"حرية سلام وعدالة" الشعار الأبرز لثورة ديسمبر المجيدة، إذ ما يزال يتصدر هتافات المواكب منذ اندلاع الثورة في كانون الأول/ ديسمبر 2018 حتى بعد الإطاحة بنظام الحركة الإسلامية (الإنقاذ) وعقب انقلاب البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
نائبة رئيس هيئة محامي دارفور لـ"الترا سوان": ولاء القضاة للمتهمين وليس للنصوص القانونية
كانت "العدالة" وما تزال مطلبًا شعبيًا أساسيًا ومهمًا لضمان محاسبة كل من تورط في جرائم أو في أذية الشعب السوداني بأي صورة من الصور، وإنهاء عقود من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة من تعذيب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية واعتقالات تعسفية وغيرها، ووضع حدٍ لظاهرة الإفلات من العقاب.
كانت البداية بفتح بلاغات واتخاذ إجراءات جنائية في مواجهة رموز النظام السابق. وحسِب بعض أُسر الضحايا أنها يمكن أن تؤدي إلى عدالة انتقالية وقصاص عادل يأمل به الشعب السوداني، خاصةً مع بث المحاكمات عبر التلفزيون ونقلها مباشرةً ليرى الشعب حكامه السابقين خلف القضبان، لكن مع تطور الأحداث السياسية عقب انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، صار تحقيق العدالة عند كثيرٍ من السودانيين أمرًا بعيد المنال خاصةً مع بقاء المجلس العسكري في سدة الحكم.
وأفاد القانوني بابكر عبدالرازق في حديث لـ"الترا سودان" أن معظم المحاكمات التي تجري لأفراد النظام السابق "ليست لها علاقة بالعدالة الانتقالية"، موضحًا أن القضايا التي في طاولة القضاء بين المالية والفساد، فيما تتعلق قضية انقلاب الـ30 من يونيو التي يُحاكم فيها أبرز قادة الإنقاذ بـ"تقويض النظام الدستوري وإثارة الحرب ضد الدولة"، موضحًا أن المادة القانونية المقدمة ضد المتهمين بانقلاب 30 يونيو "ليست لها سند".
وأوضح أن القاضي في قضية منفذي انقلاب 28 رمضان في عام 1990 ضد الرئيس البشير لا يُحاسب على قراره القضائي، مضيفًا: "لأنه يحتمي بالحصانة فلا يمكن تقديم قاضٍ إلى محاكمة".
وفي السياق نفسه، قالت نفيسة حجر نائبة رئيس هيئة محامي دارفور لـ"الترا سوان" إن المنظومة العدلية "لم يحدث فيها تغيير" منذ ثورة ديسمبر المجيدة حتى انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مشيرةً إلى عمل عناصر النظام البائد في الأجهزة العدلية، ولافتةً إلى أنها "تدار بأشخاص معينين بواسطة النظام السابق".
وأشارت حجر إلى تأثير الانقلاب في "عملية العدالة الانتقالية التي يطمح إليها الشعب السوداني"، قائلةً إن ما يحدث في ساحة القضاء هو "محاكمة أفراد من النظام السابق بواسطة أشخاص تم تعيينهم من قبل المتهمين"، مبينةً أن "ولاء القضاة للمتهمين وليس للنصوص القانونية" – على حد زعمها.
والدة الشهيد مطر: تقديم صغار الضباط "كأكباش فداء" في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان تمثيلية لا تنطلي علينا
وبدأت في 21 يوليو/ تموز 2020 أولى جلسات محاكمة الرئيس المعزول عمر البشير مع آخرين، باتهامات ينفونها بينها تدبير انقلاب وتقويض النظام الدستوري.
وتقدم محامون سودانيون في أيار/ مايو 2019، بعريضة قانونية إلى النائب العام في الخرطوم، ضد البشير ومساعديه، بنفس التهمة. وفي الشهر نفسه، فتحت النيابة تحقيقًا في البلاغ.
