التراث الغنائي السوداني غني وثري حتى لا يكاد يُسبر، ولا أظن أحدًا يستطيع الادعاء أنه سمع كل الأغنيات. لكن الخصيصة الأبرز في الأغنية السائدة، هي أن الغناء ذكوري بامتياز، وحُصرت المرأة المغنية في أدوار أخرى مثل الحماسة، المناحة "الرثاء"، إلا أن ما يُسمى بالغناء الحديث، ما يعرف بأغنية أم درمان تحديدًا، وبناتها اللاتي أنجبتهن؛ ذكوري يتحدث دائمًا عن "حبيبة" يتغزل فيها المغني، أو يشكو هجرها، أو يطلب وصالها... إلخ.
هناك ما أسميه "غناء الأطراف"، والذي يكاد يكون حصرًا على المغنيات النساء، اللاتي يَعبُرنَ بجرأة تامة إلى الغزل في الذكور. لكن ثمة ميل اجتماعي إلى اعتباره غناء "هابطًا"
ما الأثر الواقع على النساء من كون أكثر الغناء يجعل المرأة موضوعًا؟ في الحافلة وأنا أستمع لأغنية محمد ود الرضي (1884-1982)، "أنا في التمني"، وهي من أغنيات "الحقيبة"؛ عظم وهيكل وأساس أغنية الوسط الحديثة في السودان؛ ويصف فيها ود الرضي مقاييس جمال المحبوبة الفيزيائية؛ نظرت حولي إلى المنصتات، محاولًا قراءة إجابة لتساؤلي: هل يا ترى تقيس كل واحدة منهن مكانها بين الأخريات بمدى ما حصدته من ميزات تعددها الأغنية؟ ثم أين غناء وغزل المغنيات في الرجال؟ حسنًا، هذا صعب بالتأكيد، فالسودانيون محافظون تقليديون كما يقال، ولو جرؤت إحداهن على التشبيب بحبيبها، لعد ذلك "قلة أدب" اجتماعية، بينما يعتبر تشبيب الرجل المغني، فنًا مُطربًا مسموحًا به.
اقرأ/ي أيضًا: صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم
هناك مغنيات بالطبع، لكن الغالب على ما يغنينه هو الغزل في "المحبوبة"، لكون شاعر الأغنية رجلًا، أما حين يغنين عن الرجال فإنهن يلتزمن المحاذير الاجتماعية، فلا يذكرن اسم الرجل، بل يشرن إليه ضمنًا، ويكون الغناء عنه "مدحًا" بصفات الجود والكرم وغيرها من معايير الرجولة التقليدية، أكثر من كونه غزلًا. أما خارج أغنية الوسط المسيطرة، فيمكننا أن نجد في المجتمعات السودانية الأكثر انفتاحًا، تشبيبًا صريحًا بالمحبوب الذكر، ولنأخذ أغنية "أندريا" مثلًا التي كتبتها شاعرة ريفية "حكَّامة" من بادية كردفان. لكن في الوسط، ظل المغنون يعدون "صعاليك وقليلي تربية"، فما بالك بالمغنيات؟
أيضًا، هناك ما أسميه "غناء الأطراف"، الذي يكاد يكون حصرًا على المغنيات النساء، اللاتي يَعبُرنَ بجرأة تامة إلى الغزل في الذكور. لكن ثمة ميل اجتماعي إلى اعتباره غناء "هابطًا" على الرغم من أنه تعبير غير متكلِّف عن الحياة العاطفية في أطراف المدينة، ببساطة لا تأبه للمعايير الرسمية. هو وجه لثقافة منتشرة إلا أنها غير مسموح بها، ولا تنال اعترافًا تامًا، إلا أن ثمة منافذ أخرى تتنفس منها، أوسعها "اليوتيوب" وحفلات "الحناء" النسائية، حتى في قلب المدينة.
وبالعودة إلى رد الفعل النفسي لدى النساء حين سماعهن الغزل المغنَّى في بنات جنسهن؛ لا يزال ينتابني الفضول كلما رأيت إحداهن طربةً لأغنية، إن كانت من مغنٍّ أم مغنية، وأنا أخمِّن أن تأثير هذه الأغاني قد يتجاوز تشكيله لجانب كبير من "ثقافة الأنوثة"؛ إلى كونه حقلًا للحرث من قبل "النسوية"، إذ لا يمكنني إلا التفكير كثيرًا في نوع القيود التي تضعها مثل هذه الثقافة على نحت الأنثى لمسارات حياتها.
هل الغزل الكثيف في المرأة مغنىً ومسموعًا منها، يشتغل في بعض تمثلاته على حبسها في قالب الجمال الذكوري المحض؟ بالنسبة إليَّ الإجابة نعم. إن الأغنيات نموذج يستمد قوة من تعبيره عن حالات مشتركة تصيب الجميع، لكن ما الذي ستفعله امرأة تطرب للغزل فيها وفي أوصاف يحبها لأجلها الرجل؟ ما الأثر عليها من كونها دائمًا "محبوبة" وليست "مُحبَّة" في كامل التعبير الشعري والصوتي؟ أين ستذهب محبتها/رد الفعل تلك كلها، طالما لا تقال؟
اقرأ/ي أيضًا:
الفريق الأوليمبي الذي لا علم له
"الدَّكْوَة".. زينة المائدة السودانية