20-أغسطس-2024
آثار الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم

قبل الحرب، كانت جماعات مهتمة بالحقوق والحكم المدني في العاصمة الخرطوم تود صنع شيء ما لاستعادة المدينة العملاقة، والتي تتكون من ثلاث مدن تقع على النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل، من الفوضى وتراكم النفايات وانتشار عصابات العنف والسطو المنزلي.  

القطع الحربية التي عبرت الجسور قبل الحرب لم تثر قلق السودانيين سوى لبعض اللحظات بسبب تفاؤلهم المفرط بأن الأمور تحت السيطرة

لم يكن في بال السكان في العاصمة السودانية أن القطع الحربية التي تعبر الجسور بين مدن العاصمة تستعد لشنِّ الهجمات العسكرية حتى انتقلت المعركة من عض الأسنان إلى عض الأصابع.

على جسر الفتيحاب الرابط بين أم درمان والخرطوم من الجهة الغربية، كان الجيش يعزز نشر الدبابات والجنود والمدافع الثقيلة قرب قاعدة سلاح المهندسين، فيما كانت قوات الدعم السريع تعزز انتشارها على الجانب الآخر. ومع ذلك، ساد نوع من التفاؤل بين الناس أن ما يحدث يمكن حله وديًّا.  

التفاؤل المفرط  

من ثلاثة إلى أربعة أسابيع كانت العاصمة تُفرغ مساكنها من المدنيين نزوحًا للنجاة من المعارك الحربية التي دارت في شوارعهم ومناطقهم السكنية وحتى داخل المنازل. فرَّ المواطنون إلى ولايات لم تطأها أقدامهم من قبل.

تحكي مناطق وسط العاصمة الخرطوم، والتي يسميها السودانيون "منطقة السوق العربي"، روايات المعارك العسكرية العنيفة التي شهدتها في الأسبوعين الأولين للقتال. جثث ملقاة على الطرقات، بعضها بقيت إلى أن تحللت ونُهشت من قبل الكلاب الضالة. المحال التجارية المنتشرة على طول عشرة كيلومترات شمالًا وغربًا وجنوبًا وشرقًا، مشرعة الأبواب، منهوبة المقتنيات.

تذهب الاتهامات منذ الوهلة الأولى إلى قوات الدعم السريع في نهب منطقة السوق العربي، المركز التجاري الأبرز في السودان، والتي تضم الشركات والمؤسسات الحكومية والمحلات التجارية والبنوك والقصر الرئاسي ومراكز التسوق، كون هذه القوات سيطرت منذ الساعات الأولى على المنطقة.

كان نزار، الذي يبيع الملبوسات في متجره وسط السوق العربي، يستعد صبيحة السبت 15 نيسان/أبريل 2023 للذهاب إلى المحل، خاصة مع اقتراب عيد الفطر. شاهد في ذلك الوقت على نشرات الأخبار مقاطع فيديو من وسط العاصمة والقيادة العامة والنيران مشتعلة. اعتقد الشاب الثلاثيني أن الأمور ستتحسن مع مرور الوقت ويحدث نوع من التهدئة، كما درج السودانيون على التفكير في الأمور الصعبة بهذه الطريقة. لكن بعد ثلاث ساعات، أيقن صعوبة مغادرة الحي ناهيك عن الوصول إلى متجره. بقي في منزله بمحلية شرق النيل، وبعد ثلاثة أشهر غادرها إلى دولة خليجية للالتحاق بمهنة عامل.

ترك في متجره ملبوسات وعطور ومقتنيات بقيمة تصل إلى (50) ألف دولار. بعد سلسلة من المحادثات الهاتفية، تحصل على معلومات صادمة: "لقد تم نهب متجرك بالكامل".  

تسلل الإحباط  

في حرب منتصف نيسان/أبريل 2023، أفرط السودانيون في التفاؤل بأن القتال سيتوقف خلال أسبوع أو أيام وقد لا يكمل شهرًا. عزز ذلك الشعور، الدعاية الحربية التي صاحبت المعارك العسكرية على شبكات التواصل الاجتماعي، وكأن الأمور تحت السيطرة، وقد يقرر جنرال ما حسمها في أي وقت. واليوم، رويدًا رويدًا، يتسلل إليهم الشعور أن الحرب ربما تستمر لسنوات.

