12-أكتوبر-2024
محمد حمدان دقلو والرئيس الإثيوبي آبي أحمد

تربط محمد حمدان دقلو علاقة قوية مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد (إكس)

في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2024، خرج قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي"، في خطاب مصور استغرق نحو (40) دقيقة تناول فيه سرديته للحرب الجارية في السودان، لائمًا فيه الاتفاق الإطاري، ومجموعات قبلية، وفلول النظام البائد، والإسلاميين، والجيش السوداني، وبعض دول الجوار، والولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي بالتسبب في الحرب القائمة منذ نيسان/أبريل 2023. كان الخطاب فوضويًا؛ يتقافز فيه حميدتي بين المواضيع دون أن يحتفظ بخيط أفكار واضح أو حتى سردية متناسقة تصلح للتداول، ما دفع البعض للقول بأن الرجل يشعر بالمرارة من الهزائم القاسية التي تتلقاها قواته في عديد الجبهات، وفوق ذلك، مخاطر انهيار القوة شبه العسكرية التي فقدت عشرات الآلاف من منسوبيها المدربين خلال الصراع، بالإضافة إلى فقدانها الموقف الأخلاقي والدعم السياسي جراء الجرائم المروعة التي ارتكبتها وما تزال بحق المدنيين في السودان.

هذه الاتهامات لمصر تعد التصعيد الأول من نوعه من جانب قوات الدعم السريع تجاه دولة في الإقليم، إذ يتهم محمد حمدان دقلو "حميدتي" مصر بالتدخل العسكري الفعلي، سواء عبر الطيران الحربي أو دعم الجيش بالسلاح

لكن مطلع الخطاب كان هو الأبرز بالنسبة للمتابعين للمشهد السوداني عن كثب؛ فخطابات حميدتي المرتجلة جميعها تتشارك في هذه الفوضوية وهو دائمًا ما يلجأ للمظلومية. في أولى دقائق حديثه، اتهم دقلو دولة مصر بالمشاركة الفعلية في الحرب السودانية، مدعيًا أن الطيران الحربي المصري قد قصف قواته في منطقة جبل موية الاستراتيجية، ما تسبب في هزيمتهم واسترداد الجيش للمنطقة الأهم في وسط جنوب شرق السودان. كما عاد خلال حديثه لاتهام مصر بأنها قد قصفت قواته في معسكر كرري في الخرطوم في الساعات الأولى للحرب، كما قال إن مصر تزود السودان بالقنابل الضخمة التي تحصد أرواح جنوده في شتى الجبهات.

بعدها، خرج الناطق الرسمي لقوات الدعم السريع ببيان جدد فيه الاتهامات للسلطات المصرية، قائلًا إن سلاح الجو المصري شارك في القتال إلى جانب الجيش "في قصف معسكرات قوات الدعم السريع"، الحادثة التي وصفها بـ"المجزرة"، حيث قُتل في بداية الحرب جراء القصف أكثر من أربعة آلاف من الجنود. وأضاف: "لم تتوقف الحكومة المصرية أبدًا عن تقديم الدعم العسكري للجيش من سلاح وذخائر وقنابل الطائرات والتدريب، إلى جانب الدعم الفني والسياسي والدبلوماسي والإعلامي"، مدعيًا ضبط "مرتزقة مصريين" شاركوا إلى جانب الجيش في الحرب القائمة بالسودان منذ نيسان/أبريل 2023.

هذه الاتهامات لمصر تعد التصعيد الأول من نوعه من جانب قوات الدعم السريع تجاه دولة في الإقليم، إذ يتهم محمد حمدان دقلو "حميدتي" مصر بالتدخل العسكري الفعلي، سواء عبر الطيران الحربي أو دعم الجيش بالسلاح. هذا التصعيد يتزامن مع التحركات المصرية المتزايدة في منطقة القرن الإفريقي، لا سيما في ضوء القمة الثلاثية التي انعقدت في أسمرا بتاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر 2024 بين رؤساء مصر وإريتريا والصومال، وتضمنت مشاورات بشأن مسائل إقليمية ودولية وصفها البيان الختامي للقمة بأنها "حيوية".

