09-أغسطس-2022
أيمن الربع عازف موسيقى سوداني

أيمن الربع عازف موسيقى سوداني

يتفق معظم الناس على أن البداية الفعلية كانت من غربي أم درمان؛ حين تسارعت أصابع العازف أيمن "الربع" على أزرار الآلة الموسيقية (KN2000)؛ فحدثت الفوضى، الفوضى المرتبة التي تجد لنفسها نمطًا معينًا يتجلى في الرقصات والقفزات بين الشباب المنتشين بفعل الموسيقى التي تبنوها فيما بينهم على الرغْم من الانتقادات اللاذعة التي طالتها. قبل أكثر من عقد دوّت صرخة الميلاد الأولى لموسيقى "الزنق".

نجحت موسيقى "الزنق" في التأثير في المجتمع السوداني، وسواء كان منبوذًا من بعضهم أو لا، فقد وجدت طريقها الخاص إلى قلوب الشباب

"شيء واحد حيال الموسيقى، عندما تضربك فأنت لا تشعر بأي ألم"، قالها الأيقونة بوب مارلي، وبالطبع يمكن استشعار هذه اللذة التي يقصدها في ردود أفعال الشباب على موسيقى "الزنق". نجح هذا اللون الموسيقي (الأفرو-سوداني) في بث العديد من التأثيرات في المجتمع السوداني، وسواء كان منبوذًا من البعض أو لا؛ فإن هذه الموسيقى وجدت طريقها الخاص إلى قلوب الشباب. ومثلما ارتقت موسيقى الحقيبة في حقبة من تاريخ السودان، وجدت موسيقى "الزنق" لنفسها مكانًا أيضًا في الألفية الثانية.

تمرد

من دون بحيرة تانا لن يكون النيل، ومن دون الرغبة في التحرر وإيصال الأفكار لن يكون الفن؛ فهو بكل ألوانه وأطيافه لا ينبع من فراغ. والموسيقى على وجه الخصوص -مثل الطاقة- لا تفنى ولا تستحدث من العدم؛ ولهذا يُنظر إلى هذا اللون الثقافي الجديد كمحاولة للصراخ أو القتال أو حتى مجرد تمرد على "العروبة" وعلى سياسات المؤتمر الوطني المندثر الذي سعى جاهدًا إلى تأطير مفهوم الدولة العربية الإسلامية في السودان الذي يحوي أكثر من مئة إثنية مختلفة، وقد تكون هذه المحاولة هي الشرارة البكر أو الدافع الدفين الذي جعل هذه الموسيقى واقعًا حيًا اليوم.

https://t.me/ultrasudan

على كل حال، لم يكن هذا هو السبب الوحيد لبزوغ شمس "الزنق"، بل جاء أيضًا استجابةً لاحتياجات الشاب الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين، الشاب الذي يسعى إلى الغريب وينجذب إلى الحداثة بسبب المد العالمي الذي يعزز هذه الرؤى البرّاقة التي تأمر بالسرعة في كل خطوة، ولهذا كانت هذه الموسيقى جوابًا لطلب السرعة.

تقمص

برع "الزنق" في الترويج لنفسه بصورة ممتازة، موسيقى سريعة، شعرية فريدة، أنماط حماسية ونغمات تصبو النشاز، كل هذه العوامل جذبت الشباب بقوة، ولكن لم يصدر "الزنق" الموسيقى لنفسه فقط؛ بل أنتج موضة ملابس معينة وقصات شعر غريبة أيضًا ولذلك صنع لنفسه (براند) فريدة. هذه العلامة التجارية في سوق الموسيقى طغت على جميع الألوان المنافسة على الأقل بين فئة الشباب.

وبحسب رأي عثمان نواي الكاتب والباحث في مجالات حقوق الإنسان والسلام، فإن هذه الموسيقى تشبه في تجربتها ظاهرة الانتشار والنمو السريع الذي حدث لموسيقى (الهيب هوب) في أمريكا، إذ كانت في الأساس صوت السود المضطهدين في الأحياء الفقيرة، وتعبيرًا عن غضبهم من أوضاعهم الاجتماعية ومن العنصرية الممارسة ضدهم عبر صناعة موسيقى جديدة لا تشبه موسيقى البيض السائدة، وبالطبع يمكن إسقاط هذه الفكرة على الفن السوداني من دون حتى الخوض في التفاصيل.

ومع ذلك، أحبذ تشبيه "الزنق" بموسيقى (الروك آند رول) لما يشتركان فيه من جموح ورقص كثيف أو حتى إدمان إن لم أبالغ في وصف العلاقة.

وعلى ذكر موسيقى (الروك آند رول) فهذه العبارة في الأصل كانت تعني حركة سفينة على المحيط، لكن بحلول أوائل القرن العشرين استخدمت لوصف الحماسة الروحية لشعائر الكنيسة السوداء، ومن ثم أصبحت تستخدم لهذا اللون الموسيقي، وبرز نتاج اجتماع التأثيرات المختلفة التي جسدت دمج التقليد الموسيقي الأفريقي مع الآلات الأوروبية، وهذا بالضبط ما حدث مع "الزنق" الذي يُعدّ خليطًا من الموسيقى الأفريقية والعربية، حتى أنها تشبه إلى حد بعيد الموسيقى الكونغولية وخصوصًا تلك التي يؤديها كل من الفنانين كوفي أولوميدي وأويلو لوكومبا.

تأثير مهمَل

في الأصل، عندما يخرج الفن إلى الحياة لا يكون إلا ردة فعل أو رفض لواقع غشيم، وموسيقى "الزنق" ليست استثناءً من هذا الواقع. عانى السودان جدلية الهامش والمركز منذ استقلاله، ويمكنني القول بوضوح إن انتشار هذه الموسيقى كان حصرًا -في البداية- على بعض القبائل أو عرق بعينه على حساب آخرين؛ لكن فيما بعد برز "الزنق" كعامل أساسي تمكن من جعل الوحدة أمرًا ممكنًا إلى حدٍ ما. ولست أزعم هنا أن هذه الموسيقى حققت الوحدة الشاملة التي يسعى إليها السودان منذ الاستقلال؛ لكنها تمكنت من صنع تغيير ملموس وملحوظ جدًا لمن يريد أن يرى هذا التغيير.

الموسيقى ملجأ لأولئك المنسيين، المهملين، لكل من يسعى إلى إيجاد نفسه عندما يرفضه الجميع

الموسيقى ملجأ لأولئك المنسيين، المهملين، لكل من يسعى إلى إيجاد نفسه عندما يرفضه الجميع، وهذا الجيل الحالي بالذات لا أعتقد أنه سيجد مكانًا يحتويه أكثر من الموسيقى، سواء كان "الزنق" أو "الحقيبة" أو بقية الألوان الموسيقية، بداخل كل هذه الأنماط هناك طاقة خفية تجذب جمهورها، هي لا تختارهم؛ لكن هم من يختارون الموسيقى التي تعجبهم، تلك التي يرون من خلالها أنفسهم، تلك التي تعكس صورهم أفضل من المرايا.