بالرغم من مرور حوالي الـ(24) عامًا على حرب منطقة جنوب طوكر في أقصى شرقي السودان؛ ما تزال المنطقة محكومة بقانون الطوارئ، وما يزال مواطنوها يواجهون صعوبة في التحرك إلا بإذن من السلطات العسكرية أو تصريح رسمي صادر من طرف الجهات الأمنية، وينطبق هذا أيضًا على الزائرين لها من مدينة بورتسودان. يشمل هذا الوضع كل المواطنين العائدين لمناطقهم وكذلك القافلات الصحية والاجتماعية التي تزور المنطقة بين الحين والآخر لتقديم المساعدات الصحية والاجتماعية، خاصة أن المنطقة بحاجة دائمة للدعم بسبب تقاصر السلطات في تقديم الخدمات، بالإضافة لوقوفها عائقًا في وجه الجهات التي تحاول تقديم المساعدات.
قطعت حرب طوكر الطريق أمام تطور المدينة وتعافيها من الترييف
يعاني سكان المنطقة من صعوبة الحصول على المواد الغذائية الأساسية بسبب قانون الطوارئ المفروض حتى يومنا هذا، وخدمات أخرى كالكهرباء والماء الصالح للشرب؛ وأيضًا توفر الأدوية العلاجية، فعلى طول المسافة ما بين طوكر وقرورة لا يوجد مستشفى تتوفر فيه الخدمات العلاجية في حدها الأدنى، ويشمل هذا الأمر -بجانب المواطنين المدنيين والعسكر- مبعوثي وممثلي سلطة الدولة، فهم أيضًا متروكين في العراء كحال غيرهم ممن خطت أقدامهم منطقة ما قبل الموت.
اقرأ/ي أيضًا: مصطفى تمبور: نطالب بالإسراع في تشكيل قوة مشتركة وجمع السلاح بدارفور
كانت منطقة جنوب طوكر ككل مناطق السودان التي تتعافى رويدًا رويدًا من تريُّفها الاضطراري، وتسمو بنفسها نحو مدينة ذات مؤهلات مدنية كاملة، ولكن جاءت حرب جنوب طوكر وقطعت سلسلة هذا الحلم، الحرب التي لم تكن بين معارضين مسلحين وسلطة دكتاتورية قابضة على أنفاس المواطنين، بل كانت حرب بين قوتين تمتلكان السلاح، وصراع متسارع في أيهم أسبق في تحويل هذه المنطقة إلى رماد!
يقول المواطن (إ. ب) وهو أحد ساكني قرورة في سرده لتلك الأحداث: "قبل أن تبدأ معركة قرورة سبقتها سنوات من المعاناة في زرع الألغام، وكانت تُحصد كل فترة مجموع من أرواح المواطنين، بسبب زراعة هذه الألغام في الطريق الرئيس الذي يمثل شريان المنطقة والرابط بحاضرة الولاية".
اقرأ/ي أيضًا: بالتزامن مع عيدها الوطني.. وفد سوداني رسمي إلى إسرائيل وسط تعتيم إعلامي
ويضيف أنه كان حاضرًا يوم الهجوم على قرورة في 26 آذار/مارس 1997، وقبلها بأيام أحد أعضاء الحركة الشعبية "مجموعة جون قرنق" سلّم نفسه للاستخبارات العسكرية السودانية، وفيما قدم من اعتراف أثناء التحقيق أن قوى المعارضة السودانية ستهجم على المدينة قريبًا؛ أي مدينة قرورة. وتصادف هذا الأمر مع سحب القوات العسكرية السودانية لحاجتها في الكرمك وقيزان والميل (40)، ولم يتبقَ في قرورة إلا ما يقارب (130) إلى (140) جندي موزعين على خيام طرفيّة للمدينة ومسؤول استخباراتي غادر قرورة بالعربة الوحيدة التي تحمل راجمات وقاذفات عسكرية.
