لسنواتٍ، ظلّ وبلا يأس، يُردد المغني والباحث عثمان عجبين، جملةً واحدةً: "لَمْ نُغنِ بعد". لخّص في هذه الجملة أنّ ذوقنا السوداني في الغناء تمّ قولبته وبتخطيطٍ عبر الإذاعة السودانية. وأنّ الغالب الأعم من المغنين السودانيين لا يعرفون كيفية إدارة أصواتهم، بالدرجة التي أطلق فيها على أدائهم للأغنيات بالترتيل.
وبالطبع، فقد جمعتْ عليه هذه الجملة "لَمْ نُغنِ بعد"، غُبنًا، وهجومًا كاسحًا، وشتائم في أحيان كثيرة. فلماذا يفترضُ عثمان عجبين أنّنا لم نُغَنِ بعد؟
عجبين: أغنيتنا مسجونةٌ في الكلمات، ومتبلدة المشاعر، تعتمدُ على الشعور الأوّلي الذي توفره الكلمة
ابتداءً، ينفي عثمان عجبين ما ظل يتردد منذ فترةٍ بعيدة؛ على مستويات المشتغلين في مجال الفنون، أو النقّاد، كون أنّ مشكلة الأغنية السودانية الأساسية في سُلمها الموسيقي الخماسي. فيُجيب أنّ مشكلة الأغنية السودانية في أنّها: "أغنية شعبية. وخَامْ في بِنيتها اللحنية، وليس فيها طابع الفردانية". ويُضيف: "أغنيتنا مسجونةٌ في الكلمات، ومتبلدة المشاعر، تعتمدُ على الشعور الأوّلي الذي توفره الكلمة".
اقرأ/ي أيضًا: واجب دعم ورعاية المبدعين.. من قال ذلك؟
ولهذا –برأي عجبين- أنّ الأغنية السودانية ظلّت مسجونةً ومحصورةً في سودانيتها. وهو ذات الأمر الذي تُعاني منه الأغنية في الإقليم العربي، المصرية على سبيل المثال، كونها ما تزالُ محصورةً في بلدها، أو إقليمها العربي، على أفضل الأحوال.
الأمر الآخر، أن غالب أصوات المغنين السودانيين، بحسبما يرى عثمان عجبين، يخرجُ من تجاويف صدرهم. وبرأيه فإنّ الصوت لكي يكون صادقًا، يجبُ أنْ يكون مُحمّلًا بكل مشاعر الأغنية؛ لا أن يكون منشغلًا بمجاراة الموسيقى، ومتابعتها هبوطًا وصعودًا. بحيث يُعبّرُ المغنّي بالبكاء في حالة البكاء. وبالحزن في مكانه. وكذا الخوف والكآبة وإحساس الفقد، لا أن يكون صوته في كل الأحوال المشاعريّة هُوَ هُوَ.
آراء عثمان عجبين، في غالبيتها قاسية على أكثر المتذوقين للغناء السوداني، بل على المشتغلين فيه أيضًا. ولذلك ما أن تهدأ معركةٌ مع أحدهم، إلا وتثور بذات كثافتها مع آخرين، خاصةً عندما يصف أداء المغنين السودانيين بأنه ترتيلٌ، وليس غناءً. وفي شرحه للترتيل يثول عجبين: "هو مخافة أنْ تقول الكلمات كما هي".
والمتابع لآراء عثمان عجبين التي ينثر غالبها على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أو الندوات التي يشارك فيها، يرى الردود الانفعالية، والهجوم الكاسح المستهجن لآرائه. بل، وفي أحايين ليست قليلة، تُقابَل هذه الآراء بالشتائم، والإساءات، والتقليل منها. وربما بفشله في تجربة الغناء، وبسبب ذلك، صار ناقمًا على المغنيين.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا على طاولة الأدب
يشرح عثمان عجبين، التغيير الذي يحدث في الأصوات، أن مكان خروج أو إخراج هذا الصوت يتغير. فمثلًا، الصوت الذي يخرج من تجويف الصدر، يختلف عن الذي يخرج من تجويف الرأس، وكذلك المنطقة الوسطى بينهم. ويُفصّل: الأصوات الحادة تصدرُ من تجويف الجمجمة، أو الرأس. أما الغليظة، فهي من تجويف الصدر، والاهتزاز الذي يحدث في الحبال الصوتية يتم ترجمته في أحد التجويفين الأول والثاني.