الدعم السريع وإثيوبيا

في كانون الأول/ديسمبر 2020، كشفت صحف محلية في السودان مطلعة على الملفات العسكرية عن رفض قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، الذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس مجلس السيادة، المشاركة في العمليات العسكرية التي قادتها القوات المسلحة السودانية لاستعادة السيطرة على مناطق الفشقة التي كانت تحتلها إثيوبيا. عدم مشاركة الدعم السريع في المعارك تسببت في رفع العديد من الحواجب، خاصة وأنها كانت هي القوة الضاربة للجيش السوداني في العمليات البرية التي تقودها القوات المسلحة في مختلف المناطق منذ أعوام طويلة.

قال محللون حينها إن العلاقات التي تربط حميدتي بإثيوبيا من جهة، ومع الإمارات حليفة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد من جهة أخرى، هي السبب الحقيقي في رفضه للمشاركة. كانت الأطماع الإماراتية واضحة بالنسبة لقضية الفشقة، فقد اقترحت لاحقًا حلًا للنزاع بين البلدين يتضمن احتفاظها بمعظم المنطقة لإنشاء سوق حرة، ويتقاسم السودان وإثيوبيا البقية، بحسب ما كشف عضو مجلس السيادة الانتقالي، النائب الحالي لرئيس المجلس، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان مالك عقار، الذيانتقد عن هذه الصفقة في معرض احتجاجه على العرض الإماراتي الذي طرحته على السودان في زيارة قام بها وفد رفيع المستوى لأبوظبي لمناقشة النزاع الحدودي القديم المتجدد بين السودان وإثيوبيا.

ورقة بحثية: العلاقات القوية بين إثيوبيا والإمارات العربية المتحدة، الداعم الرئيسي للدعم السريع، قد تسهل التعاون بين هذه القوات وإثيوبيا

ربما كان الحدث الأدل على العلاقة الخاصة التي تربط قيادة الدعم السريع وآل دقلو القوية مع النظام الإثيوبي، هي الزيارة التي قام بها محمد حمدان رفقة القوني دقلو في العام 2020، والتي استقبلهم فيها آبي أحمد استقبالًا حافلًا، وتضمنت زيارات لعدد من المنشآت الاقتصادية في أديس أبابا وحولها. عقب الزيارة، نقلت وكالة السودان للأنباء إشادة حميدتي بـ"التطور الكبير الذي تشهده إثيوبيا"، وقال إن "ما يحدث في إثيوبيا من تنمية مشرف لنا في أفريقيا"، وأكد أن "النهضة الصناعية والتنموية من شأنها بعث الأمل في شعوب المنطقة"، واعدًا بـ"نقل التجربة الإثيوبية للسودان"، معتبرًا "الزيارة اقتصادية في المقام الأول".

كان حضور القوني حمدان، الأخ الأصغر لـ"حميدتي"، لافتًا في الزيارة التي لقيت صدى واسعًا داخل البلاد، لجهة الاستقبال الكبير من الرئيس الإثيوبي للوفد السوداني. القوني قبل هذه الزيارة لم يُعرف له أي حضور في الإعلام من هذا العيار، وثبتت الزيارة ما يُتداول عنه بصفته المسؤول الأول عن ثروات آل دقلو في الخارج والقائم على استثماراتها. مؤخرًا، أكدت ذلك العقوبات الأميركية التي فرضت عليه لما له من دور في توفير السلاح لقواتهم في حربها ضد الجيش السوداني.

وفي السياق، تقول ورقة بحثية لـ"شاتام هاوس"، صدرت في نيسان/أبريل من العام الجاري، إن العلاقات القوية بين إثيوبيا والإمارات العربية المتحدة، الداعم الرئيسي للدعم السريع، قد تسهل التعاون بين هذه القوات وإثيوبيا. فقد قدمت الإمارات العربية المتحدة دعمًا عسكريًا محوريًا للحكومة الإثيوبية خلال حرب تيغراي.