ناشط حقوقي: لن تكون هناك عودة مأمونة دون المرور بـ"فعل على الأرض"

في بعض الأحيان، تسري الآمال في نفوس السودانيين باقتراب العودة إلى الديار بعد (16) شهرًا من الحرب والنزوح والتشرد والفقر وانعدام الطعام وشح الدواء والقتل والاغتصاب. لن تكون هناك عودة مأمونة دون المرور بـ"فعل على الأرض"، وفق أحمد بحيري الناشط في مجال الحقوق، متحدثًا عن حرب السودان بقلة الأمل وانسداد الأفق.

يخوض بحيري في سبر أغوار القتال بين الجيش والدعم السريع، معززًا دفوعاته بعدم وجود مشروع وطني شامل يجمع السودانيين للبحث عن أفق جديد، كما أن من يتبنون مطالب السلام لا يتحدثون من منطلقات فكرية تحليلية عميقة؛ فالحلول لديهم عابرة وسريعة وكثيرة العموميات وبعيدة عن الدقة.

الفقر والسطو مقدمة للحرب  

من مكتبه القديم وسط العاصمة الخرطوم في منطقة السوق العربي، كان ينظر إلى الباعة المتجولين ومئات المارة المثقلين بالهموم المعيشية من محطة الحافلات إلى العيادات الصحية والمستشفيات الخاصة. أغلبهم وصلوا من قرى نائية. يقول بحيري إن السودان كان على موعد مع الحرب نظرًا لارتفاع نسبة الجريمة، وتفشي الفقر، وتسرب الأطفال من المدارس، والالتحاق بالجماعات المسلحة، وارتفاع الرغبة بين المجتمعات في الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج وكندا وأستراليا، أو البحث عن الثراء داخل البلاد من خلال التوهان في الصحاري والوديان تنقيبًا عن الذهب.

وأردف: "في الأيام القليلة التي سبقت الحرب، كانت عصابات مسلحة تنتقل على شاحنة دفار وتسطو على المنازل في أحياء العمارات والرياض شرق العاصمة الخرطوم بقوة السلاح وفي وضح النهار. لم تتمكن الشرطة من فعل شيء. كانت هذه الجرائم مقدمة لحرب عنيفة وخالية من مراعاة حقوق المدنيين".

أفرط الناس في التفاؤل عندما اعتقدوا أن الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك ستلعب دورًا في الوصول إلى جيش موحد

يرى بحيري أن فرصة ثمينة تبددت عندما احتشد السودانيون قرب القيادة العامة في نيسان/أبريل 2019. تمت الإطاحة بالبشير، وكان المطلوب المُضي قدمًا للضغط على المجموعات المسلحة، بما في ذلك الدعم السريع، لتكوين جيش موحد ومن ثم الانخراط في مشروع الحكم المدني.

وأضاف: "أفرط الناس في التفاؤل عندما اعتقدوا أن الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك ستلعب دورًا في الوصول إلى جيش موحد. لم يكن رئيس الوزراء يستطيع أن يفعل ذلك. في بعض اللحظات الحرجة، عندما يحدث التوتر بين الجنرالين البرهان وحميدتي، يتدخل ويصلح الأمور بينهما. لقد كان يحقق نوعًا من التوازن المؤقت في العلاقة بين الجنرالين، وهو يعلم تمامًا أن الأمور غير قابلة للسيطرة، وعندما استقال، تنبأ بالحرب".

كيف تسلح الدعم السريع؟  

استغرقت قوات الدعم السريع خمس سنوات للاستعداد لمعارك العاصمة الخرطوم. الهدف من نقل الحرب إلى أكبر مدن البلاد كان مثل لوحة الشطرنج: "دك اللعبة" على رؤوس الجميع، ومن ثم البدء بشروط جديدة في عملية لن تحدث بيسر شديد كما يتوقع المراقبون.