عجبين: الأطفال يعرفون كيف يُغنون بشكلٍ طبيعي وأريحي. لأنّهم أمينين في نقل مشاعرهم للآخرين.
يضرب عثمان عجبين المثل بالأطفال، ففي رأيه أن الأطفال يعرفون كيف يُغنون بشكلٍ طبيعي وأريحي. لأنّهم أمينين في نقل مشاعرهم للآخرين. وعليه، ما لم يغني أي مغني سوداني بذات أريحية وطبيعية الأطفال، فإنّ العبارة: "لم نُغنِ بعد"، تظل قائمة.
يشرح عثمان بأنّ الصوت البشري الطبيعي، خلقه الله لكي يستجيب لكل مشاعرك دون تردد. فعندما تحزن؛ يأخذ لون الحزن. وعندما تفرح أيضًا، يأخذ لون الفرح. وينطلق عجبين في ذلك، بالإشارة العادية إلى أنّ أصوات السودانيين تتغيّر عندما يفرحون، وتفعل ذلك عندما يحزنون أو يغضبون. لكن عندما يُغني المغني منهم؛ لا يتغير بل يظل ذات الصوت الذي يُغني به في كل مرةٍ وفي كل أغنية. وبالتالي ينتفي الشعور بالصدق.
لإثبات وجهة نظره، التي تتلخصُ في كون السودانيين لم يُغنوا بعد، يطرقُ عثمان عجبين، بشكلٍ لا يخلو من عنفٍ على العديد من المغنيين السودانيين، الذي عليهم ما يشبه الإجماع الذوقي السوداني، مثل: مصطفى سيد أحمد، محمد وردي، محمد الأمين، سيد خليفة وغيرهم.
مثلًا، فيما يخص المغني مصطفى سيد أحمد، يأخذ عليه أنّ غالب أغنياته ممتلئة بالترميز، الذي لا يُمكن إدراك الحالة الشعورية فيها. فالغناء في رأيه ليس في الكلمات، ولا في اللحن، ولكن في سماع الصوت البشري الذي يتلوّن بالمشاعر الصادقة التي تحويها الكلمات المُغنّاة.
ويصل طَرْقُه الذي لا يخلو من عنفٍ مكتبة الإذاعة السودانية، التي ساهمتْ –برأيه- في تخريب ذوق السودانيين، وعملتْ على تنميطهم في نوعٍ واحدٍ من الأضراب والأنواع الغنائية. وعلى ذلك، فعثمان عجبين في شأن الغناء السوداني، يدعو بشكلٍ مباشر، إلى تُحرّره من ديوان الشعر، إلى فضاء الغنائية.
اقرأ/ي أيضًا: الفنون في زمن كورونا
يُعرّف عثمان عجبين الذوق بأنّه يمكن صناعته مثل صناعة أي رأي عام، في أية قضية. وهو أيضًا خبرةٌ تراكميةٌ يومية، وبالتالي ليس موهبةً ربانية. وعليه فإنّ الذوق خبرةٌ سماعية. أما غالب ذوق السودانيين، فقد ساهمتْ في قولبته الإذاعة السودانية، التي تبث يوميًا عشرات الأغنيات، منذ تأسيسها في الأربعينيات.
عجبين: أحمد أمين ومعتز صباحي المغنيان الوحيدان اللذان يؤديان بطريقة صحيحة
ما يُشبه القسوة في الرأي، التي يُبديها عثمان عجبين مع المغنيين السودانيين في طريقتهم التي يراها غير صحيحة في الأداء، يستثني منهم بعض النماذج، ومن هؤلاء المستثنيين: الفنان أحمد أمين، والفنان معتز صُباحي، والسبب في ذلك أنّهما –برأيه- يعرفان متى يصدران صوتيهما من الرأس أو الصدر. ويعرفان –برأيه أيضًا- أنّ الصوت البشري واسع الخانات، ويعرفان كيف يُعبّران بصوتيهما، ولا يُرتلان كما يفعل بقية المغنين السودانيين منذ الحقيبة وما بعدها، وإلى الآن.
بالقسوة في إبداء الرأي، والحرص على طرقه بشكلٍ شبه يومي، يُواصل عثمان عجبين، افتراضه أنّنا لم نُغنِ بعد، فهل صحيح أنّنا لم نُغنِ بعد؟
اقرأ/ي أيضًا
بعد التعبير عن اشتياقه.. بي إن سبورت تبحث أحد متابعيها في السودان
سكاكر البنات السرية.. دواء غانيات بنغلاديش الذي قد يعالج كورونا