التحركات المصرية

ضمن صراعها المستمر مع إثيوبيا حيال سد النهضة ومياه النيل، تتحرك الحكومة المصرية منذ سنوات على النقيض من مصالح إثيوبيا في منطقة القرن الإفريقي، من خلال جهود دبلوماسية تهدف إلى تحجيم دور دولة المنبع في الإقليم. أبرز هذه التحركات مؤخرًا كانت عقب اتفاق الحكومة الإثيوبية مع الإقليم الانفصالي المعروف باسم "أرض الصومال" فيما يتعلق بالموانئ البحرية. أزعج الأمر السلطات الصومالية بشدة وصعدت في الخطاب ضد إثيوبيا التي تهدد وحدة أراضيها. سارعت مصر عقب الاتفاق الإثيوبي لاستضافة الرئيس الصومالي المعترف به دوليًا في القاهرة، حيث وقعت معه على بروتوكول عسكري بين البلدين يتضمن دعم الأصول البحرية للدولة الواقعة في القرن الإفريقي، وردع جهود إثيوبيا لتأمين الوصول إلى البحر عن طريق منطقة أرض الصومال.

وفي العاشر من الشهر الجاري، عقدت مصر وإريتريا والصومال قمة ثلاثية في أسمرا تضمنت "مشاورات مكثفة بشأن مسائل إقليمية ودولية حيوية"، حيث أكد رؤساء الدول الثلاث على ضرورة الالتزام بالمبادئ والركائز الأساسية للقانون الدولي باعتبارها الأساس الذي لا غنى عنه للاستقرار والتعاون الإقليميين، خاصة "الاحترام المُطلق لسيادة واستقلال ووحدة أراضي بلدان المنطقة" والتصدي "للتدخلات في الشؤون الداخلية لدول المنطقة تحت أي ذريعة أو مُبرر"، بحسب ما ورد في البيان الختامي للقمة.

التحركات المصرية، التي تهدف إلى محاصرة إثيوبيا جيوسياسيًا، تُقرأ في سياق تصاعد الخلافات حول سد النهضة. فالتنسيق بين مصر وإريتريا والصومال، كما ورد في البيان الختامي للقمة الثلاثية، يركز على تعزيز الاستقرار الإقليمي وتوجيه الجهود المشتركة نحو مواجهة التدخلات الخارجية، وهو ما يمكن أن يُفسر على أنه استمرار للمساعي المصرية في محاصرة النفوذ الإثيوبي في المنطقة.

ليست مجرد ردة فعل

من خلال هذا الوقائع، يصبح واضحًا أن التصعيد الأخير من جانب قوات الدعم السريع ضد مصر ليس مجرد رد فعل على مزاعم حميدتي حول "التدخل المصري"، بل هو أيضًا جزء من استراتيجية إقليمية أكبر ترتبط بمحاولات إثيوبية للرد على التحركات المصرية. تلك التحركات المصرية التي تسعى بكل طاقاتها الدبلوماسية لتقوية نفوذها في القرن الإفريقي من خلال تحالفات جديدة تقلل من نشاط رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وطموحاته في مياه النيل وموانئ البحر الأحمر.

يعكس بيان قوات الدعم السريع شديد اللهجة تصورها للصراع الحالي باعتباره "معركة وجودية" قد تدفعها لقطع جميع الخطوط الحمراء والتحالف مع أي من الجهات لضمان وضعها في الحرب القائمة

من ناحية أخرى يعكس بيان قوات الدعم السريع شديد اللهجة تصورها للصراع الحالي باعتباره "معركة وجودية" قد تدفعها لقطع جميع الخطوط الحمراء والتحالف مع أي من الجهات لضمان وضعها في الحرب القائمة، ما يعني مزيدًا من التعقيد للأزمة السودانية، الأمر الذي يزيد من صعوبة الوصول إلى حلول سلمية في ظل استمرار التصعيد الكلامي والسياسي لحد الاتهام الصريح من قبل الدعم السريع لمصر بالتدخل في حرب السودان إلى جانب القوات المسلحة.

ويمكن القول إن التصعيد الأخير لقوات الدعم السريع يأتي في سياق مواجهة أوسع بين مصر وإثيوبيا عبر السودان الذي تحول منذ أمد ليس بالقليل إلى ساحة للصراعات الدولية والأطماع، وهو ما ذهب إليه حميدتي في لومه لدول المنطقة والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وحتى مصر، الذين ظن في لحظة ما من لحظات الحرب أنهم جميعًا سيقفون معه ضد الجيش السوداني بذريعة الإسلاميين والفلول، غض النظر عن أفعال قواته ومشروعية حربه في السودان المكلوم.