كانت هذه القوات تمتلك روافع اقتصادية جعلتها الأفضل ميدانيًا من بين الجماعات المسلحة التي نشأت في السودان، بما في ذلك حركة الراحل جون قرنق التي قاتلت الحكومة المركزية في الخرطوم. من بين تلك الروافع العلاقات الإقليمية والدولية، والتعاون مع الاتحاد الأوروبي في مكافحة الهجرة إلى أوروبا وملاحقة المهاجرين من الشبان في الصحراء بين ليبيا والسودان، ووضعهم في السجون أو دفعهم إلى حياة الجندية في صفوفها.

جبل عامر الواقع في شمال دارفور غربي البلاد يضم مئات المناجم التي كانت مليئة بالذهب. حصلت قوات الدعم السريع على امتيازات للتنقيب والتصدير والتجارة والتداول عبر شركتها الرئيسية بحماية من البشير. كل هذه العوامل ساعدت حميدتي في تأمين أجور القوات والتسليح والعتاد والمباني.

ناشط في مجال التعدين: دولة طبيعية لا تترك قائد قوات موازية للجيش الوطني وتحت سيطرته مناجم الذهب وآلاف الجنود

لا تقل موارد الذهب في جبل عامر خلال خمس سنوات عن نصف مليار دولار، وفق العاملين في هذا القطاع، من بينهم علي عبد الرحمن الناشط في مجال التعدين، والذي يشير إلى أن الذهب ممول جيد للتسليح والعتاد، لأن التكلفة الاقتصادية للتنقيب قليلة مقارنة مع عائداته من الصادرات. يقول لـ"الترا سودان" إن دولة طبيعية لا تترك قائد قوات موازية للجيش الوطني وتحت سيطرته مناجم الذهب وآلاف الجنود ثم لا تتوقع حربًا تنافسية، خاصة مع تنامي طموحاته السياسية منذ الإطاحة بالبشير.

في العاصمة الخرطوم، شيد الجنرال حميدتي شركاته المتعددة، من بينها شركة تسويق الذهب "الجنيد"، مستمدًا الاسم من مجتمعه الصغير في إقليم دارفور عندما كان مقاتلًا في صفوف جماعة مسلحة صغيرة يقودها قبل أن ينتقل إلى الخرطوم ويلتقي بالبشير ويضاعف قواته إلى عشرات الآلاف، كما تفاخر الرئيس المعزول بذلك في خطاب جماهيري.

اقتربت قوات حميدتي من مصفاة النفط الواقعة بالخرطوم، وكانت تحت سيطرتها في اليوم الأول للقتال قبل (16) شهرًا. ومع نشاطها الاستخباري المحموم في الفترة من 2019 وحتى 2023، لم يكن صعبًا أن تجد نفسها في خضم منشآت حيوية في قلب العاصمة واقعة تحت سيطرتها حتى اليوم.

شوارع ترابية مظلمة

كانت الخرطوم على استحياء تتصدر مدن السودان من حيث تركز القليل من التنمية والكثير من منشآت القطاع الخاص مثل المستشفيات والشركات المالية ومطاحن الغلال والأسواق الكبيرة خلال الحرب هذه البنية على قلتها وتواضعها لم يبق معظمها كما كانت قبل الحرب، وسط تقديرات تشير إلى أن السودان بحاجة إلى (150) مليار دولار لاستعادة بنيته التحتية.

لا يوجد يقين في أوساط السودانيين خاصة الفاعلين في الشأن العام حول مصير الخرطوم إذا توقف القتال باتفاق سلام

كل حرب تنتهي بالتفاوض في أفريقيا كما درجت الشعوب في العالم الثالث، حتى السودان لم يكن بإستثناء عن معاهدات السلام التي أنهت أطول حروبها في العام 2005 وظلت الدولة المركزية وعاصمتها الخرطوم كما.

اليوم، لا يوجد يقين في أوساط السودانيين خاصة الفاعلين في الشأن العام حول مصير الخرطوم إذا توقف القتال باتفاق سلام، أما الإجابة على هذا السؤال في نظر الناشط الحقوقي أحمد بحيري، فتعتمد على "الفعل السياسي المبذول على الأرض".