13-أغسطس-2024
آثار الحرب في الفاشر

يستمر القصف على مدينة الفاشر في موجة جديدة من العنف عقب هدوء دام لأسابيع

بعد هدوءٍ نسبي طرأ على محور الفاشر، عادت أجواء المواجهات من جديد بين الجيش والقوات المشتركة من جهة، ضد قوات الدعم السريع، مسنودةً بأرتال ضخمة من "فزع" الحزام الرملي داخل الحدود وخارجها. وأشارت تقارير خاصة إلى مشاركة قوات من حركة "فاكت" التشادية وقوات من "السيليكا" المنحدرة من أفريقيا الوسطى، فضلاً عن عرب "ديفا" من النيجر وطوارق "أزواد" من مالي.

وصفت معارك الأيام الماضية بأنها الأعنف والأكثر ضراوة منذ بداية الحرب على تخوم الفاشر

وصفت معارك الأيام الماضية بأنها الأعنف والأكثر ضراوة منذ بداية الحرب على تخوم الفاشر، حيث تجمعت قوات ضخمة من ولايات غرب وجنوب وشرق ووسط وشمال دارفور. أظهرت بعض مقاطع الفيديو مشاركة فاعلة لأشهر القادة الميدانيين بالدعم السريع، أمثال "السافنا"، وبشير آدم عيسى، وأحمد بركة الله، وعبد الله شغب، تحت قيادة النور قبة وجدو بنشوك. انتشرت أنباء حول مقتل القائد مهدي بشير والقائد جالي.

الفاشر مقبرة

ونشر حاكم إقليم دارفور المتحالف مع الجيش، الجنرال مني أركو مناوي في صفحته على فيسبوك قائلاً: "إن مدينة الفاشر ستظل عصية ومقبرة للجنجويد"، متوعداً بمزيد من الهزائم لمليشيات الدعم السريع. وفي سياق مماثل، ندد حاكم إقليم دارفور الذي يقود حركة جيش تحرير السودان بصمت العالم عن القصف المدفعي الذي تشهده الفاشر ويكتوي بناره إنسانها المسالم والمحب للحياة، محملاً دولة الإمارات العربية المتحدة مسؤولية الانتهاكات التي تمارسها قوات الدعم السريع بسبب دعمها اللا محدود وإسنادها المتصل لها. عدد مناوي، في مخاطبة حشد من جنوده، حجم المآسي التي أفرزتها الحرب في كل المحاور مع مفاقمة الأزمات الإنسانية في دارفور، التي استحالت، بحسب وصفه، إلى محرقة، ملقياً باللائمة على المجتمع الدولي والمنظمات العاملة في العون الإنساني لتخليها عن مسؤوليتها في ظرف بالغ الحساسية والحرج.

وتعد معركة الفاشر مرحلة فاصلة في مسار الصراع المشتعل منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023م. وعلى رهاناتها حدث تغير في موقف الحركات المسلحة وتخليها عن حيادها. حول إرهاصاتها، تتداعى النداءات الدولية وتنشط المبادرات ومشروعات التسوية المقترحة أفقاً للحل. ومع مراوحة مستويات الصراع بين السياسة والحرب، تصاعد الجهد الدبلوماسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بما تملك من أدوات الإغراء والإرغام، وتعهد المبعوث الأمريكي بأن شهر آب/أغسطس سيكون حاسماً في رسم مسارات الأحداث واتجاهها نحو السلام وتأمين المساعدات الإنسانية، ولو تم إسقاطها عبر الطيران.

عوامل رئيسية للصمود

يقول الدكتور حسن حسين قاسم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة، إن ثمة عوامل رئيسة يمكن أن نفسر عبرها صمود مدينة الفاشر، أهمها على الإطلاق البيئة المحيطة ببؤرة النزاع؛ أهي صديقة أم عدوة أم محايدة، سيما في ظل إعادة تعريف المعركة الدائرة حول الفاشر بما هي صراع وجودي يستحث الأطراف الداعمة والساندة إلى بذل كل مجهوداتها ومدخراتها ويدعو للانخراط الجدي في حماية المدينة من غزو قوات الدعم السريع على كثافة نيرانها وبشرها. يشير الدكتور قاسم إلى تغير عميق طرأ على معركة الفاشر تحديداً من حيث تفاعلاتها وأهدافها، ودخول فاعلين جدد في خضم حدثها المتصل والكثيف في آن. ويؤكد خبير الأمننة والمليشيات أن عملية الإمداد بالسلاح والمؤن لا يعد أمراً مركزياً، ولكنه عامل مساعد.

رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الجزيرة: البديل عن الصمود هو إغراق المنطقة بالفوضى والتقتيل والتنكيل، كما جرى في كل المحاور التي اخترقتها قوات الدعم السريع في الجنينة ونيالا وزالنجي، علاوة على الجزيرة وأجزاء من الخرطوم وكردفان، ومؤخراً ما حدث حول سنار منذ سقوط جبل موية وسنجة

يشدد رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الجزيرة على طور الصراع الراهن بوصفه حلقة من الصراع "الوجودي" الذي شهدته منطقة دارفور مؤخراً وتجذره في أبنيته وتراكيبه المعقدة والمتعددة الأبعاد. غدت الفاشر ذات رمزية خاصة للطرف المعتدي الذي جمّع قواه وحشد أطرافه من أقاصي جغرافية الحزام الرملي، وفي المقابل استجمعت القوات المشتركة والمستنفرين حشودها إلى جانب الجيش وأعدت عدتها لمعركة طويلة، ونجحت حتى هذه اللحظة في تكبيد القوات الغازية خسائر مهولة في الجنود والآليات مع إحباط تقدمها ورد غائلتها. ومن المتوقع أن تعاود الكرة مراراً، لكن يبقى الرهان، بحسب قاسم، على الصمود لأقصى مدى، باعتبار أن سقوط الفاشر يعني سيطرة الدعم السريع على كامل دارفور وخروج هيمنة الدولة من الإقليم المهم والمضطرب منذ بداية الألفية الثالثة.

تبقى المعركة، وفق إفادة حسن حسين، على رهان البقاء الوجودي وإرادة الاستمرار والاستقرار، لأن البديل عن الصمود هو إغراق المنطقة بالفوضى والتقتيل والتنكيل، كما جرى في كل المحاور التي اخترقتها قوات الدعم السريع في الجنينة ونيالا وزالنجي، علاوة على الجزيرة وأجزاء من الخرطوم وكردفان، ومؤخراً ما حدث حول سنار منذ سقوط جبل موية وسنجة. يرى قاسم أن الفارق الرئيس بين معركة الفاشر وسنار في نمط وطبيعة المعركة وتراوحها بين الدفاع والهجوم، معتبراً أن الاكتفاء بالدفاع فقط دائماً ما يولد الأزمات ويفاقم الأوضاع، وأن أي تغير ممكن يظل رهناً باتخاذ تدابير هجومية من قبل الجيش وضرب هيمنة النقاط الحاكمة في جبل موية، وقطع سلاسل الإمداد، واستعادة الطريق البري الرابط بين النيل الأبيض والنيل الأزرق. مؤكداً أن الحصار المحكم على سنار لم يؤثر على تماسكها وإرادتها، وهي مؤهلة أن تغدو مثل الأبيض وبابنوسة، التي قدمت نموذجاً أسطورياً في الصمود وإسقاط غزوات الدعم السريع.

مدن مفصلية

ويؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة على أهمية ومفصلية سنار والفاشر بما هي إطار حاسم في مسار الحرب، مع الفارق في حدة واحتدام المواجهات لصالح الفاشر والزخم المحيط بمحاورها. مع انتقال المعركة من الاصطراع العسكري المحض إلى استهداف الحواضن والمواطن، تحولت الحرب إلى إطار مزدوج جعل اصطفاف المجتمع حول مؤسساته أمراً ضرورياً ولا غنى عنه، بحسبان أن البديل هو الفوضى وسيطرة أمراء الحرب وانتهاب الممتلكات والأصول والاستسلام لمصائر المحو والإزالة والتشريد والإفقار والإفراغ التام. وهذا ما يفسر التحام المجتمعات المحلية مع نواظمها العسكرية وتصاعد موجات التحشيد والتجييش ومؤازرة المؤسسة العسكرية، والنظر إلى حمل السلاح كوسيلة أحادية لرد العدوان وكف أذى خصم صائل يستهدف الأنفس والثمرات والمقدرات، ويسعى لإعادة هيكلة المجتمعات بالتغيير الديموغرافي والإزاحة والإقصاء.

