ضمن سياق تصوغه الحروب في المنطقة، التي تعيش حربي السودان وغزة، وتعثر الانتقال الديمقراطي، وظروف اقتصادية صعبة، تبدأ في التضخم ولا تنتهي في انهيار أسعارف صرف العملة الأجنية، تأتي الدورة 55 لمعرض القاهرة للكتاب.
ورغم ذلك، تشهد الدورة الحالية كثافة في الحضور، يظهر مدى توق الإنسان العربي إلى تملك أدوات المعرفة والتسلح بالعلم والوعي والإدراك والإحاطة في زمن الحداثة الفائقة.
تأتي الدورة 55 من معرض الكتاب في القاهرة، على نحو جيّد رغم شكوى بعض دور النشر من ارتباك في الافتتاح، كما أفاد بعض المشاركين عن بُعد مقر المعرض الحالي في التجمع الخامس، عن المقر السابق في أرض المعارض بمدينة نصر، والإقرار في ذات الوقت بتميز المقر الحالي.
مع تصاعد الحرب في السودان، إلّا أنّ دور النشر السودانية، وجدت فسحة صغيرة لها في معرض القاهرة للكتاب، وعملت على تقديم ونشر الكتب السودانية للقارئ العربي والسوداني
وعلى المستوى العام، يظهر للزائر غلبة الكتب الأكاديمية والتعليمية والمنهجية ومع حيز مقدر لعرضها، بالإضافة إلى تخصيص مساحات واسعة لعرض كتب الأطفال، وهو ما يجد إقبالًا كبيرًا من الأسر المصرية وجاليات اللجوء العربي، وبموازاة ذلك سيجد الزائر مساحات نشر واسعة للكتب الأجنبية، المرغوبة من خريجي المدارس والجامعات الأجنبية، وهو يمكن أن يراه بعض نقاد الثقافة التباسًا للمنتوج المعرفي بأنماط العيش والقيم الثقافية في عوالم "التناظر الهيكلي"، وهو أمر يطرح تحديات مستمرة في سياق العولمة الثقافية بنماذجها وتأثيراتها الناعمة على عوالم "التغاير الهيكلي".
سيرى الزائر أيضًا، وفرة الكتاب الديني ودور النشر السلفية وما بعد السلفية التي انتهجت طرائق عرض جاذبة، يظهر من خلالها الدعم المالي السخي والقناعة القديمة بنفاذ الأثر الثقافي والمعرفي في تشكيل الوعي العمومي، في مقابل غياب كتب الإسلام السياسي.
وسيلحظ الزائر غلبة الرواية والسرد والقصص وكتب النقد الأدبي ومناهجه، وتراجع الشعر ودواوينه مع إعادة نشر الروايات الكلاسيكية بطبعات مختلفة متفاوتة السعر والجودة، كما سيلحظ إقبال فئات الشباب على دور النشر المتخصصة في الرواية على نحو كثيف وبروز نجومية الروائيين الشباب والتعلق بمنتوجاتهم.
كما سيجد الزائر المهتم، دور النشر العربية الرصينة باتجاهاتها المتباينة وطروحاتها المتمايزة، التي تتناسب قيمتها المعرفية مع قيمتها المادية، مع جودة المطبوع وارتفاع سعر الصرف الأجنبي وهو ما انعكس على إقبال مرتادي المعارض من مثقفي الطبقة الوسطى التي تمر بأسوأ أحوالها.
وسيجد القارئ العربي أصنافًا من الكتب المترجمة في مجالات الفكر والسياسة والاقتصاد والعلوم والفلسفة والآداب والنقد. والمعرض يشكل فرصة للمؤسسات والمنظمات والهيئات ذات الصلة والمكتبات العامة لاقتناء مراداتها، من الكتب والمصنفات والدوريات.
بحثًا عن السودان
خلال جولتنا بحثًا عن مشاركة دور النشر السودانية، عثرنا على مساحة بالصالة 2، على ثلاثة دور نشر، وهي: "عزة، وعندليب، وأجنحة"، قبل أن ندلف إلى الصالة 3، ونجد أربعة دور نشر أخرى، منها ما ينتسب إلى جنوب السودان، وهي: "ويلوز هاوس، ورفيقي"، وتلتقيان مع السودان الكبير في الهموم والقضايا المشتركة وتتقاسم ذات العناوين والقضايا، مع إيلاء أهمية خاصة لفكر الحركة الشعبية مع بروز جيل جديد من كتاب جنوب السودان، ينصف بطراز مميز.
ذات الصالة احتوت "دار المصورات" المعروفة بكتبها المتنوعة، مع تركيز على القضايا الجادة والأطروحات المعمقة في التاريخ والسياسة والأدب والفكر السوداني. وعثرنا على دار نشر واعدة باسم "نرتقي"، تدور معظم عناوينها حول قضايا الأدب والقصة والرواية وقليل من السياسة والاقتصاد.
وخلال جولتنا، تحدثنا بشكلٍ موجز، مع كل ناشر، في محاولة لاستكشاف واقع المشاركة السودانية في المعرض الدولي.
دار المصورات
عند استطلاع رأيه حول المشاركة، أوضح أسامة عوض الريح، صاحب دار المصورات للنشر، لـ"الترا سودان"، بأن الدورة الحالية رغم سياقها الضاغط على الدور السودانية بسبب الحرب وانعكاسها على قطاع النشر، كسائر القطاعات الحيوية الأخرى، إلا أنها "حوت إضاءات في عمق العتمة".
