أخيرًا وصل "علي كوشيب" الملاحق من العدالة الدولية لما يزيد عن اثني عشر عامًا لردهات المحكمة الجنائية الدولية، حاملًا أسرار الجرائم الكبرى التي لاحقت نظام الإنقاذ سنين عددا، وحاصرت قادته بعد سيل الإدانات الدولية والمطاردات والملاحقات بين العواصم، والتي نجا من فخاخها المتهم الأول الرئيس المخلوع عمر البشير لأكثر من مرة ما بين أجواء "بيلاروسيا" وملاحقات "جوهانسبيرج" حينما تم تهريبه من قاعدة عسكرية، لائذًا بالفرار استباقًا لقرار قضائي أوشك أن يسلمه لأيدي العدالة الدولية.
خلع كوشيب بزته العسكرية ومثُل متأنقًا أمام قضاة المحكمة التي تتردد روايات متضاربة حول الكيفية التي انتهى به إليها، حيث تشير رواية إلى أنه قد تم ضبطه، بينما تقول أخرى انه قام بتسليم نفسه طوعًا، وكان من المضحكات المبكيات أنه طالب بالوقوف لدقيقة حدادًا على أرواح ضحايا دارفور، الطلب الذي تم رفضه من قبل المحكمة.
بدأت قضية دارفور في الجنائية في 2005 وكانت الحكومة قد سمحت للمدعي العام بمقابلة عسكريين وأمنيين من ضمنهم صلاح قوش
وبدأت تفاصيل قضية كوشيب في آذار/مارس 2005، بعد تصاعد الحرب في دارفور وتضرر الآلاف منها جراء إطلاق يد المليشيات الحكومية التي ارتكبت مجازر وحشية مثلت صدمة للعالم، مما دفع القضية لأضابير الأمم المتحدة والتي أصدرت القرار (1593\2005) حول دارفور، وبموجبه أحال مجلس الأمن للمحكمة الجنائية الدولية تحت سلطة المدعي العام لويس مورينو أوكامبو، الذي شرع في تحقيقاتٍ تعاملت معها الحكومة السودانية التي سمحت له بمقابلة عدد من قادتها العسكريين والأمنيين، كان من بينهم مدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح عبد الله قوش، قبل أن تعود وتتهمه بالتزييف والتلاعب وتلفيق الاتهامات.
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان: تنامي جرائم الاغتصاب في أطراف العاصمة جوبا وصمت حكومي
وفي شباط/فبراير من العام 2007، طالبت المحكمة النظام السوداني بتسليم اثنين من القادة العسكريين للنظام، وهما وزير الداخلية الأسبق أحمد هارون -قيد التوقيف حاليًا بعد سقوط النظام- وعلي كوشيب أحد أكبر قادة مليشيا "الجنجويد"، لتورطهما حسب المحكمة، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بدارفور، الأمر الذي قوبل بالرفض من النظام، مما دفع المحكمة لإصدار أمر توقيف بحقهما في نيسان/أبريل من ذات العام.
وقد وثق مكتب المدعي العام بالمحكمة مورينو أوكامبو وفريق عمله لعشرات الجرائم البشعة، واستنطق الشهود وجمع عشرات الأدلة في مواجهة المتهمين، ونتيجة لتعنت الحكومة السودانية واستفزازات رئيسها المخلوع، قامت المحكمة بإصدار أوامر قبض شملت البشير نفسه وعدد من قادة نظامه من العسكريين، من بينهم وزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين، وأمسكت عن إعلان القائمة الكاملة للمتهمين.
ويعد مثول المتهم علي كوشيب انتصارًا كبيرًا للعدالة الدولية، وهو تأكيد على أن الجرائم لا تسقط بالتقادم، وهو انتصارٌ لمئات الآلاف من ضحايا الحرب في دارفور وشهدائها، ومن الناجين الذين شهدوا جرائمًا اتسمت بالوحشية والبشاعة من قتل وحرق واغتصاب وتعذيب، وللذين فروا بحياتهم من ديارهم نحو معسكرات اللجوء والنزوح، وهو تأكيد على أن لا إفلات من العقاب مهما تطاولت السنوات.
