منذ انفصال جنوب السودان، والكاتبة إستيلا قايتانو "تسكن" الحقائب وتمر بالمطارات عدة مرات في السنة بين وطنين لا يزالان في قلبها وطناً واحداً، تقول عن نفسها ذلك وهي المتزوجة من الشمال، وتحاول جاهدة التعبير عن محنة مئات الأسر السودانية التي وقعت ضحية لانفصال الجنوب في كانون الثاني/ يناير 2011. إذ لم تشفع لها حبال المصاهرة، وسؤال الهوية، إلى أي وطن ننتمي؟ حتى تفجرت مأساة أسرة أحد مؤسسي الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الإنجليزي البطل عبد الفضيل ألماظ، والتي تعيش حالياً في الخرطوم بلا هوية بعد إسقاط الجنسية السودانية عنها.
تعاني مئات الأسر ذات الأصول الجنوبية من إسقاط جنسية السودان عنها، بعد انفصال الجنوب في 2011 ولم تشفع لها حبال المصاهرة أو حتى ماضيها النضالي
لو قُدر للكاتبة إستيلا قايتانو أن ترد على ابنها وهو يسألها من نحن؟ لأجابته بسخريتها المعهودة "شنوبيون" أي نصفنا شمالي والآخر جنوبي، وهو نفسه المأزق الذي لم يتفطن له عادل برعي، حفيد البطل عبد الفضيل ألماظ عندما سعى لتمكين أبنائه من اجتياز امتحانات الشهادة السودانية، لكنه فوجئ بحرمانهم من الدراسة، إذ أنه لا توجد جنسية مزدوجة، وقد سقطت عنهم الجنسية السودانية عقب الانفصال، وقد أثار ذلك الخبر ردود أفعال غاضبة ومستنكرة في الشارع السوداني.
اقرأ/ي أيضًا: العنصرية في السودان.. قبائل بهويات تائهة
حفيد ألماظ كان يعمل سائقاً في إحدى المستشفيات الحكومية، وكان نتيجة إسقاط الجنسية عنه، سحب رخصة القيادة منه، ما جعله عاطلاً بلا عمل، وحصل عادل برعي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على حكم قضائي من دائرة الشؤون الإدارية بالمحكمة العليا يقضي بمنحه الجنسية السودانية، بيد أن قرار المحكمة لم ينفذ حتى اليوم. وعندما ذهب قبل أعوام إلى مركز السجل المدني لاستخراج جنسية لابنه الذي يود اجتياز امتحانات الشهادة الثانوية، أخبره الضابط المعني باستحالة المضي في إجراءات استخراج الجنسية لأن جذوره وفقاً لما قُيّد في سجلات السجل المدني تنحدر من قبيلة الدينكا الجنوبية، بحسب ما نقل عنه الموقع المحلي "سودان تربيون" الإخباري.
فوجئ الرأي العام السوداني بإسقاط الجنسية عن عائلة أحد المناضلين ضد الاستعمار الإنجليزي، عبد الفضيل ألماظ، وقد أثار ذلك ردود فعل غاضبة ومستنكرة
الأزمة تنسحب على عشرات الأسر، بل مئات على الحدود وداخل المدن جمعت بينهم المصاهرة، وأصبحوا منذ سنوات في مواجهة مستمرة مع كابوس الحدود، ومعاناة تظهر بشدة عند استخراج الأوراق الثبوتية، أو ساعة الانتقال بين الدولتين. ومن أشهر تلك الحالات أسرة القيادي الشمالي المعارض للحكومة السودانية ياسر عرمان، والذي تزوج من السيدة أوور دينق، ابنة زعيم منطقة أبيي الناظر مجوك في جنوب السودان، ولهما بنتان ومن خلال تلك الزيجة حاول ياسر عرمان تجسير المسافات ودعم قضية التعايش السلمي.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة الخبز في السودان.. مقاومة بالحيلة لمناورات السلطة
يشير محمد أحمد كودي لـ"ألترا صوت" وهو أحد التجار الذين تربطهم صلات قديمة بالجنوب، إلى حكاية القائد الجنوبي الفريق جوزيف لاقو، الذي تزوج من أقصى الشمال السوداني في سبعينات القرن المنصرم، وأيده الرئيس الراحل جعفر نميري بقرار رسمي بعد اعتراض الكنيسة وبعض العلماء المسلمين عليه في بادئ الأمر. علاوة على أن شقيقة رئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت تسمى (سامية قير) وهي متزوجة من شمالي وموجودة حالياً بمنطقة النهود غرب السودان، ومع ذلك لم تكسر تلك الحالات حدة الخلاف السياسي.
الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة السودانية بحسب الصحفي والكاتب الجنوبي أتيم سايمون تعد بمثابة "محاكمة لتجربة وتضحيات قادة الحركة الوطنية السودانية"، ويصفهم أتيم سايمون لـ"ألترا صوت" بأنهم "قدموا حياتهم فداء للسودان الكبير وكأن الحكومة تقول لهم إن تلك الأدوار التي قدمها ألماظ ورفاقه لم تكن مساهمة في الإطار القومي"، واعتبر سايمون أن حرمان أحفاد ألماظ من الجنسية السودانية يُظهر إلى حد كبير كيف ينظر قادة البلاد للتاريخ السياسي الحديث بانتقائية مفرطة "تحمل دلالات ومحمولات اجتماعية مبطنة" على حد وصفه، مذكراً أن تلك الأسر قد انصهرت في النسيج السوداني وظلت تنظر لنفسها في ذاك الإطار القومي، وأضاف أتيم سايمون "الأدوار البطولية التي قدمها أجدادهم كفيلة لأن تشفع لهم لتصبح بمثابة جواز مرور في كل بلاد السودان شمالاً وجنوباً" .
بلا شك فإن حرمان أسرة عبد الفضيل ألماظ، الذي ولد لأب من قبيلة الدينكا بجنوب السودان في العام 1895، ليس مجرد حرمان، فهو رمزية تاريخية يصعب طمسها من صورة السودان القديم الموحد، وإلا فإن نزع هوية تلك الأسرة سيرغمنا على إعادة كتابة التاريخ وهذا يعني تغيير إفادات عبد الفضيل وعلي عبد اللطيف وثابت عبد الرحيم، قادة المقاومة ضد المستعمر أمام محكمة الانجليز حينما سئلوا عن انتماءاتهم القبلية: فأجابوا أن جنسيتهم هي السودانية". وهنا يواجه أتيم سايمون سؤالًأ مهمًا، وهو كيف يمتد التخريب السياسي إلى داخل عمق العلاقات الاجتماعية التاريخية إلى هذا الحد؟
وبالقدر المؤلم نفسه ربما تعيد حادثة حرمان أحفاد البطل ألماظ من الجنسية السودانية تسليط الأضواء على حالات أخرى منسية، أرغمها تقرير مصير الجنوب على تقرير مصيرها الاجتماعي، أو ربما يخلق طبقة اجتماعية جديدة في دولتي الجنوب والشمال وفق مسمى الـ(بدون).
اقرأ/ي أيضًا: