في الخامس عشر، من أيلول/سبتمبر الماضي، أغمض المغني البديع: صلاح بن البادية (1939-2019)، عينيه للمرة الأخيرة. بعد أن قال كلمة باهرة في مشوار غناء السودانيين، تضعه في مراقي أصحاب البصمة والأثر المتقد. وظلّ صلاح بن البادية، من أول يوم خرج صوته للناس، عبر إذاعة أم درمان، أمينًا لتجربته في الغناء والتلحين والأداء الفريد. وغير ضنينٍ لتوق فني المسرح والسينما.
حتى يصل صلاح بن البادية إلى أول سلم من سلالم احتراف الغناء، تقلّب في مهن عديدة
حتى يصل صلاح بن البادية، واسمه الحقيقي هو: صالح الجيلي أبوقرون، إلى أول سلم من سلالم احتراف الغناء، تقلّب في مهن عديدة. يمكث وقتًا يطول أو يقصر في كل واحدة من هذه المهن، ثم لا يلبث أن يتركها إلى أخرى، حتى أدرك مبتغاه أوائل الستينات بمحطتين مهمتين في حياته: الأولى عبر جلسات الأصدقاء وتقريظهم المتكاثر لصوته، وطريقته في الأداء.
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ وجغرافيا عماد عبدالله
اللحظة المهمة في تاريخ صلاح بن البادية الفني، في الشريط الذي ضم أغنياته الأربع، والذي استمع اليه، وكيل الاستعلامات والعمل وقتها، محمد بشير عامر فوراوي. وهو ما أوصى فورًا أن يشارك بن البادية في حفل الإذاعة المباشر من على خشبة المسرح القومي. وهو حفل كان يقام شهريًا وتنقله الإذاعة على الهواء مباشرة، وكان يحظى باستماعٍ عالٍ. كان ذلك في 1959، صلاح بن البادية كان يصف هذا الحفل بالمدهش بالنسبة إليه، وبنقطة التحول الكبيرة في حياته. حيث قوبلت أغنياته الأربع التي أداها من على خشبة المسرح بالتصفيق والقبول الحسن. وهو ما شجّعه من بعد على المضي في درب الغناء.
دخل بعدها بن البادية في محكٍ حقيقي، وهو أنّ أغنياته الأربع لا تؤهله ليصير فنانًا منافسًا، أو على الأقل فهي لن تؤهله لإحياء حفل جماهيري. وهو ما حرّضه للاتجاه إلى الملحنين. غير أنّ عدم التعامل الجيد الذي لقيه من برعي محمد دفع الله، هو ما اضطره لاختبار قدرته على اللحن، وقد كان، حيث نجح في تلحين أغنية "في محراب الحب"، للشاعر اسماعيل خورشيد. ومن بعد ذلك انفتح الباب لمحاولاته اللحنية الناجحة، في كلمات شعراء في قامة: محمد يوسف موسى، الصادق إلياس، عثمان خالد، مختار دفع الله، محجوب سراج، مبارك المغربي، عبد الله النجيب، هاشم صديق، وآخرون غيرهم.
أما اللحظة المهمة الثانية في حياة صلاح بن البادية، فكانت هيئة الإذاعة البريطانية، كونه أول فنان سوداني يخرج صوته عبرها وتُسجّل أعماله الغنائية. وكان بطل المحطة الثانية هو الطيب صالح، الإذاعي بهيئة الإذاعة البريطانية، والروائي الشهير. سجّل صلاح بن البادية عددًا من الأغنيات لهيئة الإذاعة البريطانية، والتي كان يُرددها في بداية تجربته الغنائية: "الأوصفوك، خاتمي الجنّن البَنّوت، عديلة ليه، غنيتها للستات".
وبمناسبة الاسم، وبمناسبة إذاعة هنا أم درمان، فصلاح بن البادية ينتمي إلى عائلة دينية بشرق النيل. وكان مخططًا أن يكون معلمًّا للقرآن، أو شيخًا في المدارس الدينية. لكنه آثر الغناء. ولما كان الأمر صعبًا على الأسرة الدينية، فاختار تمويهًا أن يُغيّر اسمه إلى صلاح، وهو الاسم الذي كانت تناديه به والدته، ثم أضاف إليه "ابن البادية"، وهي اعتراف منه أن منطقتي: أم دوم وأبوقرون اللتان ينتمي إليهما هي: بادية.