وأضاف: "استفدنا من الحضور الكثيف للسودانيين وإقبالهم على الكتاب السوداني، كتعويض عن غياب مكتباتهم، فضلًا عن زيادة اهتمام القارئ العربي والمصري بالشأن السوداني، نتيجة الحرب الدائرة فيها منذ منتصف أبريل المنصرم".
وحول صدور كتب جديدة عن الحرب الراهنة، قال أسامة: "نحن بصدد استكتاب نخبة من أهل النظر في كافة التخصصات، وتقديم مقاربة معمقة في الحرب ودواعيها وتداعياتها، وقد لاحظنا ورود كتب جديدة من المطبعة ذات عناوين ومضامين متنوعة وثرية في آن".
دار نرتقي
لم تغب دار نرتقي برغم غياب صاحبتها إسراء الريس، التي حازت جائزة الطيب صالح للعام 2021 بسبب صعوبة منح تأشيرات الدخول للسودانيين، فيما قالت المشرفة المناوبة عفراء إن "العوائق والظروف لا يمكن أن تثنيهم عن خدمة النشر وتسويق المنتوج السوداني"، مؤكدةً على إصدار عناوين جديدة ذات صلة بواقع الحرب، منها رواية عبد الله كمال عبد الله (صدى الحرب)، ورواية سعد مأمون (ماما خرطوم)، ورواية (السكيكرة) التي تدور حول الحب والثورة، علاوة على طباعة سلسلة الأعمال الفائزة وعناوين أخرى في نقد الاقتصاد السياسي لمحمد عادل زكي، وكتاب حول جنوب السودان والسياسة الدولية لتيكواج فيتر.
وأضافت أن الأعمال السودانية أضحى لها رواج ومقبولية في أوساط المثقفين العرب والمصريين منهم بوجه أخص .
أجنحة - عزة - عندليب
من جانبه، قال المشرف المناوب درندراوي: إن "المشاركة هذا العام لا تنفك عن السياق العام لبلاد تجتاز أزمة عميقة بسبب الحرب وآثارها المدمرة على قطاع النشر"، ساردًا الظروف المتعلقة بنقل الكتب من أماكن متفرقة، بالإضافة إلى صعوبة منح تأشيرات الدخول، مبينًا أن الجالية السودانية بمصر تعاني أوضاعًا صعبة، أثرت على إقبالها، رغم معقولية أسعار الكتاب السوداني مقارنة بكتب الدور العربية الأخرى.
دار ويلوز هاوس
بدورها، أوضحت صاحبة دار ويلوز هاوس قاتا يمبا، التي تحصل على امتياز أهم طبعات المثقفين والروائيين السودانيين وجنوب السودانيين، أن المشاركة معقولة والإقبال على نحو عام جيد، مؤكدةً أن سياق الحرب شجع الكثير من الزوار على شراء الكتب السودانية للإحاطة بأبعاد الصراع.
وحول الأزمة التي عبر عنها الكاتب عبد العزيز بركة ساكن، في صفحته بالفيس بوك و"إصداره تحذيرًا من شراء كتبه"، لم تزد قاتا عن قولها إن بركة ساكن أخذ مجمل استحقاقاته حتى شهر تموز/يوليو والقضية أخذت مسارًا قانونيًا وفي طريقها إلى الحل، مع جنوحها لأي معالجة تحفظ الحقوق المرعية والمصانة وفقًا لأصول الملكية الفكرية، وفق قولها.
وأشارت في سياق آخر إلى طباعتها 4 مجلدات من سلسلة الأعمال الكاملة للإمام الصادق المهدي، فضلًا عن طباعتها عناوين ذات صلة بالحرب منها مؤلف النور حمد حول الثورة والحرب، ورواية لممدوح أبارو تحت عنوان هاشتاق، وطباعتها مجموعة من الكتب لمثقفين مصريين، مثل عماد أبو زيد، ومحمد عواد، ومحمود سمير، وحصولها على منحة الشارقة للترجمة وطباعة كتابين، هما: "الذكاء ليس كافيًا، والخروج العظيم"، مع رواية محفوظ بشرى التي "تعتبر منفذًا جديدًا في التعبير الروائي والكتابة الإبداعية".
دار رفيقي
من جانبها، أبانت ساندرا أن مشاركة دار نشرها، تعتبر مرضية في ظل الظروف المحيطة بمسار النشر وتحدياته في العالم، والتي أثرت على المنتوج الورقي مع غلبة المنتوج الإلكتروني على الشبكة الافتراضية. مؤكدةً على إقبال السودانيين بطبيعة الحال أكثر من غيرهم على إصدارات الدار. إذ أضافت الدار عناوين جديدة مثل كتاب السياسي الجنوبي عبد الله دينق نيال عن الشاعر الضرير، وكتاب حوارية لاهاي للمثقف السوداني عبد الله بولا، في سياق المرافعة عن المثقفين السودانيين، فضلًا عن كتاب جحود البلاد الجميلة لدكتور قرنق توماس ضل.
وأعربت، انعكاس وصول الدار بالأوضاع الاقتصادية وتصاعد وتيرة التضخم وتآكل الطبقة الوسطى، ليس على مستوى العالم العربي والأفريقي فقط، وإنما على نطاق العالم .
جولة الترا سودان، كشفت الآثار غير المنظورة لحرب نيسان/أبريل، على صناعة النشر والأضرار المهولة التي حصلت لها، بفعل المعارك الدائرة في مراكز مدن السودان وحواضره، وتفاوت الاستجابة التي فرضتها الأوضاع الجديدة من التفاعل الإيجابي والتكَيُّف ومضاعفة الجهود والمثابرة عوضًا عن التسليم بالأمر الواقع وإحباطاته.