شهد صباح السبت الموافق 15 نيسان/أبريل الماضي أول رصاصة أطلقت في العاصمة الخرطوم معلنةً عن بداية الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي نتج عنها نزوح ملايين السودانيين من العاصمة الخرطوم وولايات أخرى غربي السودان تضررت بدرجة كبيرة من الاشتباكات الدائرة هناك، مما أدى إلى تغيير خارطة الحياة المعتادة في معظم ولايات السودان، إذ أصبحت الشوارع أكثر صخبًا من ذي قبل، وتملؤها أصوات الباعة المتجولين الذين يتنقلون هنا وهناك، ويهتفون بأصوات مرتفعة بحثًا عن الرزق الحلال.
بالتزامن مع معاناة العاصمة الخرطوم من ويلات الحرب لما يزيد عن أربعة أشهر، شهدت معظم ولايات السودان ازدهارًا ملحوظًا جراء حركة النزوح
وبحسب سكان هذه الولايات، فإن الحركة التي شهدتها الأسواق جاءت من نشاط فئة النازحين ليتمكنوا من توفير احتياجاتهم بعد أن فقدوا معظم ممتلكاتهم في المناطق التي شهدت اشتباكات نتيجة لعمليات السلب والنهب الواسعة.
حركة اقتصادية وثقافية
يقول محمد أحمد والذي يعمل بأحد أسواق مدينة دنقلا في الولاية الشمالية إن الحياة بالمدينة عامةً أصبحت أكثر انتعاشًا، فالأسواق كانت غالبًا ما تغلق أبوابها مبكرًا، فتصبح دنقلا ساكنة تمامًا عند حلول الظلام، وهو ما تغير تمامًا مع بداية حركة النزوح إلى المدينة. ويضيف أن السوق شهد زيادة كبيرة في القوة الشرائية لم يشهدها من قبل حتى في المواسم التي عادةً ما يقبل فيها المواطنون على الشراء كمواسم الأعياد، فيما بدأت تنشط بعض المشاريع الصغيرة على جوانب الطرقات، مثل تقديم الوجبات السريعة والمشروبات الساخنة، وهو ما لم يكن معتادًا في المدينة.
وبحسب تقارير، شهدت مدينة دنقلا عددًا من الفعاليات الضخمة لأول مرة. فيما بدأت تنشط المنتديات الفكرية للشباب القادمين من الخرطوم لتجاذب الأفكار من أجل "بناء خرطوم مصغرة في كل مدينة". كانت هذه رؤية مبادرة "زوايا" التي نشطت على المنصات الرقمية الخاصة بمدينة دنقلا. وترمي هذه المبادرة إلى تبادل الخبرات لتقديم مشاريع تنموية بالمدينة.
وفي مدني حاضرة ولاية الجزيرة التي استقبلت العدد الأكبر من النازحين، انتقلت إليها محال تجارية كانت تتخذ من الخرطوم مقرًا لها، في محاولة لاستكمال نشاطها هناك بحسب ما أعلنت في منصاتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبحسب تقارير، شهدت المسارح عددًا من العروض المسرحية، جاءت نتاج ورش عمل فنية أقيمت بمسرح المدينة واشترك فيها فنانون نزحوا إلى الولاية جراء الاقتتال.
ثورة علمية
وتقول لبنى الأمين وهي من سكان مدينة ود مدني إنها تمكنت من حضور عدد من الدورات التدريبية التي كانت تنوي أن تشد الرحال إلى العاصمة الخرطوم لتتمكن من الالتحاق بها. وبعد اندلاع الحرب في الخرطوم وصل إلى المدينة عدد من المدربين المتميزين، وانخرطوا سريعًا في المجتمع الجديد ليتمكنوا من تقديم المحاضرات في مراكز التدريب – حسب لبنى.
وتضيف لبنى أن المستشفيات امتلأت بالأطباء النازحين من الحرب، ما شجع طلاب الطب على الالتحاق بهذه المستشفيات متدربين ليتمكنوا من اقتباس القليل من خبرة هؤلاء الأطباء الممتدة لسنين من العمل في العاصمة الخرطوم، وهو ما سيقدم للمجتمع المصغر في ود مدني لاحقًا أطباء ذوي تجربة ممتازة، ويقود إلى توطين العلاج في الولاية بدلًا عن السفر للبحث عن طبيب في العاصمة كما جرت العادة، مؤكدةً أن هذه الحرب –ورغم الخراب والدمار الذي خلفته والأرواح البريئة التي حصدتها– لكنها قدمت ثورة علمية لمدن السودان الأخرى في مجال التدريب المهني.
آفاق جديدة
يقول الخبير المجتمعي محمد الهادي في حديث إلى "الترا سودان" إن الحرب من شأنها أن تخلق تغييرًا في إنسان ولايات السودان الأخرى ولا سيما فيما يخص الروتين الذي يتبعه في الحياة، وتفتح له آفاق جديدة بعد تبادل الخبرات مع إنسان الخرطوم الذي عاش في بيئة طقسها متقلب للغاية، إذ يختلف روتين الحياة فيها من مدينة إلى أخرى ومن حي إلى آخر، وتضيق الدائرة حتى تصبح من شخص إلى آخر، على نقيض المدن الأخرى في السودان والتي يتسم غالبيتها بمنهجية محددة لا يخالفها الفرد – بزعمه.
وأكد الهادي أن الخبرات التي وصلت إلى الولايات من شأنها أن تقدم فرصة كبيرة للشباب بهذه المدن. وشدد على ضرورة احتكاكهم بالمجتمعات في مختلف المدن التي اختاروا النزوح إليها، وذلك استنادًا إلى مبدأ الشمعة التي يجب أن نوقدها في الظلام بدلًا من لعنه، مضيًفا أن التذمر لا يمكن أن يغير شيئًا من الواقع.
وبعد أن عانت العاصمة الخرطوم من ويلات الحرب لما يزيد عن أربعة أشهر، شهدت معظم ولايات السودان ازدهارًا ملحوظًا بعد حركة النزوح الكبيرة التي خلفتها الحرب، مثل الحركة الاقتصادية الملحوظة، علاوةً على الفعاليات الثقافية والأنشطة التعليمية، فيما عانت هذه الولايات لسنين من ضعف الخدمات، ولا سيما التعليمية، ما جعل هذه المدن بلا حياة، بعد أن هجرها الشباب بحثًا عن فرص أفضل في العاصمة الخرطوم.