع الثورة المتسارع على الأرض، بما يشمل هياكل هذا التحالف وبرامجه وأهدافه، وصياغة رؤية متكاملة للعمل السياسي لإسناد السلطة الانتقالية وآليات لحمايتها، وإعادة بناء شاملة لكل الأجسام والكيانات التي أفرزتها الثورة، وبلورة رؤية متكاملة حول طبيعة إسهامها وأدوارها، بما في ذلك المساهمة في عملية تحرير جهاز الدولة من القاعدة للقمة، بما يضمن قطع الطريق أمام عناصر الثورة المضادة، ومؤامراتها التخريبية التي تبرع فيها لإفشال عمل السلطة الانتقالية وخلق الأزمات التي تؤلب الشارع عليها.

ويحتاج هذا التحالف أيضًا للتأسيس والبناء في مختلف أنحاء السودان، وفك القبضة المركزية على رؤى وأفكار العمل السياسي، وفتح الباب للكيانات والتنظيمات السياسية والإجتماعية بمختلف أنحاء السودان، للتعبير عن نفسها ووجودها داخل هياكل التحالف، والتصدي لقيادة العمل السياسي في مختلف أنحاء البلاد، وتشكيل مؤسسات الحكم بما يساهم في الاستقرار والأمن ويضمن تحقيق رغبات الجماهير، ويعزز من خدمة أهداف كل إقليم ومطلوباته التنموية والاقتصادية، وإزالة العوائق وحل الاشكالات المزمنة التي خلقها النظام البائد.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية

لقد شهد الشهر الأول لتولي الحكومة الانتقالية لمهامها حالة فراغ سياسي وتراجع كبير في عمل التحالف، وتركت الحكومة بلا برنامج عمل وغطاء سياسي كانت أحوج ما تكون إليه، وقد استغلت عناصر النظام البائد ذلك الفراغ لتحاول تجميع شتاتها، والعمل على إثارة الغضب والتأليب على الحكومة الوليدة، دون أن تجد من يتصدى لذلك في حالة السيولة التي نتجت عن تأخر حل أزمة أختيار رئيس القضاء والنائب العام، التي بدورها قوبلت بغضب عارم بسبب قضية محاسبة المتسببين بمجزرة القيادة، ومع حالة السخط التي تنامت بسبب تراخي وتهاون المجلس العسكري في التعامل مع قيادات النظام البائد ومؤسساته، وقد ساهمت كل تلك العناصر مجتمعة في تشكيل حالة سخط عام على قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين باعتبارهما يمثلان القوى القائدة للثورة.

التعامل مع تحديات إدارة جهاز الدولة هو شأن يقتضي الاستعانة بأهل الخبرة ممن يعلمون خفايا وقوانين ونظم الدولة

الفرصة الآن ماثلة لتدارك كل ذلك عبر صياغة رؤية متكاملة للعمل التحالفي لقوى الحرية والتغيير، يستند على حقيقة أنها التحالف الذي يحكم البلاد فعليًا، وأن تكسر حالة السكون بنشاط يغمر الساحة السياسية، ويعزز من انخراط حركة الجماهير الناهضة في عمل كبير يتناسب مع حجم الثورة، ويعيد التوازن للبلاد في طريق العبور نحو تحقيق شعارات وأهداف الثورة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟

مواكب لحراسة مكتسبات الثورة.. الأولوية للسلام ومحاسبة الفاسدين!