طالعت في الأيام الماضية اقتباسات مطولة نقلتها الوسائط الأمريكية محتفية بكتاب مستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، وأثار استيائي أن الصبي متورم الذات والذي قرر مصائرنا في بلادنا المغلوبة على أمرها في يوم ما، قد حاول في مذكراته الموسومة "كسر التاريخ Breaking History"، كسر التاريخ بالفعل، وهو ما نجح فيه على الأقل في مذكراته، ولكن عبر التدليس أو عدم الفهم، وليس عبر الفعل أيام السيرك الأمريكي الذي كانته تلك الإدارة.
يقول كوشنر في اقتباس مطول نقلته عن الكتاب شبكة "سي إن إن" الأمريكية، إن السودان طبع مع إسرائيل لرفع اسمه من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وعلى الرغم من غرابة هذه الخطوة إن كان ذلك هو الدافع لها فعلًا، فإن بعض اعتذاريي التطبيع يتداولونها على أنها حقيقة الأمر على الرغم من التدليس الواضح في وقعها على الأذن، فما الذي يدفع السودان الذي وُسم بالإرهاب لاستضافته زعيم القاعدة أسامة بن لادن في العام 1993، للتطبيع مع إسرائيل للخروج من قائمة أمريكية؟ الغرض من هذه الجملة هو فعلًا كسر التاريخ، ولكن عبر لي عنق الحقائق، وإن كنت أجزم أن صبي ترامب لا يعرف شيئًا عن كل هذا، فهو قد دخل باب الفعل في التاريخ نتيجة لصدفة زواجه من ابنة الرئيس رجل الترفيه السابق واللاحق دونالد ترامب.
لم يكن الغرض من تطبيع السودان رفع اسم البلاد من القائمة الأمريكية
لم يكن الغرض من تطبيع السودان رفع اسم البلاد من القائمة الأمريكية سيئة الصيت والسمعة، ويثبت ذلك الجملة اللاحقة في حديث كوشنر؛ لقد دفع السودان ثمن شطبه ملايين الدولارات في تعويضات قانونية لضحايا أمريكان تضرروا من تفجيرات 1998 و2000 التي تبناها التنظيم الذي استضاف السودان زعيمه مطلع ذلك العقد العجيب في تاريخ السودان والعالم أجمع. إنها مسألة منطقية بهذه الصورة، لا مكان لإسرائيل في هذه المعادلة؛ كان السودان هو كبش الفداء والرأس التي يجب أن تتدحرج نتيجة للجرح النرجسي الذي تسبب به تنظيم القاعدة للسطوة الأمريكية العالمية.
ولم يبتدئ مشروع رفع السودان من القائمة بمسار التطبيع، بل خطت السلطات خطوات واسعة في هذا المضمار حتى منذ قبل الثورة السودانية بعقود. كان إعادة السودان للمجتمع الدولي الملف الأبرز للنظام منذ مطلع الألفية عقب مفاصلة الإسلاميين المشهورة واتجاه العسكريين الذين احتفظوا بالسلطة للانفتاح على العالم للحفاظ على حكمهم، حيث دشّنو المشروع عبر التعاون الاستخباري مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب، وعقب التوقيع على اتفاقية السلام الشامل أزالت إدارة جورج بوش السودان من قائمة الدول غير المتعاونة في الحرب على الإرهاب لهذا السبب.
ولكن أوسع الخطوات كانت في عهد الرئيس باراك أوباما، حيث وصل النظام في الخرطوم لتفاهمات واضحة مع الإدارة الأمريكية تقوم على ثلاثة مطلوبات لتحقيق الهدف الذي طال انتظاره: تطبيق اتفاقية السلام الشامل، إيقاف الحرب في دارفور، وتوفير بيئة طاردة للإرهابيين في السودان. ليتوج الأمر بالرفع الجزئي للعقوبات في تشرين الأول/أكتوبر 2017، مع الإبقاء على السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
أتت بعدها الثورة السودانية التي أطاحت بالنظام الذي فرضت بسببه العقوبات، واعتقد السودانيون أن تلك كانت آخر العقبات أمام حلم العودة للمجتمع الدولي والخروج من كابوس الحظر الاقتصادي الذي أثر على شتى مناحي الحياة، ولكن الأثر الباقي للنظام البائد كان يستلزم المعالجة، فانخرطت الحكومة الانتقالية في زيارات مكوكية للولايات المتحدة الأمريكية لمخاطبة الأمر بوصفه الملف الأهم في السياسة الخارجية.
