16-أبريل-2020

إدوارد لينو (سودانيز أونلاين)

توفي أمس بالهند أحد القادة التاريخيين للحركة الشعبية لتحرير السودان وهو كذلك أحد القادة السودانيين، ممن أمضو حياتهم كاملة في سبيل قضاياهم التي آمنوا بها، وهي بلا شك قضايا لصيقة بتحرير الأوطان وهموم الشعوب وحريتها، ومثلما يتنازع السودان وجنوب السودان تبعية منطقة أبيي التي ينحدر منها إدوارد لينو، سيظل سكان أبيي يحملون هويتي وجنسيتي البلدين.

توفي أمس ابن عشيرة دينكا نقوك الشاعر والمناضل والمفكر إدوارد لينو حاملًا معه أحلامًا لم تكتمل ببناء وطنٍ يسع الجميع

مضى ومعه حلم لم يكتمل

مضى بالأمس ابن عشيرة دينكا نقوك الشاعر والمناضل والمفكر إدوارد لينو حاملًا معه أحلامه ببناء وطنٍ يسع الجميع. أحلام لم يكتب لها بعد أن تتحقق، لكنها ما تزال تسيطر على الكثيرين من أبناء جنوب وشمال السودان، ولن تراوح وجدانهم دون أن يحققوها كاملة.

اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان: تنامي خطاب الكراهية ضد الأجانب بعد إصابات بكورونا لموظفين أمميين

رثى إدوارد لينو كثيرون منذ أن حملت الأنباء خبر رحيله، لكن من بين جميع الناعين، تطل كلمات الشاعر والروائي والمسرحي فضيلي جماع في نعي إدوارد لينو لتقول الكثير عن علاقة تجاوزت الأطر الشخصية، لتفصح عن عمق تواشج اجتماعي وتلاقح ثقافي بين عشيرتين وثقافتين طالما تجاورتا وتعايشتا وتناحرتا وتحاربتا طويلًا.

رثاء فضيلي جماع ابن عشيرة المسيرية التي تقطن منطقة أبيي متجاورة مع عشيرة إدوارد لينو دينكا نقوك، ومتناحرة ومتنازعة معها الأحقية في المنطقة، يثبت أن الأواصر الاجتماعية تتجاوز الخلافات السياسية والاختلافات الثقافية والنزاعات الإثنية، فالمنطقة التي ينحدر منها الشاعران والمناضلان ما تزال متنازعًا عليها بين السودان وجنوب السودان، وبين المسيرية الذين تميل أفئدتهم للسودان والدينكا الذين تميل أفئدتهم للجنوب.

أخوة الدم والتراب والمصير المشترك

كتب فضيلي جماع بالأمس على حسابه الشخصي بفيسبوك ناعيًا صديقه ورفيقه في النضال وابن بلدته إدوارد لينو ومتطرقًا لبداية معرفته به لا كأبناء عشيرتين من البقارة، متناحرتين ومتنافستين على الكلأ والماء لماشيتهم، بل كأبناء منطقة واحدة، يقول: "عرفت إدوارد الذي كان زميلًا لأخي علي جماع بكلية الآداب-جامعة الخرطوم، ولشلة من أبناء المجلد وأبيي منهم أحمد جبريل علي (أحمد مرعي)، وكامل بابو نمر وآخرين تفصل بيننا وبينهم ثلاث أو أربع سنوات. ورغم فارق السن إلا أنّنا كنا إذ نلتقي في قهوة النشاط بجامعة الخرطوم يذوب حاجز السن إلا من الاحترام والتوقير بين الكبير والصغير".

يحكي فضيلي جماع عن آخر لقاء جمعه بالراحل إدوارد لينو، حيها قال له الأخير إن البعض أشاع بين الناس أن إدوارد لينو يكره المسيرية، يقول فضيلي جماع، إن إدوارد لينو أضاف بمرارة: " كيف يا صديقي أكون ضد أهلنا المسيرية وأنا أملك قطعة أرض بالمجلد سجلتها بشهادة الناظر مختار بابو نمر؟ القطعة جوار منزل جدي المرحوم النور دلدوم بحي دفاع.. وجدي من الشخصيات المعروفة والمحبوبة بالمجلد كما تعلم".

