سبعة وعشرون عامًا قضاها البشير ونظامه في حكم السودان، تغيّر فيها وجه عالمنا، وتغير السودان تبعًا لذلك. إلا أن ملاحظتي لخطاب "المعارضة الرسمية"، تجعلني أرى أنه ظلَّ تعبيرًا ضمنيًا عن مقولة شعبية اشتهرت في بعض الأوقات، تطالب نظام الإنقاذ بـ"إرجاعنا إلى المكان الذي وجدتمونا فيه وأنقذتمونا منه"، وهي عبارة سخرية وُلدت ردًا على التدهور الشامل الذي أصاب السودان عقب "إنقاذه" على يد البشير في 1989.
ما الفرق -حقًا- بين نخبة معارضة تستعيض عن التخطيط للمستقبل بمحاولة إرجاع الوضع إلى ما كان عليه قبل مجيء الإسلاميين 1989؛ وبين المهووسين الذين يريدون إرجاع العالم إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا؟
إن الخطاب المعارض في عزفه "ضمنيًا" على لحن "الإعادة" هذا، بمطالبه المباشرة التي تحملها شعارات مثل "تفكيك النظام، إعادة المفصولين،.. إلخ"، وغير المباشرة التي تُقرأ من ضبابية "برنامج المستقبل" الذي ترغب المعارضة هذه في تطبيقه؛ هذا الأمر يشي -بالنسبة إليَّ- بديماغوجية ساطعة، يحاول بها خطاب المعارضة إخفاء فشله في بناء هدف مستقبلي مقنع للجماهير، فيهرب إلى الانكفاء على ما تعرفه المعارضة والجماهير سلفًا وتألفه. لذا ظلَّ باهتًا كل خطاب يريد رسم تصور لما يجب أن تكون عليه حال السودان مستقبلًا، في مقابل الخطاب ذي السطوة؛ المعلي من شأن الوضع القديم.
اقرأ/ي أيضًا: صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم
إذن، ما الفرق -حقًا- بين نخبة معارضة تستعيض عن التخطيط للمستقبل بمحاولة إرجاع الوضع إلى ما كان عليه قبل مجيء الإسلاميين في 1989؛ وبين المهووسين الذين يريدون إرجاع العالم إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا؟ لحسن الحظ لا يوجد هنا زر "Restart" ولا "إعدادات ضبط المصنع"، لذا لا خيار منطقيًا غير السير قدمًا والتخطيط "لما بعد" وليس رفع شعار "العودة إلى ما قبل". على الخطاب المعارض -في ظني- أن يكون واضحًا في ما يريد أن يطرحه، بعيدًا عن الإيمان بأنه بعد إزالة البشير وحكمه ستترتب كل الفوضى الحادثة اليوم في السودان، وتصبح الحال مثلما كانت، بطريقة ما.
لا زلت أرى أن ما بعد 1989 هو خلاصة لما قبلها، كلها ثمار ما زُرع قديمًا، ثمار لامسؤولية النخبة الستينية وآباء الاستقلال في الأصل، ومن ثم جاء حكم "الإنقاذ" ابنًا شرعيًا لثقافة شائعة تحيا حتى اليوم، تغذت بكل ما يقود في النهاية إلى تحطُّم "الدولة" تحت أقدام أنظمة ترى البلاد وما فيها ملكًا مشاعًا لمن ملك.
إن عجزت "المعارضة الرسمية" عن الخروج من ضيق رؤاها، إلى الرؤية الشاملة التي تعي حركة التاريخ ومكان السودان فيها اليوم؛ ومن ثم بناء خطاب مسؤول وواضح، بعيدًا عن الديماغوجية والمرحلية والغش الذي يسم خطابها اليوم؛ فسيذهب البشير ولن تجد المعارضة حال خَلفته غير تركة سامّة وبلد يسبح في الخراب، يومها لن تفي المعارضة بوعودها، ولن تستطيع استغفال الناس أكثر، فهل ستتحول حينها إلى "بشير" جديد؟
اقرأ/ي أيضًا:
السودان.. دعوات إلى "انتفاضة ثالثة"
السودان.. الدولار يقفز مجددًا