في التاسع من تموز/يوليو 2011 قرر شعب جنوب السودان مصيره، واختار الانفصال إلى دولة مستقلة باتت هي الأحدث في العالم، وسط شكوك عديدة بتآمر المجتمع الدولي وتزوير الإرادة الجنوبية وقتها، وسحب شعب كامل إلى خيار نهائي تحت تأثير حمية البروباغندا السياسية، ومطامع النخب الحاكمة، ومنذها لم تغادر أشواق الوحدة، واستعادة النص المفقود في ذاكرة السودانيين.
لم يكن لحنين عودة جنوب السودان إلى الدولة الأم أن ينطفئ، فقد اشتعل مجددًا عقب كلمة الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت أمس الأول في حفل التوقيع على الاتفاق السوداني، بمجرد صعود سلفا إلى منصة قاعة الصداقة ملقيًا كلمته
لم يكن لحنين عودة جنوب السودان إلى الدولة الأم أن ينطفئ، فقد اشتعل مجددًا عقب كلمة الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت أمس الأول في حفل التوقيع على الاتفاق السوداني، وبمجرد صعود سلفا إلى منصة قاعة الصداقة ملقيًا كلمته، هتف الحضور قبالته "الليلة ما بنطلع إلا الجنوب يرجع".
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
حنين العودة
حالة من الذهول اعترت سلفاكير، فهو رئيس دولة ذات سيادة اختار شعبها الرحيل جنوبًا، فاكتفى بالصمت، مفسحًا للهتافات حيزًا من التعبير، ربما لأنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، فقد كررها الجنوبيون الذين يعيشون في الشمال، عندما سيروا موكبًا إلى ساحة الاعتصام عقب سقوط نظام البشير، مرددين ذات الأناشيد المطالبة بالعودة، وفي ذات حفل التوقيع أيضًا استبطن ممثل قوى الحرية والتغيير محمد ناجي الأصم تلك المطالب، واصفًا الانفصال بالأمر القاسي.
وقال الأصم: "سنعمل على أن نعود كما نود، فراقنا كان قاسيًا ولكن التئام شملنا مُمكن مع الجنوب نصفنا الحلو، وعندما نقول السودان نتخيّل هذه الخريطة الأليفة الكثيفة بالتنوُّع والتّعدُّد، نقترب ونتعاضد ونعمل سويًا لتطوُّرنا ونمائنا المُشترك"، على حد قول الأصم. بينما رد رئيس دولة جنوب السودان، سلفا كير ميارديت التحية بأحسن منها، وقال "دعمنا للشعب السوداني ليس من باب الدبلوماسية الدولية ولكن هو التزامٌ منا لأننا شعبٌ واحدٌ".
طعن ضد الانفصال
في تطور مماثل دفع "ﻧﺎﺟﻲ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺍﻟﺒﺪﻭﻱ" ﻭﻫﻮ ﻣﺤﺎﻡٍ ﺳﻮﺩﺍﻧﻲ ﺑﻌﺮﻳﻀﺔ ﻃﻌﻦ إﻟﻰ ﺍﻟﻤﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ ﺑﺎﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﺑﺒﻄﻼﻥ ﺍﻧﻔﺼﺎﻝ ﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ، ﻭﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻄﻌﻦ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺿﺪ ﻛﻞ ﺍﻹﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﻭﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺩﺕ ﻻﻧﻔﺼﺎﻝ ﺟﻨﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺍﺳﺘﻨﺎﺩًا إﻠﻰ ﺃﻥ ﺣﺰﺑﻲ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ، ﻗﺎﻣﺎ ﺑﺤﻮﺍﺭ ﺛﻨﺎﺋﻲ ﺣﻮﻝ ﻣﺼﻴﺮ ﺟﻨﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻓﻲ ﻣﺸﺎﻛﻮﺱ ﻭﻧﻴﻔﺎﺷﺎ، ﺗﻤﺨﺾ ﻋﻨﻪ ﻣﻨﺢ ﺍﻟﺠﻨﻮﺑﻴﻴﻦ ﺣﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ ﻓﻲ كانون الثاني/يناير 2005 ﺩﻭﻥ ﺣﺼﻮﻟﻬﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻮﻳﺾ ﻣﻦ ﺷﻌﺐ ﺟﻨﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ، وأشارت ﺍﻟﻌﺮﻳﻀﺔ إلى ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 219 ﻣﻦ ﺩﺳﺘﻮﺭ السودان ﻭﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺤﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ ﻣﻌﻴﺒﺔ ﻭﻏﻴﺮ ﻣﺴﺘﻮﻓﻴﺔ ﻟﻠﺸﻜﻞ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ.
قصة بلدين
ورغم أن العلاقة بين الجنوب والشمال شهدت توترات أمنية وعسكرية عقب الانفصال، ونزاعًا على الحدود استمر لأشهر طويلة، حيث لم تحسم كثير من نقاط الخلاف، أبرزها الصراع على منطقة أبيي، وتقاسم موارد النفط، لكن العلاقة بين شعبي البلدين ظلت دائمًا فوق تقلبات المزاج السياسي، تعزز من ذلك حالات مصاهرة واسعة. واختار كثير من الجنوبيين البقاء في الشمال لمقاومة قدر كونهم أضحوا مواطنين أجانب، إلى جانب الأصوات التي تعالت مؤخرًا منادية بإعادة الوشائج لتنبض من جديد في قلب واحد، ومنح خيار الوحدة الطوعية فرصة جديدة، بعيد أن تخلى المجتمع الدولي عن الدولة الوليدة، وتركها نهبًا للحروب والمشاكل، فيما عاني السودان من أزمة اقتصادية خانقة إزاء فقد ثلث موارده البترولية بانفصال الجنوب.
مقترح الكونفدرالية
الواثق كمير أحد أبرز المنظرين الشمالين داخل الحركة الشعبية التي تحكم الجنوب حاليًا، بذل ورقة حول مقترح الكونفدرالية، أوضح فيها أن هذا المقترح كان يمثل النموذج الثاني من النماذج الخمسة المطروحة في ورقة "وسائل حلّ النزاع السوداني" التي قدمها زعيم الحركة الراحل جون قرنق في العام 1993 أثناء مفاوضات أبوجا، مشيرًا إلى أن قرنق لم يكن تحت تأثير أي وهم بأن النموذج الثاني "دولة واحدة بنظامين" والذي تمخض عن اتفاقية السلام الشامل- يمثل أو يرقى إلى السودان الجديد الذي تصبوا إليه الرؤية.
ولذلك أطلق على هذا النموذج "السودان الجديد في حدّه الأدنى" ويستند إلى فرضية أن الترتيبات الكونفيدرالية ستوفر مساحة لتطوير وتعزيز رابطة سودانية جامعة خلال فترة انتقالية قد تقود إلى "سودان متحّول ديمقراطيًا" كما يشير النموذج الأول أو إلى تقسيم البلاد إلى دولتين مستقلتين، ويأتي خيار الكونفدرالية التي عبرت فوقها التطورات السياسية بخفة دون أن تر النور بأثر رجعي لمعالجة مشكلة الانفصال التي ربما ناهضتها أجيال جديدة، أو تبدلت نظرة النخب السياسية إلى مراجعة الاتفاقية نفسها.
حقائق التاريخ والجغرافيا
ورغم أن الكثير من الأصوات الجنوبية والشمالية ظلت تجهر بضرورة العودة، إلا أن هنالك آراء أخرى تعتبر هذا الحنين مجرد شعور لا يمت للواقع بصلة، وتعارضه بشدة، وقد اعتبر الكاتب الصحفي يوسف عبد المنان ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻃﻠﻘﺘﻬﺎ ﻗﻮﻯ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ "ﺑﻌﻮﺩﺓ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ" ﺩﻋﻮﺓ ﻏﻴﺮ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "جنّة الخفافيش".. جنوب السودان بحذافيره
وقال عبد المنان لـ"ألترا صوت" إن الدعوة لم ﺗﺤﺘﺮﻡ رئيس الجنوب ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺎﺀ ﻟﻠﺴﻮﺩﺍﻥ ﻭﻓﺎﺀ ﻟﻌﻬﺪ ﻭﻟﺘﺮﺍﺏ ﻛﺎﻥ ﺟﺰءًا ﻣﻨﻪ، ﻟﻜﻨﻪ "ﺃﺭﻏﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻀﻲ ﻟﺴﺒﻴﻠﻪ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺿﺎﻗﺖ ﺻﺪﻭﺭ ﺍﻟﻨﺨﺐ ﺍﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺑﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﻳﻤﺜﻠﻮﻥ ﺟﻐﺮﺍﻓﻴﺔ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ ﻭﺗﺮﺍﻛﻤﺖ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺍﻻﻧﻔﺼﺎﻝ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺑﺮﻏﺒﺔ ﺃﻏﻠﺒﻴﺔ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ"، بينما يأتي ممثل الحرية والتغيير مطالبًا بالعودة ﻛﺄﻥ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ ﻣﻠﻚ ﻳﻤﻴﻦ ﻭﺣﺪﻳﻘﺔ ﻣﻨﺰﻟﻴﺔ ﺍﺧﺘﻄﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﺒﻠﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﻏﻔﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻜﻬﺎ، واعتبر عبد المنان أن ﺟﻨﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻣﻀﻰ ﻟحال ﺴﺒﻴﻠﻪ بسبب ﺘﺮﺍﻛﻢ ﺍﻟﻔﺸﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻟﻨﺨﺐ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﺍﻟﺸﻤﺎﻟﻲ ﻭﺍﺣﺘﻘﺎﺭﻫﺎ ﻟﺜﻘﺎﻓﺎﺕ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻭﺇﺻﺮﺍﺭﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻃﻤﺲ ﻫﻮﻳﺎﺕ ﻗﻮﻣﻴﺎﺕ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ، على حد وصفه.
رغم أن العلاقة بين الجنوب والشمال شهدت توترات أمنية وعسكرية عقب الانفصال، ونزاعًا على الحدود استمر لأشهر طويلة، لكن العلاقة بين شعبي البلدين ظلت دائمًا فوق تقلبات المزاج السياسي
مطالب عودة جنوب السودان، وإن لم تأخذ شكلًا رسميًا إلا أنها ظلت تتردد بين الحين والآخر في الشمال والجنوب معًا، مع شعور راسخ بأن الدولة السودانية واحدة، وما الانفصال إلا هو نتاج سياسات فوقية تجاهلت حقائق التاريخ والجغرافيا، ومن المرجح أيضًا إعادة القضية إلى الأضواء على الأقل في ظل التساؤل حول مستقبل العلاقة بين الدولتين خلال المرحلة المقبلة.
اقرأ/ي أيضًا:
في مواجهة كابوس التقسيم.. كيف أسقطت هوية أبطال سودانيين بسبب الانفصال؟