اقرأ/ي أيضًا: تقاسم الولايات.. أزمة جديدة تطل برأسها بين شركاء الحكم في جنوب السودان

يحكي فضيلي جماع أنه حاول تطييب خاطر إدوارد لينو، مقللًا من الأمر ومبينًا أن الخلاف واختلاف وجهات النظر حول قضية أبيي الوطن المشترك لكليهما، تسبقه العلاقات التاريخية بين عشيرتي نقوك والمسيرية، وأن إراقة الدماء ليست واردة إلا لمن يجهلون متانة التعايش بين العشيرتين، التي يعتبر جماع أنها تمخضت عن روابط قوية أقواها صلة الرحم والصداقات التي ورثها الأبناء عن الآباء عن الأجداد. ويضيف جماع: "لكنا نعيش زمن التيه في سودان شطرته الكراهية والحروب لشطرين".

وداع الشاعر للشاعر!

ويختتم جماع رثاءه لرفيقه وصديقه وابن بلدته بقصيدته الموسومة "دمع عتابك أخجلنا"، والتي سبق وأهداها جماع لإدوارد لينو، حينما قدم للخرطوم مع وفد السلام الذي سبق العودة التاريخية للدكتور جون قرنق دي مبيور رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 2007.

القصيدة التي تقول بعض مقاطعها:

أيها القادم من ليل المنايا

تحمل الورد..

وفي خطوك زهْوُ الانتصارْ

سر على مهلك واذرف

مطر الدمع لميلاد النّهارْ!

هذه الأرض التي نعشقها

والتي تحملها نبضًا وشعرا

تزدري الموت

وتأبى الانكسارْ!

هي فينا..

وطنٌ يسبح في دمعك

ينداحُ شجونا

ثمّ يرتدُّ إلينا:

دمعةٌ تفضحنا

دمعةٌ تجرحنا

دمعةٌ تمنحنا عمرًا

ووردًا وفرحْ!

دمعةٌ من قلبك العامر بالحبِّ

تماهت.. وتداعتْ

جدولًا يسقي روابينا

وأقواسَ قزحْ!

صافرة الإنذار الأخيرة

برحيله أمس فقد السودان وجنوب السودان أحد أعمدته الركيزة وعقوله الخصبة التي ما نضبت من العطاء، وأحد قديسيه الذين حاربوا الطغيان لكنهم رفضوا إراقة الدماء لأجل تثبيت الحكم وقمع تطلعات الشعوب، وهو ما تعكسه سلسلة مقالات مليئة بالحكمة والإنسانية كتبها الراحل إدوارد لينو وترجمها محمد علي جادين، كانت بعنوان "من إدوارد أبيي لينو إلى شعب جنوب السودان". حينها كان شعبه يذوق ويلات الحرب الأهلية الأولى بعد الانفصال، نقتبس منها: "عندما ننظر لأنفسنا اليوم داخل مجتمعنا، الذي تعرض لممارسات جنونية غير إنسانية، سوف نستغرب لهذه الروح الشريرة، التي سيطرت علينا وحولتنا إلى حيوانات مفترسة، وقد ننهار ونتلوى ونشعر بالحزن. ولكن دون جدوى".

كانت كتابات إدوارد لينو بمثابة صافرة إنذار أخيرة للقيادات السياسية بجنوب السودان لتدارك وطنها، صدح بها بشجاعته المعهودة ومضى

أو حينما كتب: "نحتاج إلى مخاطبة أنفسنا بطريقة موضوعية وأن نضع مسافة بيننا وبين المشاكل العملية، فبعد ثماني سنوات، مثلًا، من الحكم الذاتي والاستقلال، لماذا لا تقود أنابيب النفط إلى نمو سريع؟ لماذا تتدهور خدمات الكهرباء؟ متى تقف مدارسنا على أرجلها لتعليم أطفالنا؟".

وكانت هذه المقالات وغيرها مما خطه إدوارد لينو بمثابة صافرة إنذار أخيرة للقيادات السياسية بجنوب السودان لتدارك وطنها، صدح بها بشجاعته المعهودة ومضى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فضيلي جمّاع.. المشي على حبل الكتابةِ المشدود

فنانون تشكيليون يرسمون "جداريات" للتوعية بفيروس كورونا في جوبا