كما لو أن السودان، الذي انفصل عنه جنوبه في تموز/ يوليو عام 2011، أراد أن يهدي الجنوبيين فرصة جديدة للحياة والأمل، حيث ازدانت شوارع الخرطوم الأحد بالشموع والأعلام البيضاء والوجوه التي أنهكتها الحرب، مع حالة تحفز أمنية عالية، وطغت أغاريد السلام على أصوات الرصاص لأول مرة بعد خمسة أعوام من القتال، لتنتهي بذلك الحقبة الأكثر دموية داخل الدولة الوليدة.
نصّ الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ بين فرقاء جنوب السودان على قسمة السلطة بين الأطراف المتصالحة، والتوافق على آليات للمراقبة الذاتية
كان يومًا طويلًا على شعب الجنوب، واحتشدت حدائق "قاعة الصداقة" بمختلف القبائل الجنوبية، يهتفون ضد الحرب، ويغنون بأصوات عالية في محاولة أخيرة لحث قادتهم داخل قاعات الاجتماعات المغلقة على توقيع اتفاق سلام ووضع حد لمعاناتهم.
ومن المقرر أن تواصل الخرطوم جهودها في استكمال بقية تفاصيل الاتفاق، وذلك بعد تنازل كينيا عن ذلك الدور للخرطوم، ما يعني أنه لن تكون هنالك جولات خارج السودان. وبالرغم من أن بعض الفصائل الجنوبية أبدت تحفظات قوية بشأن تقاسم السُلطة على مستوى الولاية، والتفاصيل الخاصة بالفترة الانتقالية، فإن الوساطة السودانية أفلحت في تغيير المواقف المتعنتة لتلك الفصائل، وتمكنت من إقناعها، وذلك قبل لحظات من بدء مراسم التوقيع رسميًا.
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
وحضر حفل التوقيع على الاتفاق الرئيس الأوغندي يوري موسفيني والرئيس الكيني أوهورو كينياتا، والرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر قيلي، ورئيس الوزراء الصومالي حسن علي خيري، بجانب نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ديميك ميكونن، فيما تخلف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعد أن أبدى موافقته في البداية على الحضور.
محاولة تعويض الخسائر الاقتصادية
ونصّ الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ منذ ليلة أمس الأحد على قسمة السلطة بين الأطراف المتصالحة، والتوافق على آليات للمراقبة الذاتية لوقف إطلاق النار، مع دعوة الاتحاد الأفريقي، وهيئة "إيغاد" إلى نشر القوات اللازمة للمراقبة، وفتح المعابر للأغراض الإنسانية، والإفراج عن الأسرى والمعتقلين السياسيين. كما أشار الاتفاق في بنده الثاني على اتخاذ الترتيبات الأمنية اللازمة لجعل القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن ذات طابع قومي، خالية من القبلية والنزعات العرقية، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لجمع الأسلحة من كافة المواطنين.
ومن المعلوم أن السودان خسر بانفصال الجنوب حوالي 75% من الإنتاج النفطي، وتدهورت نتيجة لذلك الأوضاع الاقتصادية عمومًا، وأصبح السودان يعاني من تزايد كبير في معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية مع نقص غير مسبوق في العملات الأجنبية، وهو الهدف الأساسي الذي جعل الدولتين تحرصان على إيقاف الحرب، بعد توقيع اتفاقية تقضي بحصول الخرطوم على رسوم مقابل مرور نفط الجنوب عبر خط أنابيب يمر بالأراضي السودانية، وصولًا إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر.
وبلغت جملة ما فقدته دولتا السودان وجنوب السودان جراء وقف تدفق النفط 20 مليار دولار، منها خمسة مليارات للخرطوم و11 لجوبا، والمتبقي هو خسائر شركات التصدير وفقاً لبنك السودان. ومن المأمول أن تؤدي هذه الاتفاقية إلى انفراج اقتصادي في البلدين. خاصة أن الاتفاق الأخير قضى في بنده الخامس على تأمين حقول النفط، في ولاية الوحدة المحاذية للحدود السودانية، على أن تعمل حكومة جنوب السودان بالتنسيق مع الحكومة السودانية لإنجاز تلك المهمة، وذلك حتى يعود الإنتاج النفطي بمستوياته السابقة.
وعلم "ألترا صوت" من مصادر سودانية، أن الاتفاق سيؤمن الاحتياجات الضرورية من الموارد البترولية والعملة الأجنبية للسودان، وسوف تواصل الحقول النفطية عملها نهاية العام، بجانب دخول حقول جديدة في الخدمة، على أن ينتج حقل "توما ساوث" 10 آلاف برميل يوميًا من الخام الخفيف، بعد الاختبارات على الخط الناقل بداية كانون الأول/ سبتمبر المقبل.
