يوصف المسرح بأنه أب الفنون، حيث كانت خشبة المسرح قديمًا، هي شاشة العرض الوحيدة لثقافة الشعوب المختلفة، والمكان الذي تروى فيه أحداث الحروب والملاحم وكتابات المثقفين، فضج المسرح بالألوان، والموسيقى، والأغنيات، والعناصر البشرية.
وفي الماضي القريب، كانت خشبة المسرح هي الوجهة الأولى للأفراد للترفيه وقضاء أوقات التسلية، وقُدمت مسرحيات تعالج قضايا المجتمع في قوالب اختلفت بين الكوميديا والتراجيديا.
نجح المسرح الحديث في أن يشارك الفرد المتفرج في العرض، كمحاولة لإلغاء الحد الفاصل بين الممثل والمتفرج
فن حديث
وفي السودان كحال دول الجوار الأفريقية، ينظر إلى المسرح كفن حديث. استطاع في فترة وجيزة أن يغزو قلوب الجماهير بما قدمه من أداء متميز، وجماليات النص المسرحي، وصناعة كاملة أدهشت الجمهور بخلفيات المسرح، والأداء الاستعراضي المميز للمثل السوداني، الذي نجح عبر استصحاب المدارس المسرحية المختلفة، من تقديم وتناول قضايا معاصرة تهم المتفرج.
ونجح المسرح الحديث في أن يشارك الفرد المتفرج في العرض، كمحاولة لإلغاء الحد الفاصل بين الممثل والمتفرج، وهي سمة من سمات المسرح البرختي، نسبة للكاتب الألماني "برتولت برخت". فشهد السودان تكوين الفرق المسرحية، ومشاركة واسعة لفئات مختلفة في الأدوار المسرحية مثل المرأة أو الطفل، على حسب ما يذهب النص المسرحي.
ونجح المسرح السوداني في مناقشة العديد من القضايا الهامة، حيث تحولت المسرحيات اليوم إلى مادة تاريخية جديرة بالبحث والدراسة، وتنوعت القضايا المطروحة على الخشبة، ففي مسرحية "الملك نمر" من تأليف إبراهيم العبادي، ناقش النص المسرحي قضية الوحدة الوطنية، واستلهم التاريخ السوداني في قالب حديث ومعاصر، وفي مسرحية "خطوبة سهير" للكاتب حمدنا الله عبدالقادر والمخرج مكي سنادة، ناقش النص المسرحي قضايا مجتمعية هامة.
عصر التكنولوجيا
وإلى وقت قريب من ظهور الشاشة الصغيرة "التلفاز"، وبخلاف ما أعتقد كثيرين، فإن الشاشة الصغيرة دعمت انتشار المسرح وساهمت في إيصال النص المسرحي لمناطق مختلفة، ولجمهور تعذر عليه الحضور لخشبة المسرح، ونجحت الشاشة الصغيرة في إيصال رسالة المسرح لمناطق لا يوجد بها مسارح، أو تعاني من عدة إشكالات مجتمعية. وأكثر من ذلك، صورت المسرحيات العربية ووصلت عبر "التلفاز" إلى الجمهور السوداني، الذي استقبلها برحابة صدر ومن أشهرها مسرحية "مدرسة المشاغبين"، "العيال كبرت" وغيرها.
وفي السودان، برزت مسرحيات الفاضل سعيد العجب والذي يوصف بـ "رائد المسرح السوداني"، ونقل التلفاز مسرحيات الراحلة تحية زروق وعلي مهدي "مسرحية هي وهو". وبالتالي، حافظت الشاشة الصغيرة على جماليات المسرح السوداني، كإرث ثقافي يمكن العودة إليه للمشاهدة، واستلهام الحضور الجميل من رواد العمل المسرحي في السوداني.
موت المسرح
إذن ما مدى صحة مقولة موت المسرح في الوقت الراهن؟ وكيف قتلت الأحداث الجارية المسرح؟ لم تكن جائحة كورونا 2020 مجرد مرض عالمي ذو تأثيرات وأبعاد سياسية واقتصادية وصحية، إنما امتد الأمر ليشمل الجوانب الثقافية والمجتمعية. وأصابت الآثار دور السينما، التي فرضت شروطاً في التباعد البشري، ولم يكن المسرح بعيداً عن آثار الجائحة. فظهر في العالم ما يسمى حديثاً بسينما "العزلة" أو "مسرح الإنسان الوحيد" ويعني مشاهدة العرض السينمائي أو المسرحي عن طريق الشاشة الصغيرة للفرد وحيداً. واحدة من أهم شروط المسرح هي حضور الجمهور، بل والمشاركة في العروض المسرحية، كما أسلفنا في "مسرح برخت". فهل مات المسرح؟
مسرح الإنسان الوحيد
في المسرح، يشترك الفرد مع الجماهير في المشاعر الموحدة، وتتعالى أصوات الضحك أو الدهشة لتمتزج مع بعضها، هي تجربة يصفها النقاد بالسفر خارج حدود الزمن والمكان، فلا زمن إلا وقت موسيقى العرض، ولا مكان إلا الخشبة التي تعرض بالإضاءة واللون والنص، ملاحم إنسانية في مساحة جغرافية صغيرة.
وفي "مسرح الإنسان الوحيد" الذي يشاهد عرضًا سينمائيًا داخل غرفته، تنتفي شروط المسرح المعهودة، ويعيش الفرد تجربته الخاصة، حيث يختار ما يريد مشاهدته وسط كم هائل من العروض التلفازية السينمائية والمسرحية، ويسافر وحده في رحلة ينهل منها تجربة تخصه وحده.
ومع ظهور منصة "نتفليكس" أصبحت تجربة الإنسان المعاصر مع العزلة أشد ارتباطاً، وتجريب ذائقة فنية جديدة داخل غرفة منعزلة عن العالم، وخلال ساعات يعايش الفرد فيها الفن ليتجه بعدها إلى تجريب أمر مختلف.
في "مسرح الإنسان الوحيد"، تنتفي شروط المسرح المعهودة، ويعيش الفرد تجربته الخاصة
بعد الجائحة وظهور "سينما الفرد الواحد" لا يمكن الحديث بصورة قاطعة عن موت المسرح، حيث تظهر حاجة الإنسان إلى معايشة تجربة فنية مشتركة، بحسب ما يقتضيه الحال، ولاتزال بعض الأسر التي تعيش في مجتمعات أقل سرعة، في حاجة دائمة إلى التجمعات، ويكون المسرح مساحة مفتوحة للعرض الجماعي.