اعترف أحد أعضاء الحركة الشعبية أثناء التحقيق أن قوى المعارضة السودانية ستهجم على مدينة قرورة قريبًا
اجتاحت المعارضة السودانية جميع مناطق جنوب طوكر وسيطرت عليها حتى تخوم مدينة طوكر، ونصبت قواها العسكرية القوية بمساندة من جيش الدفاع الإريتري في جبل "تقدرا"، وقررت أن المنطقة ما بين جبل تقدرا وطوكر هي منطقة دفاع متقدمة، بينما قررت الحكومة السودانية أن كامل جنوب طوكر منطقة دفاع متقدمة، وهو ما يعني أن سلطات الخرطوم رأت أن ما بعد طوكر هي أرض حرب وكأنها تدور خارج سلطتها؛ وهذا ما يفسر الإهمال الحالي.
معتقلات التعذيب
في الوقت الذي كان يجب فيه على السلطات أن تحمي مواطنيها في جنوب طوكر؛ قامت بحملات اعتقال وسط المواطنين في مدينة بورتسودان وعموم جنوب طوكر على أساس الهوية المجتمعية، بتهمة التجسس ودعم المعارضة المسلحة أو القوات الإريترية والتي كانت جزءًا أساسيًا من الحرب، فاعتقلت الاستخبارات العسكرية مواطن ومعلم مدرسي، كان قد أوصل صوت احتجاجه لقائد مجموعة عسكرية استباحت منطقة متاخمة للسكن الداخلي للمعلمات، وتحرشت بهن حسب شهاداتهن وشهادات الأهالي.
انتهى الحال بالمعلم معتقلًا وتم تبليغ أهله بواسطة وزير الدفاع السوداني وقتها جمال الدين عمر محمد إبراهيم ، أنه مات نتيجة الحمى وقد تم دفنه. وقد كان جمال يومها مسؤول الاستخبارات في البحر الأحمر، وما تزال العائلة لليوم تسأل كيف تم اعتقال ابنها وكيف مات وأين تم دفنه، وتواجه مشكلة في حق التقاضي إذ أن الطرف الآخر هو السلطة العسكرية التي ما تزال تسيطر على الحكم في السودان.
الكرامة المدعوسة من الدولة
تحكي المواطنة آمنة نوراي "وهو اسم مستعار بغرض الحماية"، عن المراقبة التي خضع لها بيتهم لأيام قبل مداهمته واقتياد أختها بمنظر وحشي وهي ملفوفة بالملاءة وعيناها مغطيتان بشريط أسود، ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا سرقة ذهب الأم ولكنهم نجحوا في استعادته، وقد تعرضت الأم للدفع بقوة حتى سقطت لحظة محاولتها منعهم من اعتقال الابنة.
اقرأ/ي أيضًا: النائب العام يتدخل قبل ساعات من إضراب شركات الملاحة بميناء بورتسودان
وتواصل آمنة على لسان أختها، أنها بعد لحظات اعتقالها واجبارها على ركوب سيارة جهاز الأمن كانت قد انتبهت إلى أن العدد في تزايد مستمر، وفي كل مرة تتوقف فيها السيارة يحملون شخصًا أو أشخاصًا جدد، ووحشية طريقة الاعتقال المبنية على أساس التمييز العنصري الذي ما يزال قائمًا.
حملات الاعتقال من قبل السلطات المبنية على أساس التمييز العنصري كانت من أكثر الحملات قسوة ووحشية بالمنطقة
وتضيف المعتقلة على لسان أختها: حينما تم إدخالها للمعتقل وجدت نساءً كثيرات وأغلبهن كبيرات في السن ويبدو عليهن الهلع.. طلبت امرأة كبيرة في السن أن تشرب ماء. فقال لها العسكري: "أشربي من بولك"
بعد مرور أربعة وعشرين عامًا لاتزال المنطقة مزروعة بالألغام، ولا يزال دم الضحايا مطلوقًا في الفضاء لا غريم عنه ولا مسؤول منه. وفوق كل ذلك ما زالت منطقة جنوب طوكر قفر وبقرار ساري من طرف الذين أحبّوا ورغبوا في ذلك.
اقرأ/ي أيضًا
النائب العام لـ"الترا سودان": لا يوجد أي بلاغ في النيابة ضد "هبة"