بلغت جملة ما فقدته دولتا السودان وجنوب السودان جراء وقف تدفق النفط 20 مليار دولار
وبعد اكتمال الضخ من حقل "توما ساوث" سيتم الضخ من حقل "موقا" الذي سيدخل في نهاية العام ما بين 20 إلى 50 ألف برميل، وأشارت المصادر إلى دخول حقل جديد بـ 100 ألف برميل من الخام الثقيل، كما سيتم إضافة حقل عدار وفلج "200 ألف برميل". وسيصل الإنتاج إلى "280" ألف برميل من الخام الثقيل، و"90" ألف برميل من الخام الخفيف.
وتوقعت المصادر أن يسند العائد من بترول الجنوب ميزانية الحكومة السودانية في العام 2018 بـ 700 مليون دولار، وأن يحقق فائض عائد فى العام 2019 للخرطوم قرابة الـ"3 مليار دولار".
تأييد أممي ومحلي
من جهتها أعلنت الأمم المتحدة مساندتها للاتفاق، وشدد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان، على ضرورة إيقاف تبادل إطلاق النار بين فرقاء جنوب السودان فورًا، منوهًا إلى أن عمليات الاقتتال ظلت مستمرة خلال الفترة الماضية، وطالب بضرورة السماح بتوصيل المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من الحرب. مؤكدًا أن "الناس يموتون ولابد أن تصمت البنادق فورًا".
فيما قال الرئيس سلفاكير ميارديت أن السودان وجنوب السودان لديهم مصلحة مشتركة في تحقيق الأمن، وطمأن رئيس دولة جنوب السودان خلال مخاطبته حفل التوقيع، كافة الأطراف المتنازعة في بلاده بأنه لن يُقدم على اعتقال أي منهم بعد حضورهم إلى جوبا، كما سيوفر لهم الحماية الأمنية المطلوبة. وأضاف "سلفا" أن "الحرب الداخلية التي خاضتها الأطراف المتنازعة، لم تكن ذات معنى وأنها فرضت على أهل جنوب السودان كثيرًا من المعاناة وقتلت المئات من الشباب"، ووصف الحرب بأنها جعلت من جنوب السودان "أضحوكة" أمام العالم.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "جنّة الخفافيش".. جنوب السودان بحذافيره
من جانبه قطع الرئيس السوداني عمر البشير، بأن اتفاق السلام الذي وقعه فرقاء الجنوب بالخرطوم لن يكون حبرًا على ورق، لأن التوقيع "تم في القلوب أولًا"، وتعهد بالعمل على تنفيذ الاتفاق مع الأطراف الجنوبية. وقال البشير "إننا في السودان ضحينا بوحدة السودان من أجل السلام والاستقرار في الجنوب"، وإن "لدي مسؤولية أخلاقية تجاه أي مواطن جنوب سوداني" مؤكدًا على ضرورة العمل من أجل تحسين الحالة الاقتصادية في جنوب السودان، وخاصة بعد أن وصل الاقتصاد هناك إلى مرحلة الانهيار، مبشِّرًا بأن عمليات إنتاج النفط الجنوبي ستبدأ في كانون الأول/ سبتمبر المقبل.
قطع الرئيس السوداني عمر البشير، بأن اتفاق السلام الذي وقعه فرقاء الجنوب بالخرطوم لن يكون حبرًا على ورق، لأن التوقيع "تم في القلوب أولًا"
وتجدر الإشارة إلى أن دولة جنوب السودان انفصلت عن الدولة الأم بعد استفتاء على تقرير المصير في العام 2011، لكنها ما لبثت أن دخلت في دوامة أخرى من الحرب الأهلية التي خلفت آلاف القتلى وأكثر من مليوني نازح، ونتج الصراع بسبب خلاف بين الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار، بدأ عقب قرار سلفاكير بإعفاء مشار من منصبه واتهامه بالسعي للإطاحة به والسيطرة على مقاليد الحكم، وسرعان ما استنفر مشارك قبيلته النوير وأعلن تمرده، فيما احتمى سلفاكير بالجيش الشعبي والسواد الأعظم من قبيلته الدينكا، وفشلت أكثر من محاولة للجمع بينهما في أوغندا والعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
وبالرغم أن أمريكا بالإضافة إلى إسرائيل كانتا على نحوٍ خاص أكبر الداعميين للجيش الشعبي الجنوبي في حربه ضد الشمال، وكذلك من المحرضين على انفصال جنوب السودان، إلا أنها فشلت في الحفاظ على استقرار الدولة الوليدة، والتي نشبت فيها الحرائق والدمار بشكل هائل.
اقرأ/ي أيضًا:
في مواجهة كابوس التقسيم.. كيف أسقطت هوية أبطال سودانيين بسبب الانفصال؟