محور الفاشر أسهم بقدر وافر في استنزاف قوات الدعم السريع، وسدد ضربات موجعة في عمق بنيته الصلبة وسيل روافده المتصلة، ومن شأنه أن يعود على مجمل المعركة بنتائج حاسمة

يشير حسن حسين إلى استفادة المناطق الصامدة من الثغرات التي حدثت في الجزيرة ودارفور وحول سنار بمزيد من التماسك والتحصين الأمني وضرب الجيوب المساندة والخلايا النائمة. هذا ما جعل سنار والفاشر والدمازين، علاوة على الأبيض وبابنوسة، تسجل ما أسماه صموداً أسطورياً في وجه غاشيات الدعم السريع وحصاره المدعوم والمخدوم إقليمياً ودولياً. مؤكداً على أهمية الاحتفاظ بمقومات الصمود وتنميتها وتوسيع دائرة السيطرة ميدانياً، والتحول من الدفاع إلى الهجوم بتسديد ضربات موجعة عبر سلاح الجو والمدفعية الثقيلة وزحف المشاة رويداً رويداً، وعدم الاكتفاء بتغليب النمط الدفاعي، فضلاً عن تحييد المكونات الساندة للدعم السريع بمخاطبة هواجسها ومخاوفها وتجفيف خطوط إمدادها، وهي مسائل على ما يحيط بها من تعقيد إلا أنها ممكنة إذا توافرت الإرادة وحسن الإدارة.

يعتقد خبير الأمننة والمليشيات أن محور الفاشر أسهم بقدر وافر في استنزاف قوات الدعم السريع، وسدد ضربات موجعة في عمق بنيته الصلبة وسيل روافده المتصلة، ومن شأنه أن يعود على مجمل المعركة بنتائج حاسمة، معتبراً أن فشل الدعم السريع في إخضاع المدينة العصية والمهمة في آن سيؤدي إلى إفشال مشروع الدعم السريع القاضي لبسط كامل هيمنته على السودان وتأسيس سلطة قابضة وتغيير معادلات الحكم بصورة جذرية.

رهان المجتمعات

برغم جرأة الدعم السريع في اختراق حصون الجيش ومناطق سيطرته وتوالي زحفه في مساحات واسعة على المدن الآمنة، مما أيقظ مخاوف المجتمعات المحلية واستثار حفيظتها لجهة تحول القوات الغازية إلى استهداف الحواضن والمواطن، مع تحول الانتهاكات والانتهابات من أثر جانبي للمعارك إلى طبيعة ملازمة ونمط مقصود مع سبق إصرار وترصد، مما يجعل كثيراً من المجتمعات تراهن على مؤسساتها برغم اختلالاتها وإشكالياتها احترازاً من مشروعات الفوضى وفوضى المشروعات. ولعل هذه هي فحوى الرسالة التي تقدمها الفاشر اليوم، بمثلما ظلت تقدمها الأبيض وبابنوسة والمناقل وسنار. يقول حسن حسين مختتماً إفادته: إن مشروع الدعم السريع بما ينطوي عليه من نزوع سلطوي منزوع القيمة يعلي من مقومات مقاومته من المجتمعات المحلية بوصفها صاحبة مصلحة مادية مباشرة ومضادة له في ذات الوقت. ومع زيادة قناعات الناس العاديين بالانخراط في درء مفاسده ورد غائلاته، ستتحول مجريات الأحداث وتتداعى قلعة الرمل من كل جوانبها، وهو أمر يراه الدكتور قاسم حتميًا عقب كل هجوم عسكري جديد بما يحتويه من فشل أخلاقي وأفق سياسي مسدود، كما تدل على ذلك الوقائع وتشير التوقعات.