ويعتبر مثول كوشيب أمام المحكمة بداية لفض مغاليق أسرار تلك الحقبة الدموية، حيث يمثل المتهم واحدًا من ممتلكي المعلومات حول القيادة الهرمية التي أدارت الحرب بدارفور، كما يمتلك معلومات حول كل ما كان يجري من تخطيط وتنفيذ للعمليات العسكرية، والمتورطين بها من قادة الصف الأول للنظام، بالإضافة للقادة الميدانيين، والذين يرجح أن من بينهم قادة من ضمن من يتولون السلطة حاليًا بالخرطوم، مثل رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو، اللذان خدما خلال تلك السنوات بدارفور.
اقرأ/ي أيضًا: تقرير أوروبي: الإمارات والسعودية يجهزان حميدتي للحكم وأوروبا خذلت المدنيين
وفيما يلي واحدٌ من أهم خطابات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، والذي قدمه أمام مجلس الأمن في حزيران/يونيو 2012، وتضمن إفاداتٍ حول المطلوبين من قادة نظام الخرطوم، ومواقف المجتمع الدولي حيال القضية؛
"أمام هذا المجلس في العام 2008، يجري اختبار وعد "لن يتكرر هذا أبدًا" في السودان. اتخذ المجلس من خلال القرار (1593\2005) مبادرة إحالة الحالة المتعلقة بالفظائع المستمرة لمحكمة دائمة، وكان قرارًا واعيًا ألا ينتظر التحقيق القضائي في الوقائع وتحديد المسؤولين في النزاع. في الواقع، شكلت قدرة المحكمة على التنفيذ الفوري لولايتها عاملًا حاسمًا أشار إليه أعضاء المجلس عند اتخاذ هذا القرار.
خلص قضاة المحكمة الجنائية إلى أن قوات حكومة السودان قد ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، اتباعًا لإستراتيجية معتمدة على أعلى مستوى في جهاز الدولة
كان إجراء التحقيقات في دارفور تحديًا كبيرًا بالنسبة للمحكمة، حيث كانت ثمة ادعاءات خطيرة بشأن ارتكاب أطراف مختلفة لجرائم في إقليمٍ واسع، وقد أجرى مكتب المدعي العام تحقيقاتٍ نزيهة، وتلقى وثائق جمعتها لجنة تحقيق الأمم المتحدة، إلى جانب تقارير من حكومة السودان نفسها أيضًا، التي سمحت لنا حتى باستجواب لواء بصفته مشتبهًا به، في الخرطوم. وقد اضطر مكتبي، بغية التقيد بمهمته المتمثلة في حماية الشهود، للتحقيق في الجرائم بدون زيارة مسرح الجريمة. حيث سافر أعضاء مكتب المدعي العام حول العالم وجمعوا مئات الشهادات للضحايا والشهود العيان الذين هربوا من السودان، وأغلب أدلتنا سرية من أجل حماية أرواح الشهود وأقاربهم.
طعن السودان خلال الإحاطة الإعلامية السابقة في قيمة الأدلة. والمكتب على أهبة الاستعداد لمناقشة المسألة في قاعة المحكمة في لاهاي، أو أمام القضاة، حيث أن ذلك هو المكان الذي نناقش فيه الأدلة. ناقش (10) قضاة وهم أعضاءٌ في الدائرة التمهيدية ودائرة الاستئناف، قيمة الأدلة التي جمعها مكتب المدعي العام. وخلص القضاة إلى أن قوات حكومة السودان قد ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، اتباعًا لإستراتيجية معتمدة على أعلى مستوى في جهاز الدولة. وحددت الدائرة التمهيدية الأشخاص الذين ينبغي تقديمهم للعدالة، وأصدرت مذكرات بإلقاء القبض على زعيم ميليشيا الجنجويد، علي كوشيب، الذي كان رئيسه المباشر هو وزير الدولة للداخلية آنذاك أحمد هارون، الذي كان مسؤولًا بدوره أمام وزير الداخلية آنذاك، عبد الرحيم محمد حسين، الذي كان رئيسه المباشر في النهاية هو الرئيس عمر البشير.