وإلى جانب البشير، فإن من بين المتهمين قيادات بحزب المؤتمر الشعبي (الذي أسسه الراحل حسن الترابي) منهم علي الحاج وإبراهيم السنوسي وعمر عبدالمعروف، بالإضافة إلى قيادات النظام السابق علي عثمان ونافع علي نافع وعوض الجاز وأحمد محمد علي "الفششوية".
وفي 30 حزيران/ يونيو 1989، نفذت الحركة الإسلامية انقلابًا عسكريًا على حكومة رئيس الوزراء الصادق المهدي، وتولى عمر البشير منصب رئيس مجلس قيادة ما عُرف بـ"ثورة الإنقاذ الوطني"، وخلال العام نفسه أصبح رئيسًا للبلاد.
وفي إجابة عن سؤال هل يمكن أن تؤدي البلاغات والمحاكم التي تواجه بعض عناصر النظام السابق إلى عدالة انتقالية أم أنها محاكمات صورية، تقول والدة الشهيد محمد مطر أميرة بابكر إن ما يجري بعيد عن العدالة الانتقالية وأقرب إلى "تخدير الناس" بإظهار أفراد النظام السابق خلف القضبان.
وأضافت والدة الشهيد مطر في تصريح لـ"الترا سودان": "العدالة الانتقالية هي اعتراف بالجرائم التي ارتكبت في حق الضحايا واعتذار عنها إلى جانب الإرادة في تحقيق العدالة"، مبينةً أن ما يدور في المحاكم من تقديم صغار الضباط "كأكباش فداء" في قضايا تم انتهاك حقوق الإنسان فيها "تمثيلية لا تنطلي علينا ولن تأخذنا إلى مربع العدالة الانتقالية ولن ترضي الضحايا" – على حد تعبيرها.
ويقول القانوني محمد الحسن الأمين عضو هيئة الدفاع عن بعض رموز النظام السابق لـ"الترا سودان" إن الاتهامات التي تواجه عناصر النظام السابق هي "بلاغات كيدية من قوى الحرية والتغيير وليست تطبيقًا للقانون"، قائلًا إنها "ملفقة" وأن ما يحدث "لا يمثل عدالةً"، ومضيفًا: "إذا تم توجيهها إلى القضاء الصحيح فستكون بلا نتيجة".
ومن جهته، قال والد الشهيد عبدالسلام كشة لـ"الترا سودان" إن الوثيقة الدستورية أتاحت للمكون العسكري تعيين رئيس القضاء والنائب العام، لافتًا إلى أنهما "أهم ضلعين في مثلث العدالة". أما الأجهزة الشرطية فقد "تربت في العهد البائد" - طبقًا لكشة.
وأضاف كشه أن الحكومة "لم تعبر عن لسان حال الثورة في عهد حمدوك الأول والثاني"، مبينًا أنه لا يتطلع إلى قصاص للشهيد من البرهان وزمرته ما لم تأتِ ما أسماها "قوى التغيير الجذري" بثورة الموجة الثالثة وتعيد الأمور إلى نصابها – على حد قوله.
أما الخبير الدستوري نبيل أديب فيقول: إن العدالة الانتقالية تتطلب موافقة الطرفين واعتراف المتهم بالفعل مع الاعتذار، مبينًا أنه "لا يوجد قانون للعدالة الانتقالية" في السودان.
وأضاف أديب: "لا أشك في القضاء السوداني إنما نشك في بعض القضاة الذين اختاروا أن يكونوا أداة للنظام السابق"، قائلًا: "يجب إقصاؤهم من السلطة القضائية".
نبيل أديب: لا أشك في القضاء السوداني إنما نشك في بعض القضاة الذين اختاروا أن يكونوا أداة للنظام السابق
وفي سياق متصل، استنكر نبيل أديب في تصريحه لـ"الترا سودان" ما وصفه بـ"استسهال توجيه الإساءة للقضاء"، واصفًا القضاء بـ"صمام الأمان" ضد استبداد السلطة وأنه "درع الشعب الأول" في الدفاع عن حقوقه، منوّهًا بأنه لا يجب التقليل من القضاء أو القدح في نزاهته ومصداقيته، ولافتًا إلى وجود "حالات فردية" يمكن معالجتها، ومضيفًا أنه في حالة السودان لا مجال إلا "للمحاسبة القانونية العادية".