قبل ثلاث سنوات كان الرجل يهبط في مطار الخرطوم يقبل تراب الوطن بعد غياب، ومن ثم يتجه إلى حيث ميدان الاعتصام، يحدِّث الثائر الثمانيني -الذي شهد أكتوبر الأولى وأبريل- أبناء ديسمبر قائلًا أن نصف ثورة يعني الموت كاملًا، وأن طلب الديمقراطية بالشراكة مع العسكر يعني أن تضيع دماء الشهداء. يكمل حديثه ثم يذهب إلى وجوب ضرورة محاسبة قيادات النظام المخلوع ويكتب عريضة قانونية لهذه الغاية.
غادر السودان عام 2009، بعد أن اعتقله نظام البشير وهدده بالقتل نتيجة تأييده مذكرة التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس المعزول
ذاكرة الرحيل
في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات؛ نوبة قلبية تضع نهاية لحياة الرجل، وكأن علي محمود حسنين كانت ينتظر سقوطهم ليموت في بيته وبين أحبابه. حزم حقائبه مودعًا بعد أن وهب الوطن ثمانين عامًا، كان فيها الرجل مثالاً للالتزام بالمبادئ والمواقف. ينعيه منسوبو الحزب الاتحادي بقولهم مات "الشقيق"، مات بعد "السقوط"، من لم يسقط طوال حياته في بئر المساومات والتسويات، من لفظته البلاد إلى المنافي، ولكن لم يغادر الوطن قلبه، وظل ملتزمًا بالنضال من أجل تحقيق الديمقراطية والرفاه لشعبه.
سيرة ذاتية
ولد علي محمود حسنين في منطقة "ارقو" في العام 1938، والتي تلقى فيها تعليمه الأولي، قبل أن يدرس المرحلة الوسطى بالقولد، والثانوية بمدرسة وادي سيدنا، والتحق بعدها بجامعة الخرطوم حيث نال البكالوريوس في القانون، وأكمل دراسته فوق الجامعية بشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
انخرط محمود الذي يطلق عليه لقب مقاوم الشمولية في العمل السياسي منذ وقت باكر، حيث تعرض للاعتقال في عهد حكومة الفريق عبود الأولى (1958 - 1964)، وفقد وظيفته في سلك القضاء، بعدها انخرط محمود في عضوية الحزب الاتحادي الديمقراطي، وشارك في مقاومة نظام الجنرال نميري (1969 - 1985) وتعرض أيضًا للاعتقال، كما أنه كان قائدًا لحركة المقاومة الداخلية حين نفذت المعارضة هجمتها المسلحة في العام 1976، وشارك بفعالية في انتفاضة الشعب التي أسقطت نظام نميري في العام 1985، قبل أن ينال ثقة الناخبين ويصبح عضوًا في الجمعية التأسيسية وضد الانقاذ (1989 - 2019)، خلال كل تلك السنين واصل حسنين مقاومة الشمولية وتعرض للاعتقال
رئيس الجبهة العريضة
يشار إلى أن علي محمود حسنين هو سياسي وقانوني كان يشغل منصب نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، ورئيس الجبهة الوطنية العريضة، التي أسسها عام 2010، لتتولى المقاومة السلمية لإسقاط البشير.
وغادر السودان عام 2009، بعدما أن اعتقله نظام البشير وهدده بالقتل، نتيجة تأييده مذكرة التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس المعزول، في اتهامات تتعلق بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي في إقليم دارفور غرب البلاد، ليستقر في لندن اختياريًا.
والمتتبع لسيرة الرجل يتوقف عند نقطة رئيسة؛ هي أن حسنين كان يرى في مجرد التنازل قطعة من الجحيم، والتنازل عنده يعني "التسوية"، ففي الوقت الذي مضى فيه معظم المعارضين لتوقيع اتفاقيات هدنة مع نظام البشير؛ كان حسنين وجبهته يقفون عند محطة ضرورة إسقاطه عبر الانتفاضة وعدم التفاوض معه لمنحه الشرعية، وهو الموقف الذي دفع الرجل فاتورته حتى داخل حزبه الاتحادي الديمقراطي الأصل، ففي الوقت الذي حصل فيه أعضاء الحزب على وزارات في الحكومة؛ كان هو في القاهرة يردد مقولته (لا تصالح ولو منحوك الذهب) وهو الموقف الذي ظل متمسكًا حتى سقوط نظام الإنقاذ.
قاد المخلوع للمحاكمة
بعريضة صاغها قانونيًا علي محمود حسنين؛ تقدم محامون سودانيون للنائب العام ببلاغ ضد الرئيس المخلوع تحت تهمة تقويض النظام الدستوري، وللمفارقة فإن قضية تقويض النظام الدستوري والتي يطلق عليها محاكمة مدبري انقلاب يونيو؛ هي القضية الوحيدة التي تم تقديمها ضد قيادات النظام السابق، رغم أن الشارع كان يطالب وعلى الدوام بمحاكمته على الجرائم التي ارتكبوها أثناء فترة حكمهم، في ذات الوقت كان حسنين يعمل على صياغة اتهامات قانونية في مواجهة قيادات النظام السابق، تتضمن عدم إفلاته من العقاب وفي الوقت نفسه تساهم وبشكل كبير في تحقيق العدالة، في كونها إحدى مطالب ثورة ديسمبر.
لم يكتفِ محمود بقيادة المخلوع إلى المحكمة، لكنه كان في المقابل يرفض مبدأ التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، تحت مبررات أن الحكم الديمقراطي لا يطلب من العسكر وأنه من غير المنطقي أن يدفع شباب السودان دمهم من أجل الثورة؛ وينتهي الأمر بتسوية تحافظ على الأوضاع مثلما كانت عليه قبل الثورة، وهو ما جعله يرفض خطوات قوى الحرية والتغيير في سعيها لإنجاز الشراكة مع العساكر
نصف حلم
كان سقوط الإنقاذ واحدة من الأحلام التي أنجزها الراحل محمود حسنين، وقد شاهده وعاش بعضًا من تفاصيله، التفاصيل التي كانت تكتمل داخل ميدان الاعتصام، وحالة حزن كبيرة تنتاب الجميع بسبب مرارة الفقد، هناك في الميدان تمت الصلاة عليه قبل أن يشيعه الآلاف نحو مقابر أحمد شرفي، حيث ضمّه قبر داخل وطنه، قبر كانت الانقاذ ستضن عليه به، حين تقدم أحد قياداتها بمقترح تشريعي برلماني يحرم على المعارضين الدفن داخل الوطن، ومن كان أشد معارضة من حسنين؟ الذي بغيابه يُسقِط بعضًا من مشروع التغيير الجذري، وتتأرجح خطوات الثورة في تحقيق غاياتها وأهدافها، وعلى رأسها بناء سودان ديمقراطي متعدد، تحرسه جبهة عريضة، مثلما كان يحلم الرجل الذي قضى عمره مقاومًا للشمولية.
كان حسنين يرفض مبدأ التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، تحت مبررات أن الحكم الديمقراطي لا يُطلب من العسكر
الخطوط
- قاوم حسنين شموليات السودان الثلاث، سجنه عبود وكذلك فعل نميري وغادر سجون الإنقاذ نحو المنفى
- وقف ضد التسوية ومشاركة العسكريين في السلطة وقاد البشير للمحكمة
- يرى الكثيرون في غيابه هزيمة لمشروع التغيير الجذري وبناء سودان ديمقراطي متعدد