وافق القادة العسكريون في السودان، على الانخراط في "محادثات سرية" مع قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي"، والتي تحظى بتأييد مبطن من المجتمع الدولي. التسريبات تقول إن هذه "التفاهمات" تقترب من الوصول إلى اتفاق قد يعيد تشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية، في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر القادم.
ربما لم تأت موافقة القادة العسكريين على "المحادثات السرية" مع المدنيين، استجابة لرغبة حركة الاحتجاجات، لأن المتظاهرين يتبنون دعوات للإطاحة بالجنرالات بدلًا من "التسوية السياسية": العبارة المرفوضة بشدة بين الأجيال التي تناهض العسكريين لأسباب متعلقة بالعدالة.
لم يجتمع العسكريون والمدنيون نتيجة لإرادة سياسية للوصول إلى حل للأزمة وإنهاء الانقلاب العسكري الذي يكاد يحطم الثورة الشعبية؛ بل انتقلوا إلى الغرف المغلقة بضغوط غربية وخليجية
فبينما يرفع المتظاهرون اللاءات الثلاث منذ انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021 الذي أطاح بالسلطة المدنية؛ تقول قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي"، إن التسوية ضرورية للخروج من المأزق بـ"إنهاء الانقلاب"، بينما العبارة المستخدمة وسط قادة الحراك السلمي في الشارع هي "إسقاط الانقلابين".
أي نعم يتزايد "هوس" جنرالات المجلس العسكري بتولي السلطة عبر "صبغة شرعية نوعًا ما، حتى وإن كانت زائفة بعض الشيء"، للاندماج مع المجتمع الدولي؛ لكن بالنسبة لقوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي"، فإن طموحات العسكريين نحو السلطة ليست "أمرًا مقلقًا" في وقت الاستحقاق الانتخابي، بقدر قلقها من استرداد موقعها المفقود في هياكل الحكم منذ اثني عشر شهرًا.
ومع ذلك فإن هذا التحالف ليس موحدًا حول الاتفاق مع العسكريين؛ فإذا ما ذهبنا إلى بيان حزب البعث العربي الاشتراكي ومبادرته نهاية الأسبوع الماضي، نجد أنه مقدمة لرفض الاتفاق من جانب هذا الحزب، والذي يعد ضمن العناصر النشطة في مجموعة المجلس المركزي.
لم يجتمع العسكريون والمدنيون في السودان استجابة للإرادة السياسية للجماهير بالوصول إلى حل للأزمة والانقلاب العسكري الذي عطل مناحي الحياة، ويكاد يحطم ثورة شعبية واسعة؛ بل جاءت المحادثات السرية بضغوط غربية وخليجية، تمثلت في اللجنة الرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والمملكة العربية والسعودية والإمارات، وهذا يعني فيما يعني أن هذا البلد الذي يواجه تعقيدات أمنية واقتصادية وتوترات عرقية، بحاجة إلى قادة لديهم الإرادة السياسية دون الهروب إلى الأمام.
وقد تتمكن الحرية والتغيير من توقيع اتفاق مع العسكريين، وقد تأتي "ديباجة الاتفاق" متسقة الملامح مع أهداف ثورة السودانيين الثالثة، لكن قياسًا بتجربة الشراكة، فإن التفاصيل غير المعلنة هي التي تسُود عادة عندما تأتي "الحكومة الجديدة".
وإذا ما قرأنا تصريحات قادة الحركات المسلحة إزاء المحادثات السرية بين "المجلس المركزي" مع الجنرالات؛ نلاحظ كيف أن هذه التصريحات مشوبة بالقلق من تعرضهم للإقصاء، أو تقليم سلطاتهم التي حصلوا عليها بوضعية اتفاق جوبا.
ينخرط المدنيون والعسكريون في محادثات سرية متقطعة وغير منتظمة؛ لكن أيضًا يمكن وضع توقعات قوية أن مثل هذه المحادثات قد تنتقل إلى مراحل "أكثر سرية"، وهي التي تجرى فيها تفاصيل مهمة حول الصلاحيات بين الجانبين في "عملية تقاسم الصلاحيات".
لكن قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" ما تزال تمارس ذات الأساليب التي مارستها في العام 2019، عندما اتفقت مع العسكريين في محادثات غير معلنة، في ظل تعتيم إعلامي لهذه الخطوة التي جاءت وقتها أيضًا نتيجة لضغوط غربية وخليجية.
إن هذا التحالف السياسي الذي يضم تنظيمات مدنية ومجموعات حزبية أغلب كوادرها لا يملكون الكفاءة السياسية لمواجهة الجنرالات؛ لديه اعتقاد أن "التنازلات قد تُفضي إلى الحل".
هذا لا يعني أن الجماعات الراديكالية التي ترفع شعارات عدم التفاوض مع العسكريين هي الأكثر تنظيمًا، فهي الأخرى تعاني من ضعف العملية السياسية وعدم وجود تنظيم على مستوى الولايات. وفي الشهور الأخيرة اقتصرت الاحتجاجات على العاصمة الخرطوم، ويمكن أن تتحول التظاهرات إلى "مركزة الثورة"، كما أن الانقسام بين قوى الثورة متناسل من مجموعة إلى أخرى.
يستغل العسكريون انقسام المدنيين المعنيين بالتحول الديمقراطي، فاللجوء إلى "حوار طفيف" يبقي على العسكريين في السلطة مع "صلاحيات منتزعة"، أفضل في نظر الجنرالات من الصدام مع المجتمع الدولي، والذي يشترط حكومة مدنية ذات مصداقية وتوافق كبير من السودانيين لاستمرار المساعدات الاقتصادية، في بلد نضبت خزانته المركزية من العملات الأجنبية.
المحادثات السرية رغم أن بعض الأطراف تسوِّق لها مستخدمة "فزاعة انهيار البلاد"، لكنها بالضرورة قد لا تمنع تفكك هذا البلد
تتوقف "محادثات بيت الضيافة" بين "المجلس المركزي" والعسكريين، على انخراط قوى الحرية والتغيير في عملية سياسية شاملة، تُفضي إلى تسوية سياسية مع جميع الأطراف المدنية والمؤسسة العسكرية. هذه المحادثات تطمح لإقرار الجيش الموحد وإيقاف الحرب والنزاعات القبلية، وإخضاع الشرطة والأمن للسلطة المدنية، ومعالجة الاقتصاد ووضع الدستور وتنظيم الانتخابات، ولجم طموح العسكريين في الترشح بالاتكاء على البندقية؛ لكن جميع هذه المطالب لا تفضلها بعض القوى السياسية التي لديها رغبة في الهيمنة على الفترة الانتقالية.
إن المحادثات السرية رغم أن بعض الأطراف تسوِّق لها مستخدمة "فزاعة انهيار البلاد"، لكنها بالضرورة قد لا تمنع تفكك هذا البلد، ليس لأن التسوية معيبة؛ بل لأنها فوقية وغير عميقة في معالجة الاختلالات البنيوية في جسد الدولة.