ثمة سؤال شائع يتكرر دائمًا خلال صعود الموجات الاحتجاجية ضد الأنظمة الشمولية: "من هو البديل؟". لهذا السؤال مشروعية حقيقة تكمن في إدعاءه لرغبة الوصول إلى حل. لكن امتلاكه لتلك النبرة المحافظة في الخطاب وتشكيكه في كفاءة الطبقة السياسية بأسرها يجعله دائمًا عرضةً لنقد اليسار الراديكالي الذي لا يقدم إجابة واضحة إزاءه، مكتفيًا برفض السؤال من الأساس واتهام سائله بعدم امتلاك الخيال.
عندما كان لا يزال مُغنيًا للراب، طرح الناشط والمصوّر السوداني أحمد محمود سؤالًا "بديلًا" في إحدى أشهر أغانيه السياسية المتسمة بالمباشرة: "ما تسألني البديل منو. أسألني البديل شنو؟". مقدمًا نموذج للإجابة: "البديل إنه تقوم ثورة. سلمية. تحقق لينا حرية مساواة وعدالة اجتماعية".
ولكن كيف لذلك أن يتحقق بخطوات عملية على أرض الواقع؟ خصوصًا مع وضع السودان المتأزم اقتصاديًا واجتماعيًا وعسكريًا. حلل وناقش!
صادق مجلس الوزراء السوداني في الثالث من تشرين الأول/نوفمبر الماضي على "حزمة السياسات الاقتصادية"، وهي الشفرة المنمقة التي تعني موجة جديدة من غلاء الأسعار. صاحبها تقليص لفارق الضعف بين سعر الدولار الأمريكي في البنك وسعره في السوق السوداء مقابل الجنيه السوداني المنهار.
اقرأ/ي أيضًا: رؤية عن العلاقات العربية القرن أفريقية
انتشرتْ حالة من الوجوم أو ما يوصف في الصحافة بـ"الهدوء الحذر" وشرع العديد من المعلقين في التوقع بأن شيئًا ما سيحدث، وغالى البعض في التوهم بأن الجيش سوف يتحرك. كان ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والأدوية كارثيًا في اقتصاد ريعي منهار يستشري فيه الفساد، وخسر قرابة 90% من موارده النفطية بعد استقلال جنوب البلاد دون تنويع مصادر الدخل في فترة الازدهار المؤقت لعملية السلام الانتقالية، وفي اقتصاد محاصر بعقوبات أمريكية لرعايته للإرهاب منذ التسعينات كان إصدار قرار كهذا أمرًا أشبه بالقنبلة.
قنبلة ألقتها الحكومة واختبأت لتراقب حجم الخسائر. حتى أن الرئيس عمر البشير غاب عن البلاد بين المغرب وغينيا الإستوائية والإمارات العربية المتحدة، كأنما يتهرب من المواجهة وهو الرئيس الذي لطالما كانت تحف تنقلاته الحذر منذ صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية الفاشل، ولأن قرارات زيادة الأسعار كانت سياسة معتادة وغالبًا ما تتلوها موجة من الاحتجاجات الشعبية، استعدت الأجهزة الأمنية للأمر وباشرت حملة اعتقالات طالت عددًا من السياسيين والناشطين المعروفين. لكن المفاجأة جاءت من خارج الأطر المعهودة.
أعاد العصيان المدني في السودان بعضًا من الثقة المفقودة لدى الكثيرين في قدرة الحشد الجماهيري على إعلان حالة سخط عام
انطلق العصيان المدني في 27 تشرين الأول/نوفمبر الماضي بعد أن دُعي إليه في تطبيقات التواصل الاجتماعي ردًا على قرار الحكومة. في اليوم الثاني له طرحتُ هذا السؤال على أصدقائي في صفحتي الخاصة بفي سبوك: وماذا بعد أيام العصيان الثلاثة؟ كان تساؤلي نابعًا من يقين بأن هذه الخطوة وحدها لم تكن كفيلة بتحقيق التغيير المنشود، وإثناء الحكومة عن قراراتها التي حاولتْ التخفيف من حدتها بوعد من وزير الصحة بحر أبوقردة في مؤتمر صحفي عقده يوم الجمعة - عطلته - مستبقًا تطبيق العصيان، وواعدًا بمواصلة حكومته على دعم أسعار الأدوية التي ارتفعت إلى سقف لم يعد فيه حتى ميسوري الحال من السودانيين قادرين على احتماله. وذلك بعد أيام قليلة من تعليق نقابة الأطباء لإضرابها الذي ما أن انتهى، حتى صدق مجلس الوزراء على قراره الخطير لتعود الأمور إلى نقطة الصفر.