وأود التوضيح بأن مسؤولية هؤلاء الأشخاص، ليست مجرد نتيجة لأدوارهم الرسمية، في جميع القضايا؛ جمع المكتب معلوماتٍ وثمة شهود وصفوا بالتفصيل مشاركتهم النشطة في استراتيجية ارتكاب الجرائم، وفي تجميع القوات والتمويل وفي القيام فعليًا بالهجمات، والإشراف على العمليات وحماية المهاجمين.
وتتضمن التهم الموجهة للرئيس البشير جريمة الإبادة الجماعية. وخلصت الدائرة التمهيدية إلى أن عمر البشير تصرف بنية محددة للقضاء جزئيًا على المجموعات العرقية للفور والزغاوة والمساليت. واعتبرت الدائرة التمهيدية في جميع تلك القضايا بأن إلقاء القبض ضروري بغية وقف ارتكاب الجرائم. وقد أوفت المحكمة بولايتها القضائية. حيث كشفت الأدلة عمل جهاز الدولة المستخدم لارتكاب الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ووجه الاتهام لأولئك الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية، ويتمثل التحدي الحالي في إلقاء القبض عليهم. وطبقًا للقرار (1593\2005) فإن الحكومة السودانية ملزمة قانونًا بتنفيذ أوامر إلقاء القبض، غير أن الرئيس البشير يستغل موقعه في السلطة لمواصلة استراتيجيته وضمان إفلاته شخصيًا من العقاب وإفلات من ينفذون تعليماته. ولا تتوفر معلوماتٌ تدعو إلى الاعتقاد بأن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية قد توقفت. يفيد التقرير بوضوح بأن استراتيجية الرئيس البشير تنطوي، أولاً، على تهديد المجتمع الدولي بارتكاب جرائم جديدة في مناطق أخرى في السودان. ويتضمن العنصر الثاني إنكار تلك الجرائم نفسها، وإنكار حوادث الاغتصاب في القرى والمخيمات، وعزو التقتيل إلى العصابات والاشتباكات المتفرقة بين الجماعات المتمردة، أو التقليل من أهميتها من خلال المقارنات الإحصائية، وتبرير الظروف في المخيمات بعوامل مختلفة، مثل الجفاف، وعدم توفر البذور الصحيحة، وعدم القدرة على الوصول إلى الأراضي الزراعية. العامل الثالث الذي أود أن أذكره في إستراتيجية الرئيس البشير هو إجبار المجتمع الدولي على مفاوضات لا نهاية لها من أجل الوصول إلى الضحايا المشردين.
اقرأ/ي أيضًا: أشباح الماضي ترتدي أقنعة الحاضر
العامل الرابع هو الوعد الدائم بإجراء مفاوضات للسلام. يجري المجتمع الدولي وراء وعودٍ بإبرام اتفاقات سلام يتم تجاهلها بصورة منهجية، في حين ترتكب قوات البشير المزيد من الهجمات وتخلق ظروفًا لإطلاق وعود جديدة باتفاقات السلام.