وكان من الواضح أن العقبات المتبقية هي عقبات إجرائية فقط، وقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريتش صراحًة لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل وتقديم الدعم المادي والسياسي للحكومة الانتقالية من أجل تثبيت مكاسب الثورة السودانية. وعقب الجهد الدبلوماسي الذي قادته الحكومة الانتقالية برئاسة عبدالله حمدوك، والإصلاحات في القوانين والمناهج الدراسية السودانية وفق مطلوبات لجنة الحريات الدينية بالكونغرس الأمريكي، كان المتبقي دفع التعويضات المالية لأسر ضحايا التفجيرات الإرهابية التي اتهم فيها السودان جزافًا في ظل غياب المرافعة عن البلاد أمام المحاكم الأمريكية إبان فترة حكم النظام البائد. كانت مسألة وقت فقط، ودفع السودان الثمن مئات الملايين من الدولارات للفكاك من الكابوس.
في الجانب الآخر، كان اللقاء الأول غير المعلن وغير الممهد له لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في شباط/فبراير 2020 - كان محل استفهامات وتعجبات، وفسره العديد من المراقبين وحتى المسؤولين كمحاولة للالتفاف على الحكومة الانتقالية والوثيقة الدستورية التي بشّرت بمجلس سيادة تشريفي لا يد له في السياسة الخارجية ولا حتى الداخلية، وهذا بالذات هو الغرض الأساسي من التطبيع: خرق الوثيقة الدستورية والاستقواء بالكيان محليًا ودوليًا ضد المكون المدني في الحكومة الانتقالية، وانتزاع مزيد من المساحات والسلطات من الحكومة المدنية التي أتت بها الثورة السودانية، مقابل ما أسماه كوشنر في مذكراته بـ"القيمة الرمزية" لتطبيع مدينة اللاءات الثلاث التي أسست للسياسة العربية ضد دولة الاحتلال طوال العقود الماضية منذ مؤتمر جامعة الدول العربية في العام 1967 الذي أقيم في الخرطوم.
التطبيع لم يكن له أي علاقة برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لقد استُخدمت هذه الحجة فقط لامتصاص الغضب الشعبي وبيعه في سوق السياسة السودانية، ولكن المسؤولين بالحكومة الانتقالية كانوا قد صرّحوا مرارًا وتكرارًا نافين ارتباط الأمرين، بل وحتى الإقدام عليه حيث صرح رئيس مجلس الوزراء المعزول عبدالله حمدوك في آب/أغسطس 2020 بأن الحكومة الانتقالية لا تملك التفويض اللازم للتقرير بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأن تفويضها لا يتعدى تنفيذ مهام الحكم في الفترة الانتقالية. وكان مجلس الوزراء قد تبرأ من اللقاء بين البرهان ونتنياهو، وقال إنه يعد خرقًا للوثيقة الدستورية التي تحكم علاقة قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الذي يرأسه البرهان. ونفى وزير الخارجية الأسبق عمر قمر الدين وجود علاقة بين مغادرة السودان لقائمة الدول الراعية وبين التطبيع مع دولة إسرائيل، مؤكدًا أن المسارين فصلا تمامًا بطلب من الحكومة الانتقالية، وذلك عقب تأكيده أن الأمر "تمت مناقشته في دائرة ضيقة"، بعيدًا عن السلطة التنفيذية بالطبع. فيما أكد وزير الثقافة والإعلام السابق الناطق باسم الحكومة الانتقالية فيصل محمد صالح، أن موقف الحكومة في العلاقات مع "إسرائيل" ثابت، وأنهم ليس لديهم "تفويض لاتخاذ قرار في مثل هذه الأمور، وهي من مهام حكومة منتخبة"، في إشارة لتصريحات حمدوك.
لم يكن جاريد كوشنر مصيبًا في حديثه في "كسر التاريخ" بأن السودان طبع مع الكيان ليتم رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإنما تم الزج بالتطبيع زجًا
أما البرهان نفسه فقد قال عقب اللقاء الذي ابتدر مسار التطبيع إنه قام بالخطوة من موقع مسؤوليته عن "حفظ الأمن القومي السوداني، وتحقيق مصالح الشعب العليا"، كما أكد على أن "بحث وتطوير" علاقات البلاد مع إسرائيل هي مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفقًا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وهي ذات الوثيقة التي اعتبر مجلس الوزراء أن اللقاء خرقها.
لم يكن جاريد كوشنر مصيبًا في حديثه في "كسر التاريخ" بأن السودان طبع مع الكيان ليتم رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإنما تم الزج بالتطبيع زجًا بواسطة سلطات الأمر الواقع والمناورات السياسية للخصوم في البلاد، تحت ضغوط كبيرة من دولة الإمارات قائدة قطار الدول العربية المطبعة. أما مسار الرفع من قائمة الدول الراعية للإرهاب فقد كان واضحًا منذ البداية، والمطلوبات منصوص عليها وفقًا للإدارات الأمريكية المتعاقبة على مر السنين، فهي مسألة محسومة مسبقًا دون وجود إسرائيل في الصورة، ولكن بإقحامها حدث الكسر الحقيقي للتاريخ؛ تاريخ السودان.