أربعون يومًا قضاها المواطن محمد الطيب وأسرته في جحيم الحرب بين القذائف التي تتساقط على المنازل تارة وعلى الميادين الفارغة تارة أخرى، والخدمات التي أصبحت متردية للغاية في العاصمة الخرطوم منذ اندلاع المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف نيسان/أبريل المنصرم، ناهيك بأعداد المفقودين التي تتزايد يومًا بعد يوم، مما قيّد حركته كثيرًا هو وأبناءه الثلاثة، بينما لا تخرج زوجته وابنتيه من المنزل على الإطلاق جراء الأنباء المتزايدة عن حالات عنف جنسي يمارس على النساء. ومع كل هذه الأزمات يجد محمد الطيب وأسرته أنفسهم في مواجهة النزوح ليكتشفوا الوجه الآخر للحرب خلال رحلتهم الطويلة من الخرطوم إلى دنقلا حاضرة الولاية الشمالية.
يقول محمد وهو من مواطني أم درمان وليس لديه أي أقارب في ولايات السودان الأخرى إنه اختار السفر إلى دنقلا لنيته في مواصلة رحلته إلى مصر
يقول محمد وهو من مواطني مدينة أم درمان وليس لديه أي أقارب في ولايات السودان الأخرى – يقول لـ"الترا سودان" إنه اختار السفر إلى دنقلا لنيته في مواصلة رحلته من النزوح إلى اللجوء إلى دولة مصر العربية، وكأي نازح بدأ بالبحث عن منزل يناسبه هو وأسرته في رحلة استغرقت أكثر من ثلاثة أيام متنقلًا بين سماسرة العقارات بعد أن قضى أولى لياليه في شقة ليس بها سوى أَسِرة فقط كانت تكلفتها (25) ألف جنيه لليوم الواحد مع وعود صاحب الشقة بترتيب أوضاع المنزل في مقبل الأيام.
ويضيف أنه وجد بعد ذلك منزلًا أرضيًا يحتوي على غرفتين وصالة بمرافقها كانت تكلفتها (650) ألف جنيه للشهر الواحد، ولم يجد محمد ملاذًا آخر سوى أن يستأجر هذا المنزل في ظل شح المنازل المتاحة للإيجار، بينما صارت أحلامه في الوصول إلى مصر هو وأسرته في مهب الريح بعد أن كلفته نقات رحلة النزوح الأولى ما يزيد على (1,000) دولار.
ضعف القوة الشرائية
وعن معاناة الباعة المتجولين الذين كانت تضج بهم أسواق الخرطوم في مدنها الثلاث، يحدثنا الشاب أحمد السر عن إحباطه الشديد بسبب ضعف القوة الشرائية وصعوبة توفير احتياجات أسرته. يقول أحمد لـ"الترا سودان" إنه كان يبيع بعض اللوحات الدينية خفيفة الوزن متجولًا في سوق "سعد قشرة" في بحري قبل اندلاع الحرب. وكان يبيع ما يقارب الـ(10) قطع في اليوم الواحد، بينما لم يستطع أن يبيع سوى قطعة واحدة بسوق سنار التي نزح إليها مؤخرًا لوجود أقارب له في هذه المدينة، ما سيجنبه هو وأسرته معاناة توفير مستحقات الإيجار باهظة الثمن، إذ لا تستطيع أسرته أن تتحمل تكاليفها في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي بات يعاني منها الجميع.
وأوضح أحمد أنه يعمل الآن في أنشطة أخرى، مستفيدًا من مكوثه معظم اليوم في سوق المدينة، مضيفًا أنه الآن يعمل سمسارًا للعقارات، لا سيما العقار المفروش الذي تفضله الأسر القادمة من الخرطوم، إذ تؤمن لهم هذه المنازل جميع الاحتياجات التي فقدوها في منازلهم الأصلية، بينما يؤمن له هو هذا النشاط الجديد احتياجاته الأساسية بدلًا عن بيع اللوحات الذي أصبح غير مجدٍ الآن.
معاناة مضاعفة
ترى المواطنة توسل محمد أن معاناة الأسر التي نزحت تاركةً منازلها خلفها مضاعفة، إذ أن تكبد منصرفات تأمين ملجأ لهذه الأسر بالإضافة إلى توفير الاحتياجات الأساسية يصبح شبه مستحيل، موضحةً أنه ومع توقف مصادر الدخل يصبح الضرر بالغًا خصوصًا على شريحة النساء. وعزت ذلك إلى أنه يصعب عليهن أن يجدن شركات أو مؤسسات يمكنها أن تستوعبهن، فيما يمكن للرجال أن يلتحقوا بمختلف الأعمال وإن كان ذلك مؤقتًا حتى يستطيعوا توفير احتياجات أسرهم، على عكس النساء والفتيات اللائي يواجهن بعض الصعوبات في هذا المجال.
أما عن المشاريع الخاصة بالأعمال النسائية بحسب المتعارف عليه في المجتمع كعمل "الداردمة" أو تحضير بعض الحلويات؛ فتحتاج إلى معدات تركنها هؤلاء النسوة خلفهن في منازلهن بالخرطوم؛ مما يصعب عليهن الانخراط في أي نشاط مشابه.
خوف وترقب
تعاني المواطنة ليلى النور والتي تركت منزلها في مدينة أم درمان من حالة من القلق والترقب بعد أن تركت منزلها خلفها في ظل الانفلات الأمني الذي طال العاصمة الخرطوم. تقول ليلى لـ"الترا سودان" إن الجيران الذين لم يغادروا منازلهم حتى الآن يتصلون بها من حين إلى آخر لإبلاغها بمحاولات السطو على منزلها من قبل العصابات.
وتضيف ليلى أن منزلها لا يحتوى على مقتنيات ثمينة، لا سيارات ولا أساور ذهبية ولا خزينة مليئة بالأموال، ولكنها مع ذلك تخشى على ذكرياتها مع كل ركن من أركان المنزل، وقطع الأثاث التي اختارتها بعناية فائقة، ومطبخها الذي يحوي قطعًا من الأواني العزيزة على قلبها لأنها كانت هدية من والدتها المتوفاة بمناسبة زواجها الذي مر عليه الآن ما يقارب الـ(20) عامًا.
نزوح من نوع آخر
سور واحد يخبئ بداخله حكاية أسرتين لم تجمعهم أواصر الدم أو حتى المعرفة، إنه سور المنزل الذي استأجره محمد الطيب في الولاية الشمالية، مؤكدًا أن منزله الذي يرى أنه باهظ الثمن، لم يكن معروضًا للإيجار من قبل، وإنما كانت تسكنه أسرة صاحب المنزل نفسه والذي اكتفى بأن اقتطع مساحة صغيرة من منزله ونصب فيها خيمة لتأوي أسرته مع إنشاء بعض المرافق الضرورية، بينما ترك لهم الجزء الآخر مقابل الـ(650) ألف جنيه ليجد نفسه وأسرته في مواجهة نزوح من نوع آخر، نزوح لا يعرف أسبابه أحد سواهم.
ويضيف محمد أن ثمن المنزل كان باهظًا جدًا على الأسرتين معًا، سواء كان عليهم وهم فارين من الحرب وتبعاتها في الخرطوم، والتي كلفتهم صرف مدخراتهم التي جمعوها خلال سنوات، أو على أسرة صاحب المنزل التي ربما تعاني من ظروف قسرية جعلتهم يغادرون منزلهم المريح الذي اعتادوا عليه ليختاروا مواجهة حياة أكثر مشقة وقسوة.