نتذكر صلاح بن البادية، في ذكراه السنوية، ونتذكر تجربةً ممتلئة بالإصرار، والكدّ والإيمان بالموهبة. ونتذكرُ ألحانًا بديعة لأغنياته، ولأغنيات الآخرين. وعُرف عن صلاح في تجربته اللحنية، أنّه كان يحفظ الألحان التي يؤلفها لقصائده في ذاكرته، كونه لا يُجيد العزف على الآلات الموسيقية في بداية تجربته الغنائية واللحنية، ليُسمعها للعازفين فيما بعد. وهو عين ما كان يفعله إبراهيم الكاشف. حيث لم تكن له أية علاقة بأية آلةٍ موسيقية، وفوق ذلك كان يؤلف الألحان البديعة، فيحفظها ليُسمعها للعازفين والموسيقيين، ليُحوّلوها فيما بعد إلى حروف وجمل موسيقية.
ونتذكر تجارب شعرية غنائية أثيرة: الشاعر محجوب سراج صاحب: الجُرح الأبيض، والشاعر محمد يوسف موسى صاحب: كلمة، وحُسنك أمر، وفات الأوان، وصدفة غريبة، وغيرها. ونتذكّر تجربته مع الشاعر الصادق إلياس، صاحب: ليالي الصبر، والباقي باقي وغيرهما. وبذات الأثر نتذكّر تأليفه الألحان لزملائه الفنانين، كما فعل مع: حمد الريح، والأمين عبدالغفار. كما نتذكر محمد وردي، الذي أهداهُ لحنًا لأغنية: أيّامك.
باختصار نتذكر تجربة غنائية أثمرتْ تعاونًا ممتدًا مع أكثر من أربعين شاعرًا، كانت حصيلته أكثر من تسعين أغنية. لكن هل اقتصرت تجربة صلاح بن البادية على الغناء والتأليف اللحني؟ بالطبع لا، فقد سار معه طموح التمثيل للمسرح والسينما. وهو توق يعرفه عنه المقربون عنه منذ فترة باكرة.
وبالفعل، فقد خاض هذه التجربة يدفعه الولع بهذين الفنين، حيث شارك بالتمثيل، بجانب الممثلة نعمات حمّاد، في مسرحية "لعنة المحلّق". أما في السينما، فقد شارك بالتمثيل في فيلم "تاجوج"، من إخراج أنور هاشم، وفيلم "رحلة عيون"، الذي شاركته فيه بالتمثيل الممثلة المصرية سمية الألفي، وهو من إخراج جادالله جبارة.
ويذكر الناس وقتها أنّ مشاركة بن البادية في هذا الفيلم حظيت بهجومٍ كثيف بسبب ظهوره في واحد من مشاهد الفيلم وهو مرتديًا "المايوه". وهو فنان سوداني أولاً، ثم وهو ينحدر من أسرةٍ لها موقعها في خارطة التصوف في السودان.
اقرأ/ي أيضًا: السر دوليب.. ورحل آخر المتفائلين
من الطرائف التي كانت تروى عن مشاركات الفنان صلاح بن البادية خارج السودان، وتحديدًا في البلدان الإفريقية، أنّ عددًا من الفنانين ما كانوا يقبلون أن يغني صلاح بن البادية قبلهم. ففي هذه الحالة كانت المسارح كلها تخلو بعد الاستماع لصلاح بن البادية. وهو قولٌ وإن غلبت عليه الطرفة، إلا أنّ رواةً وشهودًا عديدين يؤكدونه. وتشهد على ذلك الحفلات الجماهيرية الكبيرة التي كان يُحييها بن البادية، وكم الاستقبالات والتفاعلات التي كانت تحدث مع الجمهور.
صلاح بن البادية واحدة من الحالات الفنية الكبيرة في السودان، واستطاع أنْ يُخلّد اسمه في دفتر المغنين العظام
بقي القول بأنّ صلاح بن البادية واحدة من الحالات الفنية الكبيرة في السودان، واستطاع أنْ يُخلّد اسمه في دفتر المغنين العظام. وقدم طوال مسيرته التي استمرت منذ أواخر خمسينات القرن الماضي العديد من الروائع، وكان حتى أخريات أيامه محتفظًا بذات قدرته الأولى على التطريب وإدخال الدهشة والإمتاع في نفوس سامعيه.
اقرأ/ي أيضًا