23-سبتمبر-2022
توم هانكس

توم هانس في فيلم "المنفي"

قبل (22 ) عامًا زادت التقديمات الوظيفية لشركة "فيديكس" بنسبة (30%) عندما أطلقت أستوديوهات "فوكس" في العام 2000 فيلم "المنفيّ" (Cast Away)، ببطولة الممثل القدير توم هانكس صاحب الأعمال التي تغلب عليها "ثيمة" الرسائل الخفية واللغة الرنانة ذات المعاني العميقة. على كل حال لم يكن فيلم "المنفيّ" مغايرًا لأعمال توم، لكنه كان أكثر تنوعًا وأقوى من حيث الإسقاطات.

لم يكن فيلم "المنفيّ" مغايرًا لأعمال توم هانكس، لكنه كان أكثر تنوعًا وأقوى من حيث الإسقاطات

ناقش الفيلم حزمة متعددة من القضايا والأحاسيس بصورة عامة، بالفكرة الكلاسيكية للسينما التي تتضمن بطلًا تائهًا معزولًا عن وسطه، سواء كان في وسط البحر مثل فيلم "حياة باي" (The Life Of Pi) أو في الفيلم الذي سأتحدث عنه، إذ أدى تحطم طائرة إلى ضياع "تشاك" -الذي يمثل توم هانكس دوره- في إحدى الجزر بالمحيط الأطلسي، لكن وعلى عكس تلك الأفلام التي يظهر فيها منقذ ليحقق الخلاص للبطل الذي يعاني، لم يكن هذا هو الحال مع "تشاك" الذي لم يسعفه أحد.

الاستبدال والنسيان

تتغير العوالم في لمحة بصر، ولا ينتظر القدر موافقة مبدئية لكي يتشكل بجماله أو بقسوته، وتحت هذه الحقيقة تغيرت حياة "تشاك" الذي كان على وشك تقديم خاتم الخطوبة لحبيبته التي تدعى "كيلي" واعتاد أن يكون ناجحًا للغاية ومكرسًا حياته في مجال عمله رئيسًا لموظفي شركة "فيديكس" للتوصيل، إلا أن تحطم طائرة الشركة أدى إلى مقتل كل الركاب باستثنائه؛ ليصبح الناجي الوحيد. وكانت حصيلة هذه النجاة النفي في جزيرة حيث لفظه الموج. وبعد مرور نصف ساعة من الفيلم نجد عالمًا تحطم بقسوة، عالمه الأصلي، ونرى عالمًا عنيفًا آخر يتشكل بلطف النجاة من الموت المحدق، تعكس هذه المشاهد حنو الحياة وصلابتها في آن واحد، لكن هل فقد تشاك بالفعل كل شيء؟

https://t.me/ultrasudan

في كتابه "الإنسان وسوبرمان"، يلقي جو برنارد شو الضوء على مسألة الفقدان والحيازة، يقول الكاتب الأيرلندي: "هنالك مأساتان في الحياة، الأولى أن تفقد رغبة قلبك والثانية أن تستعيدها". يمكن فهم هذا الاقتباس على عدة مستويات، لكنني سأذهب مع الجزء الذي أرى أن "تشاك" قد شعر به، كما ذكرت تبرز شخصيته كشخصٍ يفضل العمل على كل شيء (Workaholic) لذلك فإنه اعتاد التغيب عن حبيبته كيلي لمعظم الوقت بسبب ارتباطات عمله، ما يعني أنه كان يفقدها تقريبًا في كل مرة يسافر فيها. وبعد تحطم الطائرة فقدها مرة أخرى، حتى الآن فقدها مرتين وعندما يرجع من الجزيرة بعد أربع سنوات طوال، يجدها قد تزوجت وأنجبت فتاةً صغيرة، ما يعني أنه اكتسبها بنجاته من ذلك المنفى ثم فقدها بعد أن علم أنها تجاوزت فكرة غيابه. كانت هذه لحظة قوية في الفيلم، وصفت فكرة الاستبدال والنسيان بصورة قاسية لـ"تشاك" الذي ابتلع هذا الواقع المرير بقوة، لكن هل يلومها أحد؟ أعني كان لا بد لها من أن تدعه خلفها.