لم تصلني إجابات محددة على سؤالي فيما اتهمني البعض بمحاولة اثباط عزيمتهم. بينما طالب آخرون أن ننتظر ما ستؤول إليه الأمور في سلبية متفائلة. استجاب قطاع كبير من مواطني العاصمة للعصيان المدني وتجلى ذلك في انخفاض حركة المرور في شوارع الخرطوم إلى النصف مع بداية الأسبوع. فيما توقف العمل في عدد كبير من المؤسسات وتغيب معظم الطلاب عن جامعاتهم ومدارسهم وأغلقت المحال التجارية والأسواق بصورة مثلت اختراقًا للعديد من المواطنين الساخطين على النظام.
أعاد العصيان المدني بعضًا من الثقة المفقودة لدى الكثيرين في قدرة الحشد الجماهيري على إعلان حالة سخط عام، ولكن وبعد أن انقضت أيامه الثلاثة عادت الأمور إلى عادتها وتوجه الموظفون لمواجهة قرارات المحاسبة من قبل إدارتهم على تغيبهم المستمر عن العمل، وظل السؤال مطروحًا عن الخطوة التالية، ومثلما آلت الموجات الاحتجاجية في السنوات الست الماضية كانت النتيجة ذاتها: لم يسقط النظام ولم يتراجع عن قراراته.
كان ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والأدوية بالسودان كارثيًا مع اقتصاد منهار، خسر 90% من موارده النفطية بعد انفصال الجنوب
رغم ذلك انطوى الأمر على مفارقة بالغة. في بلد لا يوجد فيه ما هو أكثر من القوى السياسية المعارضة بمختلف التنويعات: أحزاب سياسية، حركات مسلحة، حركات سلمية، منظمات مجتمع مدني. لم تأت الدعوة للخروج في مظاهرات أو مسيرات شعبية بل جاءت للعصيان المدني. لعمل احتجاجي سلبي لا يهدف إلا لإبراز السخط العام دون شعارات سياسية راديكالية من قبيل: إسقاط النظام، إقالة الحكومة. الخ. كان شعارًا يحمل كل دلالات التحول في أدوات المقاومة في القرن الواحد والعشرين #العصيان_المدني_السوداني_27_نوفمبر.
اقرأ/ي أيضًا: رغبة قديمة لامتطاء أخطبوط
لم تكن المفارقة في إحباط استعدادات الأجهزة الأمنية التي خرجت شاحناتها وجنودها ليقفوا في شوارع خالية من المارة. بل في مصدر تلك الدعوة الناجحة التي لبُيت بقدر حوّل حركة المرور نهار يوم الأحد الجحيمي إلى ما يشبه عطلة عيد الأضحى. كان المصدر ببساطة مجموعات نسائية سرية في موقع فيسبوك مثيرة للسخرية حتى في تسمياتها: "فسخ وجلخ" و"منبرشات". مجموعات مغلقة تحكمها توجيهات صارمة للحفاظ على خصوصية العضوات والمحتوى الذي يتبادلنه. تُمارس فيها كل الصور النمطية المنوطة بالمرأة السودانية من قبل الخطاب الذكوري: النميمة، استعراض صرعات الموضة، الترويج لمستحضرات تبييض البشرة. لا لشيء إلا لأن هذه المجموعات والتي لم تكن مسيسة على الإطلاق امتلكت في لحظة تاريخية معينة أهم عناصر الحشد الجماهيري: أزمة ملّحة وخانقة على الجميع لدرجة خلق الزخم، وعدد هائل من الأعضاء في جسم واحد مع حد أدنى من الاتفاق حول القضايا العامة.
رد أحد مستخدمي تويتر على السؤال المحافظ "البديل منو؟" ساخرًا: "افرض البشير مات؟ نقفل السودان؟"
تخيّل/ي ما يمكن أن يحدث عندما ترتفع أسعار الأساسيات أضعافًا، في وسيط يناقش الكماليات يضم 200 ألف عضوة. المسيرة الأبرز التي خرجت قبل أسبوع العصيان كانت من هذه المجموعات، وكلها من النساء اللاتي وقفن بشجاعة في شارع أفريقيا بوسط الخرطوم منددات بقرار الحكومة في قضية لم تقتصر على شعارات حقوق المرأة بل المجتمع كاملًا.
حدث التحوّل بإزاحة جيل مواليد الثمانينات الذي كان المحرك الأساسي للموجات الثورية السابقة: انتخابات 2010 وصفقة انسحاب مرشح الحركة الشعبية ياسر عرمان مقابل انفصال سلمي للجنوب، تظاهرات 2011 و2012 المحاكية بشكل سيء لانتفاضات الربيع العربي، وانتفاضة سبتمر 2013 الدموية والتي جاءت في ظرف اقتصادي مماثل لكنها خمدت ما أن امتلأت الشوارع بالقتلى والمعتقلات بالناشطين.
هذا الجيل المأزوم والذي مُني بهزائم متلاحقة ليشيخ قبل أوانه في كامل المنطقة تمت إزاحته من الصورة من قبل جيل مواليد التسعينات. جيل النظام الحالي ومنظومته التعليمية والإعلامية. خرج طلبة المرحلتين الإبتدائية والثانوية من شارع المدارس في بحري فيما غلبت عليهم الطالبات. الحجاب الذي ظل أداة هذا المجتمع لإخضاعهن تحول للثام تغطي به المتظاهرات وجوههن وهن يتحدثن لكاميرات الموبايل مناديات بخروج المزيد من المحتجين ضد قرارات الحكومة.
اقرأ/ي أيضًا: بعد "تيران وصنافير".. حلايب وشلاتين نحو الجنوب
هذا لم يكن إنقلابًا فقط على النظام الحاكم بل على المنظومة السياسية بأسرها. بمعارضتها ومجتمعها المدني اللذين صارا فاقدين للأهلية والمصداقية معًا، لأنهما عجزا عن تقديم "بديل" نظري أو تطبيقي قادر على استلام الأمور بعد نجاح عملية التغيير السياسي، أو ما يسمى في أدبيات المجتمع المدني بـ"اليوم التالي"، ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لو أتت إحدى هذه الموجات الثورية بنتيجتها المنشودة؟ هل سيكون الانتقال السلمي للسلطة واقعًا؟ ومن قبل من؟
حسنًا الشعب ينتصر ولكن ما الذي فعلوه في اليوم التالي؟ كيف أعادوا بناء السلطة؟
فالسؤال الذي يجب أن يسبق التساؤل عن الخطوة التالية بعد العصيان يجب أن يكون: ما الذي يمكن أن يحدث إذا نجحت الانتفاضة بالفعل؟ خصوصًا أننا وبعد الربيع العربي توفر لدينا معين من النماذج التي استخدمت فيها الثورة المضادة آليات متعددة للإنقلاب على الثورات إما بإزاحة الحكومات المتقلبة الجديدة كمصر وتونس، أو بقلب الطاولة تمامًا وتحويل الثورة السلمية إلى حرب أهلية كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، وفي بلد يمتلك بالفعل ثلاثة جبهات للحرب الأهلية هب أن العصيان المدني قد أسفر عن استقالة الحكومة، أو كما قال أحد مستخدمي تويتر ردًا على السؤال المحافظ "البديل منو؟" بالقول ساخرًا: "افرض البشير مات؟ نقفل السودان؟" هنا تكمن إحدى أكبر المعضلات، فمن الواجب أن يتوقف اليسار عن عنجهيته التي يواجه بها تساؤلات اليمين المحافظ لوهلة، ويضع نفسه موضع السائل: هل يمتلك مجتمعنا البنية التحتية لتحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ما أن يذاع البيان رقم واحد؟ هل نمتلك حقًا إجابة عملية لسؤال أحمد محمود "البديل شنو؟"
في حوار مفتوح شهر أبريل الماضي بمركز إمانويل أبدي الفيلسوف السلوفيني اليساري سلافوي جيجيك رغبةً مماثله في التساؤل مستغلًا مصادفة وجوده في لندن للحديث عن فيلم جيمس مكتيج V for Vendetta كمثال، ففي أجواء الدستوبيا المستقبلية لإنجلترا الفاشية - صورة يسهل تصورها الآن مع الوضع الحالي لبريطانيا ما بعد الاتحاد الأوروبي الشعبوية - تنتصر الحشود الملثمة بالقناع الشهير على قوات الشرطة وتقتحم البرلمان وتنتصر، أو كما يحتج جيجيك: "وينتهي الفيلم!" ليواصل بأسلوبه المتسم بالصفاقة: "أنا على استعداد لبيع أميّ كجارية مقابل أن أشاهد جزءًا ثانيًا من الفيلمV for Vendetta part II - حسنًا الشعب ينتصر ولكن ما الذي فعلوه في اليوم التالي؟ كيف أعادوا بناء السلطة؟".
اقرأ/ي أيضًا: