انتبه السودانيون مؤخرًا إلى خطورة النكتة السياسية، وأثرها العميق في نقد الخطاب الحكومي والمعارض معًا، وأصبحت السخرية عمومًا، بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، سلاح الجميع ضد الجميع، أحيانًا تنبع بصورة تلقائية، وأحيانًا تصُنع بحرفية عالية لهدف ما.
كان الرئيس البشير أكثر الناس عرضة للنكات والسخط العام، وقد اعترف بنفسه في أحد البرامج التلفزيونية عن أن هنالك أناسًا سئموا من حكومته للغاية فسخروا منها
ورغم أن الشعب السوداني كان أقل الشعوب تعاطيًا مع النكات السياسية، إلا أن معاناة السنوات الأخيرة فجرت بداخلهم الحس الفكاهي، إلى درجة أنهم أحيانًا يسخرون من واقعهم، ويلتقطون وجه الضحك السياسي المحظور.
قفشات البشير
كان الرئيس عمر البشير أكثر الناس عرضة للنكات والسخط العام، وقد اعترف بنفسه في أحد البرامج التلفزيونية عن أن هنالك أناسًا سئموا من حكومته للغاية، وكان أحد هؤلاء في المسجد والإمام يدعو: ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، فقال للإمام "هو سلط وانتهى. سله التخفيف". ومضى البشير أكثر من ذلك معتبرًا أنه لولا نكات متداولة على "واتس آب" لانفجر الناس من الغم.
اقرأ/ي أيضًا: البشير يقمع سلمية تظاهرات السودان بالرصاص والتخوين
فيما انتشرت النكات الساخرة مع هبة كانون الأول/ديسمبر الجارية بكثافة، وأصبحت المظاهرات تخرج بصورة تلقائية، من كل مكان، حتى من بيوت المسؤولين، مع ترديد شعارات على شاكلة "تسقط بس". ومما يروى أن رجلًا احتد مع زوجته، ورمى في وجهها الطلاق، فردت عليه بالشعار الثوري الشهير في الشارع السوداني "الطلقة ما بتكتل بكتل سكات الزول". بجانب السخرية اللاذعة أيضًا من خطابات الرئيس البشير الأخيرة وادعائه أنه كان فقيرًا في شبابه يعمل في مجال البناء فسقط من "السقالة"، وكسر سنه، تاركًا إياه يذكره بتلك الأيام الصعبة، فخرجت هتافات الشباب بعد ذلك مباشرة "تكسر حنكك تكسر سنك ما عوزنك".
تبدو مهمة النكتة السياسية وضع المجتمعات في صورة الواقع الذي يعيش والتعبير عن مستوى الاحتجاج بطريقة أخف وربما أعنف، وقد عرفها الشعب السوداني منذ القدم وأصبحت أداة للتنفيس عن الكروب والأزمات. تقول النكتة إن الرئيس البشير سئل عن عن رأيه في التغيير، فقال: "التغيير ده سنة الحياة، قالوا له: طيب وسيادتك متى تتغير؟ فرد عليهم: أنا فرض وليس سنة" .
الخروج من دائرة الحظر
في السودان مثله مثل دول عربية عديدة، هنالك نكات بالطبع توقعك في دائرة المحاسبة، تحديدًا تلك التي تروى عن القوات النظامية، ولكن الاعتقالات والضرب الذي يتعرض له الشباب حاليًا من قبل قوات الشرطة والأمن فتحا الخيال على تلك النكات، وخرجت من دائرة المحظور، فأصبحت أكثر تداولًا على مواقع التواصل الاجتماعي، لعل أشهرها أن شابًا تقدم للعمل في جهاز الأمن، وأثناء المقابلة سأله المسؤول إن كان قد عمل لدى أي جهة معادية للوطن، فأجاب: "لا، هذه هي المرة الأولى" .
لم يقتصر الأمر على حكومة عمر البشير، وإنما كان برلمان الديمقراطية الثالثة برئاسة الصادق المهدي يضج بالسخرية والقفشات، فما يتذكره الناس أن سكرتير الحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد كان يتابع خطاب وزير الزراعة وقتها عمر نور الدين، وهو يتحدث عن الإنجازات الشاملة لوزارته، فطلب نقد فرصة للحديث وقال باختصار: "يبدو أن وزير الرزراعة اعتبر الخريف من إنجازاته"، فانفجر البرلمان بالضحك، سيما وأن الزراعة في السودان تعتمد بصورة أساسية على الري المطري.
