يُوافق اليوم 22 آذار/مارس، الذكرى 18 لرحيل الكروان خضر بشير (1914-2002)، أو "خِدِر" كما يُناديه محبوه، وهو صنفٌ متفردٌ من المطربين، والمغنيين، والمُدّاح، ومريدي الطريقة المكاشفية. غنّى للجمال، وللروح وللنيل. وذاب وجدًا ومحبةً وهُيامًا حين صدح بـ"جلّ جلالو". كما شكّل الفنان خضر بشير واسطةً نضيدةً بين مغني الحقيبة، ومُطربي الغناء الحديث بالسودان.
بالرغم من أنه كان في رقدة الموت إلا أن خضر بشير قال وهو في كامل ابتسامته لمقدم البرنامج الذي سأله عن حاله: "أنا مرتاح نفسيًا جدًا"
سُئل محمد بشير عتيق (1909-1992)، آخر شعراء الحقيبة يومًا، فأجاب بأسلوب الشعراء: "خِدِر ده جان، حارسلو كنز"!! وبالحقِ كان خضر بشير جملة من الكُنوز الفنية والروحية، في سمتهِ، ومظهره، وإطلاقه للطُرفة، والغناء حد الفناء والذوبان والتماهي في الأغنية. سئل عن سر تعلقه الأشجار، واعتلائه أي مرتفعٍ حينما يكون يُغني، فأجاب بأنّه في غمرة نشوته بالغناء قد يفعلُ ذلك، لكنْ لا يدري كيف فعله، فقد فعله والسلام!
اقرأ/ي أيضًا: عبدالعزيز سيد أحمد.. شاعر الجمال وفيلسوفه المجهول
تاريخ هذه الأحداثُ يرجعُ لأواخر العام 1999، حيث زارته كاميرا تلفزيون مشوار المساء، لمقدّميه: الطيب عبد الماجد وهبة المهندس، وضيفُ الحلقةِ بالأستديو يومها، كان الفنان الأثير النور الجيلاني، بقبّعته المميزة، ونظارته السوداء التي لا تُفارقه، مُزدانًا بقميص الكاروهاتْ، موضة تلك الأيام.
انتقلتْ كاميرا البرنامج إلى منزل الفنان خضر بشير، في زيارةٍ للتفقُّد، نقلتْ صورته بذات الابتسامة التي لا تُفارقُ شفتيه العجيبتين، كان راقدًا على سرير المرض الذي لم يقُمْ منه، كانت هي الرقدة الأخيرة في الدنيا، وبعدها انتقل إلى الرحمةِ الإلهية الفيّاضة. كان راقدًا بجُلبابه الأبيض، وبسمته البيضاء، وأقواله البيضاء: "أنا مرتاح نفسيًا جدًا". هكذا قالها للمذيع وهو يعبثُ بالمسبحة الكبيرة السوداء على صدره.
وثم انتقلتْ الكاميرا إلى الاستديو حيث الفنان النور الجيلاني ضيفًا، كان النور وقتها غارقًا في الدمع. ومنْ على خلفية الشاشة، ظهر خضر بشير يخفقُ بجناحيه، يصفّقُ بهما ويغني من كلمات الصاغ محمود أبوبكر (1918-1971): "عسعس الليلُ فناما/ واكتسى الوادي ظلاما/ إن يكن صمتي رهيبًا/ إنّ في الصمتِ كلاما/ وأرى الوجه تجلى فوقه الشعر تدلى/ عجبتْ عيني لبدرٍ/ منك بالليل استظلّ".
اقرأ/ي أيضًا: أيبو كُردم.. مغني بلوز الصحارى السودانية
ولمّا مالت الأغنية لتغرقُ في نهايتها؛ كان خضر بشير يكسرها كسرته التي تخصه ويخصها: "علّموا الزوزو/ يا حَلاتْ زُوزُو/ زُوزُو طربانة". ويغرقُ من بعد الأستديو في طربِ "الزُوزُو"!! تُرى منْ هي هذه الـ"زُوزُو"؟
ولو قُدّر لكْ أنْ تستمعَ إلى خضر بشير وهو يؤدي قصيدة "جلّ جلالو" للشيخ عبدالباقي المكاشفي؛ لرأيتَ من أمره عجبًا، فريدًا، غريبًا، ففي سهرة "ألحانْ وذكريات"، التي قدّمها في السبعينات حسن عبدالوهاب، وجمع في السهرة بجانب خضر بشير كلا من الموسيقار إسماعيل عبدالمعين (1916-1984)، وسليمان زين العابدين، كلٌ بآلةِ عوده، وخضر بشير بينهما واقفًا يؤدي كلماتٍ غارقةٌ الى أقصاها وأدناها في صوفيةٍ "نجيضة": "سماه بنالو/ أرضو الفيها دحاها جبالو/ أنزل قطر النبت كسالو/ كالسُندس يفوق في جمالو/ بدا آدم من صلصالو/ عاش في الدنيا نشر أمثالو/ اللهُ جل جلالو/ لا لو شريك ولا لو مثالو/ اللهً.
