لم يعد التغيير الذي أحدثته الصعوبات الاقتصادية والمعيشية مقتصرًا على أنماط استهلاك الغذاء وشراء الاحتياجات الأساسية في السودان، وإنما طال أيضًا الدواء؛ إذ يضطر الكثيرون من أصحاب الأمراض لا سيما المزمنة إلى التخلي عن شراء بعض الأدوية لصالح توفير المال للمرض الأكثر خطورةً على حياتهم، كما يلجؤون إلى الشراء بنظام تجزئة العبوة حسب مقدرتهم الشرائية.
صيادلة لـ"الترا سودان": تقلص عدد أصناف الأدوية المتداولة في السودان إلى أقل من (1000) صنفٍ مقابل (3800) صنفًا في 2014
ومع زيادة أسعار الدواء، كشف صيادلة في حديثهم لـ"الترا سودان" عن انعدام "تام" للأدوية المنقذة للحياة في الإمدادات الطبية، لا سيما وأنها الجهة المسؤولة عن توفيرها. وتأتي أدوية علاج السرطان على رأس الأدوية الغائبة عن رفوف الصيدليات والمستشفيات المتخصصة في علاج السرطان.
وانخفضت كمية الأدوية المستخدمة في السودان في وقت يشير فيه مسؤولون إلى أن الحرب الروسية في أوكرانيا ألقت بظلال سلبية على مستقبل استيراد الأدوية وتصنيعها في الكثير من الدول ومنها السودان، لكن صيادلة يؤكدون أن سوق الأدوية تقلص كثيرًا بالأساس قبل سنوات من الحرب الروسية، كما أن أزمة تهاوي سعر العملة الوطنية أمام الدولار مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام. وتقلص عدد الأصناف المتداولة في السودان إلى أقل من (1000) صنفٍ مقابل (3800) صنفًا في 2014. ومنذ آب/أغسطس الماضي توقف الدعم المباشر للأدوية المزمنة، ما أدى إلى دخول الأدوية المهربة بأسعار مرتفعة.
وأكد عمر تميم وهو صيدلي بمنطقة جبل أولياء جنوبي الخرطوم لـ"الترا سودان" ارتفاع أسعار الأدوية، كاشفًا عن ارتفاع في أسعار "الأنسولين" من (700) إلى (1500) جنيهًا، وكذلك ارتفاع أسعار المحاليل الوريدية من (400) إلى (1000) جنيهٍ. وبحسب عمر، فقد وصلتهم التسعيرة الجديدة من دون تبريرات لأسباب ارتفاع أسعار الدواء في الوقت الراهن.
ويعزو الأمين العام لجمعية حماية المستهلك الدكتور ياسر ميرغني ارتفاع أسعار الدواء إلى السياسات الحكومية وتنفيذ سياسات السوق الحر من دون وضع لاعتبارات الواقع. وفي حديثه لـ"الترا سودان" يردّ ميرغني أزمة ارتفاع الأسعار والندرة في الدواء إلى عدم توفر العملة الحرة (الدولار) خصوصًا بعد أن رفعت الحكومة يدها عن دعم الدواء.
لكن ميرغني الذي يعمل صيدليًا إلى جانب كونه أمينًا عامًا لجمعية حماية المستهلك، يصف الزيادات في سعر الأنسولين بـ"غير المبررة" لجهة أن الحكومة السودانية سبق أن تعاقدت مع مصنعٍ لإنتاج الأنسولين بالنرويج على توفيره بسعر (40) جنيهًا للمستهلك ولمدة خمس سنوات، قبل أن يعود ويحمل هذا الارتفاع إلى من أسماهم "المضاربين"، مشيرًا إلى أن هذا الأمر ما كان ليحدث لو أن الحكومة جادة في توفير الدواء لمواطنيها. وينتقد ميرغني الحملة ضد توفير الدواء المجاني في المستشفيات ما يتسبب في تهريبه إلى السوق الأسود.
ويعجز كثير من السودانيين عن شراء الأدوية المهمة في ظل الارتفاع المطرد في أسعارها، حتى أضحى الجهر بالأوجاع مرهونًا بتوفر المال، بينما لا تلوح في الأفق أي بوادر لتسكين هذه الآلام في ظل استمرار انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار وتردي الأوضاع الاقتصادية في البلد المضطرب سياسيًا.
ويقول مواطنون إن أسعار الدواء أضحت تفوق قدرات الكثيرين. ولا ينكر الصيادلة هذا الواقع؛ إذ تقول أميرة حسين الصيدلانية لـ"الترا سودان" إنهم باتوا لا يحتملون منظر عجز المرضى وذويهم عن الحصول على الدواء بسبب ارتفاع الأسعار، لكنهم في المقابل مجبرون على التعامل مع هذا الواقع في انتظار الوصول إلى حلول تبدو بعيدة المنال في الوقت الحالي - وفقًا لأميرة.
جمعية حماية المستهلك: الحل الوحيد لأزمة الدواء هو تطبيق نظام التأمين الصحي وفقًا لقيم العدالة ومسؤولية الحكومة عن مواطنيها وبالطبع الحسم
ويشكو المواطن عادل يوسف لـ"الترا سودان" أنه سيجد صعوبة بالغة في الحصول على الجرعة المقررة له من الأنسولين في ظل استمرار ارتفاع أسعاره بالمقارنة مع دخله الذي يتقاضاه كموظف في الحكومة والمئات مثل عادل يتحسرون على أن "الدواء متوفر ولكنه ليس في متناول أيدي الجميع". بينما يرى ياسر ميرغني الأمين العام لحماية المستهلك أن الحل الوحيد لأزمة الدواء هو تطبيق نظام التأمين الصحي وفقًا لقيم العدالة ومسؤولية الحكومة عن مواطنيها وبالطبع الحسم – على حد تعبيره.