خامساً، الإعلان عن مبادرات العدالة لا يعقبه شيء غير إطلاق المزيد من الإعلانات، ولا يعقبه فعل. بعد مضي أكثر من سبع سنوات على إنشاء الآليات القضائية، لم ِتجر حكومة السودان أي محاكمات لها علاقة بالجرائم المرتكبة في دارفور. وينطوي العنصر السادس على تحدٍ سافرٍ لسلطة مجلس الأمن، بما في ذلك عبر البيانات العامة بأن قرارات مجلس الأمن لن تنفذ. يدرك المجلس هذه الحالة جيدًا. مؤخرًا، في 17 شباط/فبراير، اتخذ القرار (2035\ 2012)، الذي يطالب بإنهاء العمل العسكري، بما في ذلك القصف الجوي، ووضع حدٍ للعنف الجنسي والهجمات العشوائية على المدنيين. كما أعرب القرار عن القلق من العقبات التي توضع عمدًا أمام عمل فريق الخبراء وعمل بعثة الأمم المتحدة في دارفور، ودعا القرار أيضًا حكومة السودان إلى بذل جهودٍ فعالةٍ لكفالة المساءلة عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي ولكفالة وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
كما أعرب المجلس، قبل بضعة شهور، عن أسفه لاستمرار أفرادٍ ينتمون للحكومة ولجماعاتٍ مسلحةٍ في دارفور في ارتكاب أعمال عنفٍ ضد المدنيين، وإعاقة عملية السلام، وتجاهل مطالب مجلس الأمن، لذا فإن هذه الحالة واضحة.
من شأن تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة أن يحدث تغييرًا كبيرًا في دارفور، والأمر المثير أنه من الصعب، في القضايا الجنائية الاعتيادية، معرفة مكان المطلوبين الفارين، لكن ذلك أمرٌ ميسورٌ في هذه القضية، فأماكن وجود الأشخاص الأربعة المطلوبين في قضايا دارفور معروفة، علي كوشيب لا يزال في دارفور، ويمكن العثور على أحمد هارون في مسكن الحاكم في جنوب كردفان، وعبد الرحيم محمد حسين جالسٌ في مكتبه بوزارة الدفاع في الخرطوم، ويمكن العثور على البشير في القصر الرئاسي في الخرطوم.
اقرأ/ي أيضًا: خفايا وأسرار "حميدتي" مكانها النيابة العامة
تتمثل الخطوة التالية في قضايا دارفور هذه في إلقاء القبض على المتهمين. إن عدم إلقاء القبض على السيد هارون والسيد كوشيب والسيد حسين والرئيس البشير وتسليمهم يمثل تحديًا مباشرًا لسلطة المجلس. والمجلس هو الذي يحدد التدابير المطلوبة لكفالة امتثال حكومة السودان لقرارات مجلس الأمن. والواقع أن على أعضاء مجلس الأمن أن يوفقوا بين مصالحهم الوطنية ومسؤولياتهم عن السلام والأمن، ولقد كنت شاهدًا حين فعل الأعضاء ذلك، وشاهدت أثر مجلس الأمن وهو يتصرف في إطارٍ توافقي. ويود مكتبي أن يسهم بتقديمه خيارًا يمكن أن ينظر فيه المجلس في الوقت المناسب.
تنفيذ مذكرات الاعتقال على الأراضي السودانية ترسل رسالة إلى الضحايا، فحواها أنهم ليسوا في طي النسيان
إن تنفيذ مذكرات الاعتقال على الأراضي السودانية من المسؤوليات الأولية لحكومة السودان. ينبغي ألا يؤذن لبعثة الأمم المتحدة المختلطة في دارفور بأن تنفذ الاعتقالات أو تساعد في كفالة القيام بهذا.
بدلًا من ذلك، يمكن للمجلس في الوقت المناسب أن يطلب من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية أن تنفذ عمليات الاعتقال تعزيزًا لمذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، وأفهم أن قراراتٍ كهذه سوف تكون إشكالية، بيد أنها سوف ترسل رسالة إلى الضحايا، فحواها أنهم ليسوا في طي النسيان، وسوف تصل رسالة مختلفة وواضحة إلى مرتكبي الجرائم، مفادها أنه لا إفلات من العقاب".
اقرأ/ي أيضًا
تصاعد مقلق للعنف ضد النساء في دارفور وبرنامج أوروبي أممي لمكافحته