اسم القصيدة هي "السند"، يحكي فيها الشيخ عبدالباقي المكاشفي رسالة الإسلام حتى وصولها إليه عبر الرسول صلى الله عليه وسلم بدءً، ثم إلى الأصحاب عليهم الرضوان، وصولًا لأشياخه. وعلاقة المكاشفي بخضر بشير قريبة وعميقة، للدرجة التي يُنادي فيها الشيخ عبدالباقي المكاشفي الفنان خضر بشير بـ"ولدي الخضر".
ويُفسّر عوض بابكر مرةً، تلك العلاقة بأنّ خضر بشير في فترةٍ ما ترك المديح؛ لكنه لم يترك قصيدة "جلّ جلالو"! فالسادة المكاشفية لهم أثرٌ كبير في مسيرة خضر بشير، فما انقطع عن زيارة المكاشفي، ولمّا مرض مرضه الأخير، كان المكاشفية همْ مَنْ يزورونه.
التاريخُ من المقربين منه، ومن تجربته الفنية، يقول إنّ موهبة خضر بشير في الغناء بدأتْ تتوقّدُ منذ أيام دراسته بالمدرسة الأولية، حين كان يقرأُ الشعر، وحين كان يُشاركُ في الجمعيات الأدبية، ثم منْ بعد اتجه للنّهل من أغنيات سرور وكرومة، اللذان يرد إليهما كثير الفضلِ في لفتِ نظره لأغنياتٍ باذخةٍ على رأيه، كان يُرددُ بعدهما ذات أغنياتهما في ذات المناسبة.
ونقلًا عن مقالةٍ نابهةٍ للأستاذ محمد حسن المجمّر، فقد روى له الأستاذ حمزة عبدالله، وهو من العاشقين لغناء خضر بشير، إنه كان وقتها تلميذًا بمدرسة كمبوني، يقول: رافقت الأستاذ خضر إلى مكان عرس بأم درمان غنى فيه حتى الثامنة صباحًا، بعدها طلب مني مرافقته لزيارة أحد أصدقائه بسوق الخضار لنشرب عنده الشاي والقهوة.
وأثناء جلوسنا معه – والقول لحمزة عبدالله - طلب صديق خضر منه أن يسمعه مدحه لقصيدة الشيخ المكاشفي "جل جلاله الله". ودون تردد بدأ بشير ينشد –وكعادته عندما يترنم بهذه القصيدة– يغمض عينيه ويتوه في أحول أخرى. وبدأ الناس يتجمهرون وعندها فرش ذلك الصديق قطعة من الخيش أمام الأستاذ خضر بشير وبدأت تنهمر النقود من المستمعين لإنشاده.
يواصل حمزة عبد الله في روايته أن الأستاذ خضر لم يكن يملك شروى نقير، وكل ما كان يملكه قرش ونصف القرش ثمن تذكرة المعدية. وانتهى الأستاذ خضر من إنشاده وفتح عينيه ليتفاجأ بالقناطير المقنطرة من النقود. فإربد وجهه وغضب مثل ما لم يغضب من قبل وصاح في صديقه: "أنا بمدح في أبوي الشيخ المكاشفي بالقروش؟ دي آخر مرة أنا أجيك فيها". فقد كان يمدح مغمضًا عينيه.
بقي خضر بشير مع شيخه المكاشفي أمدًا من الدهر وعاد بعد ذلك إلى الغناء في العام 1950 حاملًا لعشاقه ومستمعيه أغنية "برضي ليك المولى الموالي"، و"الأوصفوك"
حكى خضر بشير بأنّه وبعد ذلك اتجه إلى مدني في العام 1930، متصوّفًا وهجر الغناء واكتفى بمجالسة شيخه المكاشفي في قرية الشكينيبة. وبقي هناك أمدًا من الدهر وعاد بعد ذلك إلى الغناء في العام 1950 حاملًا لعشاقه ومستمعيه أغنية "برضي ليك المولى الموالي"، و"الأوصفوك"، اللتان أشتهر بهما. وغنى في المسرح القومي لأول مرة في عام 1957. ثم منْ بعد استمرتْ مسيرة طويلة من الإمتاعِ والدهشةِ واللُحون العذبةِ.
مرة غنى بشير ضمن الكُورس خلف سرور في العام 1936، وعندما انتهى من ترديد الأغنية، التفتَ الحاج محمد أحمد سرور (1901-1947)، وقال: "الولد دا لما يكبر ما بفضّل فينا واحد يِدُق رِق"! وصارت له سمعة وصيتْ في مدينة ودمدني للدرجة التي قالت فيها بنات مدني اللائي تحزّبنْ له: "كان نرقص في لعبة ما فيها خدر بشير ود شمبات، شعرنا ده إنْ شاء الله ينزعِطْ"!
وسمعه مرةً الشريف زين العابدين الهندي، وعندما سأل عن هوية المغني جاءه الجواب: دا يا أبونا الشريف الفنان "خضر بشير" فما كان منه إلا أنْ علّق بقوله: "دا ما صوت فنّان، دا صوت مؤمن موحّد".
رحم الله خضر بشير، فقد كان واحدةً من الومضات السودانية كثيرة الإشراق.
اقرأ/ي أيضًا
غوردون كونغ دوث.. الفنان ذو الموسيقى البصيرة
الفن التشكيلي بجنوب السودان.. ألوان توثق للحياة وذاكرة الحرب