الصناديق

لم يلفظ الموج "تشاك" فحسب، لكنه كذلك أرسل بعضًا من الطرود التي كان يتوجب على الشركة توصيلها، وصلت هذه الصناديق لتستقر في شط الجزيرة رفقة المنفيّ الوحيد. أمضى بعدها البطل وقتًا طويلًا محاولًا أن يجد بعض أساسيات البقاء مثل المياه والطعام، لكنه كان -من وقت إلى آخر- يجمع تلك الطرود وينظر إليها من دون أن يحاول حتى أن يفتحها. وبحلول الوقت الذي أصبح يحاول فيه الهروب من هذا السجن القسري، بدأ يفتح تلك الصناديق رويدًا رويدًا، وجد فستانًا جميلًا لن يلمس جلد أنثى مطلقًا، ووجد أحذية تزلج جليدية نصيبها رمال الشاطئ فقط، وجد أيضًا كرة طائرة رماها بعيدًا، ثم شرع في المسح على تلك الصناديق برفق متحسسًا كلمة "فيديكس"، الشركة التي قد يقتل نفسه من أجل أن يوصل طرودها في الوقت المطلوب، ربما شعر في تلك اللحظة بالعوالم المتداخلة للناس والأشياء والزمن، لكنه بالتأكيد لم يستسلم لحتمية الموت وللمياه المالحة قائلًا: "أعلم ما يتوجب علي فعله، سأستمر في التنفس؛ لأن الشمس ستشرق عند الصباح، ومن يدري ما قد يجرفه الموج إلى الشاطئ".

بعدها استخدم "تشاك" هذه المعدات التي وجدها في الطرود لكي ينجو ولصنع مركب صغير تمكن بسببه من مغادرة الجزيرة ومصارعة الأمواج ليستقر في منتصف المحيط؛ حيث تجده سفينة شحن وتنقذه، لكن هل تعرفون ماذا استخدم تشاك لينجو؟ جرف الموج بابًا بلاستيكيًا، فحوّله إلى شراع لينتصر به على الموج ويعبر بواسطته، هذا ما جلبه الموج، وهذا ما جعله يؤمن على مدار الأربع سنوات في الجزيرة أنه سيخرج منها إلى العالم الحقيقي، العالم الذي جُبل عليه.

"قد ننجو، هل خطرت ببالك هذه الفكرة؟ حسنًا، بغض النظر عن كل شيء، أنا أحب أن أجرب فرصي في المحيط، هذا أفضل من الجلوس والموت في هذه الحفرة القذرة جالسًا أتحدث إلى كرة طائرة لعينة". هكذا كانت كلمات "تشاك" بعد سنوات على الجزيرة إلى صديقه ويلسون، وهذا الأخير بالمناسبة هو كُرة وجدها في أحد تلك الطرود. تشير شخصية ويلسون وإلحاح "تشاك" إلى ضرورة مفهوم الرفقة بالنسبة للإنسان حتى إن لم يرافق إنسانًا آخر. اعتاد "تشاك" بين الحين والآخر أن يجرح إصبعه ليرسم ملامح صديقه ويلسون بدمائه وهي رسالة ضمنية أخرى تعزز فكرة أن الإنسان على استعداد ليضحي بدمه في سبيل الرفقة والعلاقات بصورة عامة.

برز هذا الفيلم متمردًا على فكرة الاستسلام للواقع ومشجعًا لمفهوم السيطرة على دفة القيادة مهما كان الطريق وعرًا

في المجمل، برز هذا الفيلم متمردًا على فكرة الاستسلام للواقع ومشجعًا لمفهوم السيطرة على دفة القيادة مهما كان الطريق وعرًا. هناك شيء أخير، تلك الصناديق لم يفتحها "تشاك" كلها، هناك صندوق ظل محكمًا طوال الوقت، ربما لأنه يعلم أنه سينجو في وقتٍ ما وربما لأنه يعلم أن سيعود يومًا ما ويتمكن من تسليم هذا الطرد؛ لذلك لا تفتح كل الصناديق، تشبث بضوء الأمل الخجول.