السخرية من الحزب الحاكم
بالعودة لانتخابات 2005، فقد اختار الحزب الحاكم البشير رئيسًا له، والشجرة رمزًا له، فما كان من المرشح المعارض ياسر عرمان إلا وقد انتهج خطابًا ساخرًا من رمز ترشيح البشير، ونصح الناخبين بالابتعاد عن "الشجرة"، لافتًا إلى أنها "أخرجت أبوكم آدم من الجنة". ولعل أكثر عبارة ساخرة أطلقها رواد مواقع التواصل الاجتماعي ردًا على خطاب البشير الذي اتهم فيه دعاة التظاهر بالشيوعيين والبعثيين، هي صورة جمعت البشير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن، وأخرى مع بشار الأسد، مع تعليق: "البشير قال الطالعين مظاهرات ومحركين الشعب ديل المخربين الشيوعيين والبعثيين، طيب المتصور معاهم ده تلاميذ الإمام مالك ولا شنو؟".
شر البلية ما يضحك
مؤخرًا حين اشتدت الأزمة الاقتصادية، وأحكمت الضائقة المعيشية بالخناق، لم يعد أمام السودانيين من سبيل سوى السخرية من كل شيء، وتفريغ الشحنات الداخلية بالضحك، وأحيانًا الرقص إن دعا الأمر، ربما لأن "شر البلية ما يُضَحك"، عطفًا على أن الشارع بات يتعامل مع تصريحات المسؤولين بالاستهزاء، وهي تصريحات أيضًا من فرط غرابتها تمتاز بالمسخرة، مثل حديث الفاتح عز الدين القيادي بالمؤتمر الوطني، ودعوته إلى فرض رسوم على المتظاهرين، أي أن الذي يريد أن يرفع لافتة ضد الحكومة لا بد أن يدفع مقدارًا محددًا من المال، والذي يريد أن يتظاهر عليه أن يسدد رسوم الشرطة والقوات الأمنية التي تحفظ النظام. فرد عليه بعض الناشطين بالقول: "لو كنا نتملك أموال ورسوم مظاهرات لما تظاهرنا بالأساس". أي أن الفقر هو الذي أخرج الناس.
نكات التنفيس والاحتجاج
كذلك فإن النكتة السياسية يمكن أن تكون وسيلة للمقاومة والاحتجاج على الظلم أو المعاناة، وفقًا لإفادة الكاتب والأستاذ الجامعي عبد اللطيف البوني لـ"ألترا صوت". وقد اشتهر البوني بإيراد نكات سياسية واجتماعية في مقالاته، مشيرًا إلى أن مؤلفي النكات عادة هم أشخاص مجهولون، وهى تكثر في نظم تقل فيها الحرية ودائمًا عندها تماس مع الاحتياجات الاجتماعية. واعتبر البوني النكات السياسية شكلًا من أشكال التنفيس والاحتجاج، لكنه لم ينسبها لأشخاص منظمين سياسيًا، قائلًا إن "أمثال تلك النكات غالبًا ما تصدر من أشخاص غير منظمين ولكنهم ساخطون على الواقع وتتبناها المعارضة". ولا يربطها البوني بفترات الحكم العسكري فقط، ولكنه يمضي إلى أن النكات كانت منتشرة بشكل واسع أيام الديمقراطيات وكانت تطعن في أهلية المسؤولين.
انتبه السودانيون مؤخرًا إلى خطورة النكتة السياسية، وأثرها العميق في نقد الخطاب الحكومي والمعارض معًا، وأصبحت السخرية وسيلة للتعبير عن السخط العام
وبخصوص ردة فعل الحكومة على تلك النكات الساخطة، نبه البوني إلى أن الحكومة تتبنى تلك النكات لتبطل مفعولها ولترسل للشعب رسالة بأنها مجرد نكات "وما فارقه معاها"، وبالتالي لن تؤثر على سياستها، أما محاولة حظر تلك النكات فهي مهمة صعبة، وإذا حاول الشخص محاربتها قد تأتي بردة فعل أشد، فالأفضل تجاهلها والتقليل من شأنها لأنها متداولة ويصعب السيطرة عليها، وأفضل للحكومة تبنيها وإبطال مفعولها، فضلًا عن أن النكات السياسية قد تشكل الانطباع العام، ولكنها لن تتسبب مثلًا في إحداث فوضى أو انقلاب، على حد وصف البوني.
اقرأ/ي أيضًا:
الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"