تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي منذ صبيحة الأمس أنباءًا عن إصابة ومقتل قائد الدعم السريع بمحور سنار المقدم عبد الرحمن حميدة البيشي، وظهرت لاحقًا مقاطع فيديو لمراسم تشييع القائد البيشي ومرافقه حسين الزاكي اللذين قضيا ودُفنا معًا في مكان لم يعلن عنه.
انخرطت الصفحات المؤيدة للدعم السريع في موجة حزن عارمة على مقتل البيشي
وانخرطت الصفحات المؤيدة للدعم السريع في موجة حزن عارمة على مقتل البيشي، وأخذ كثير من مناصريه يتغنى بشجاعته وإقدامه، فيما أرسلت أطرافًا أخرى صوت لوم بخصوص الإسراع في إعلان خبر الوفاة دون الالتفات لسير المعارك، محذّرين من آثار صدمة رحيله على تماسك الروح المعنوية للجنود، ومستوى الحماسة القتالية في ظل تعثر مسار العمليات في محور سنار واستبسال الجيش في الزود عنها، ورد أرتالاً من الهجوم عليها، برغم نجاح عناصر الدعم في إسقاط سنجة والتوغل حتى الدندر ووصول جبال سقدي والاحتفاظ بجبل موية كنقطة حاكمة.
ملابسات مقتله
تباينت الآراء والتكهنات حول طريقة مقتله ما بين افتراض إصابة البيشي بغارة جوية أو مسيرة موجهة، كما صرحت بعض القنوات الإعلامية أو من خلال ما أعلنته أطراف مقربة من الدعم السريع جُرحه في بطنه بشظية إثر معارك محور مايرنو الخميس الماضي، واستبعاد ما راج ساعة انتشار الخبر بأن البيشي قُتل مغدورًا من داخل الدعم السريع.
وفي خضم التعتيم المصاحب لملابسات وظروف حتفه، يرجّح مصدرًا مطلعًا الفرضية القائلة بمقتله في المعارك الأخيرة على حدود سنار، مؤكدًا أن تدابير الحماية المفروضة والمتسقة مع مكانة البيشي داخل منظومة الدعم السريع تجعل مسألة قتله من الداخل مستبعدة، ويرى المصدر أن البيشي ظل أهم قيادة عسكرية وميدانية خارج حواضن الدعم السريع، اعتنى بها حميدتي وشقيقه على نحو باكر واستثمرا فيها بتنمية قدراتها العسكرية والمالية، حيث يملك البيشي وحده نحو (70) مشروعًا زراعيًا في النيل الأزرق وسنار، فضلاً عن فتح أبواب التجنيد لأفراد قبيلته ومنحهم حيزًا في تفويج حرب اليمن بما تمثله من رافعة اقتصادية بسبب العوائد المالية المقدرة، ويقول ذات المصدر أن العلاقة مع البيشي كادت أن تؤدي إلى مصاهرته من طرف قائد ثاني الدعم السريع، إلا أن الأمر تعثر بسبب الحرب.
ومعلوم أن المصاهرة وجه من وجوه تمتين الروابط التي تتواشج بها الصلات في المؤسسات الاجتماعية، وبما أن بنية الدعم السريع تتآلف فيها الهياكل المؤسسية الحديثة مع التدابير والأعراف الاجتماعية، فإن المصاهرات تظل أوثق الصلات في الفضاء التقليدي المحيط بالبؤر النخبوية الضيقة.
نهج عسكري ناجع
ويعتقد الدكتور حسن حسين قاسم أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة، أن العملية التي استهدفت البيشي تندرج في العمليات الاستخباراتية التي تجيدها الجيوش الاحترافية ،وتشبه إلى حد كبير من حيث الطريقة والأثر عملية مقتل اللواء علي يعقوب في محور الفاشر.
وهي قائمة على رهان تسديد ضربات موجعة في بنية الخصم باستهداف القيادات العسكرية المركزية فضلاً عن استنزاف مقدراته العسكرية واللوجستية، ويرى حسن حسين أن النمط العملياتي القائم على ضرب القيادات ظل يعطي نتائج مذهلة في سياق المعارك، مستدلاً بما حدث سابقًا في معارك الجيش مع الحركات ومقتل قيادات مفصلية وتاريخية مثل الدكتور خليل إبراهيم قائد ومؤسس حركة العدل والمساواة، وكما حدث مؤخرَا من استهداف القائد علي يعقوب وعبد المنعم شيريا .
ويؤكد الدكتور قاسم أن العملية التي تمت أواخر الأسبوع المنصرم ولم تحظ بتغطية إعلامية وافرة كانت حاسمة ومعقدة، واسفرت عن مقتل البيشي رفقة عدد من قيادات الدعم السريع. ويعدد أستاذ العلوم السياسية الآثار المباشرة للاشتباكات استنادًا على مصادر ميدانية بتدمير أكثر من (13) عربة قتالية، واستلام (5) عربات بكامل عتادها، فضلاً عن استلام (7) عربات مدنية و(6) درجات بخارية ومقتل نحو (70) فردًا علاوة على حجم الإصابات التي تتراوح بين الخطيرة والمتوسطة والطفيفة في مقابل احتساب نحو(11) مقاتلاً من الجيش والمنظومة المساندة ونحو (40) جريحًا. مما يؤكد بحسب حسن حسين أن المعارك كانت عنيفة، مرجعًا الفضل إلى سلامة الخطط العسكرية وبراعة التنفيذ من الجيش وهيئة العمليات وقوى المقاومة الشعبية التي جمعت بين الاستبسال واختراق الخصم.
ويذهب الدكتور حسن حسين إلى أن الأثر المعنوي المرتبط بمقتل البيشي في إحباط عناصر الدعم السريع سيكون مدمرًا على الأقل في محور سنار الذي استعيض به عن تعثر مسار الفاشر، ولأن الروح المعنوية مهمة في سياق المعارك عمومًا، ولكنها أكثر أهمية في حال الاعتماد على العقيدة الهجومية في ظل الرفض الشعبي الجارف لطبيعة غزو الدعم السريع، وإشعال المناطق بالفوضى والتخريب وفق رأي قاسم.
القدرات العسكرية والنفوذ الاجتماعي
وتنبع أهمية عبد الرحمن البيشي بوصفه قائدًا اجتماعيًا فذًا، يحظى بقدرات عسكرية وخبرة بمسالك ودروب منطقة النيل الأزرق. ويرى أبوبكر فضل الله إبراهيم المختص في قضايا الجيش والأمن أن للبيشي حضوره في منطقة النيل الأزرق، ويمتلك قدرة فائقة على التحشيد والتشبيك وإدارة الشأن الاجتماعي والعسكري في آن معًا، وقد أبلى في محاور الخرطوم جنوب في المدرعات والاحتياطي المركزي واليرموك. ولاحقاً في الجزيرة إلى جانب القائد أبوعاقلة كيكل.
وكان فعله المركزي في سياق المعارك المشتعلة في محور سنار والتي أسفرت عن إسقاط مدينة سنجة وامتدت إلى الدندر إلى أن قضى في اشتباكات سنار .
ويؤكد أبوبكر إبراهيم على مركزية دور البيشي باعتباره قائد أصيل في الدعم السريع له نفوذ اجتماعي في مناطق الدالي والمزموم، حيث كوّن شبكة واسعة من المتعاونين استخباراتيًا وعسكريًا كان لها أثر بالغ في مفاعيل الأوضاع الميدانية هناك. ويقول فضل الله أن البيشي عقد تحالفًا مع العمدة أبوشوتال، واستقطبه لصالح الدعم السريع مستثمرًا صراعه مع الحركة الشعبية جناح مالك عقار.
ويرى الدكتور إبراهيم الصديق علي المختص في تحليل الحروب أن للمقدم البيشي خصوصية استثنائية في الدعم السريع بحسبانه القائد الوحيد في محور الجزيرة الذي ينتسب إلى حوزة المؤسسة العسكرية، مضاف إليه صلات اجتماعية ممتدة على امتداد غرب الجزيرة حتى تخوم الجنوب وهو القائد الولائي الوحيد في الدعم السريع الذي دخل بجنوده إلى الخرطوم منذ التاسع من مايو 2023، وشارك في كل معارك الخرطوم جنوب ابتداءًا بالاستراتيجية مرورًا باليرموك والاحتياطي المركزي والذخيرة والمدرعات ومعارك جبل أولياء، وصولاً إلى دخول ولاية الجزيرة.
وقد خادع الجيش أول الأمر برغبته في تسليم قوته، ولكنه ما لبث أن انضم بقواته لعناصر الدعم السريع المتمركزة في الخرطوم، وعلى الرغم من تعرض قواته إلى غارات جوية في منطقة نعيمة إلا أنه استجمع قواته واستنفر طائفة من جنود أبو عاقلة كيكل الذي تربطه معه علاقات ومصالح وثيقة.ويعتقد إبراهيم أن المسار المحتوم للبيشي بدأ يوم 27 حزيران/يونيو المنصرم بعد قطع إمداد (بدوي أبكر) الذي كان في طريقه إليه، ثم القبض على سائقه الخاص في يوم 29 حزيران/يونيو وفقد بعض عناصر الاتصال، ومع فشل الهجوم على سنار من أربعة محاور على كثافة النيران، وإعداد المهاجمين منذ بداية تموز/يوليو وحتى يوم الخميس الموافق 18 من الشهر نفسه، بعد أن تم إفشال محاولة الهجوم على مرتين، استطاعت القوات المسلحة أن تحييد البيشي ليسهل بعد ذلك قنصه ومقتله. الأمر الذي سيؤثر على مجمل الأحداث في محور سنار وسيزعزع قوات الدعم السريع ويضرب تماسكها ولحمتها الداخلية.
الظلال والآثار المتوقعة
ويرى محمد الواثق أبو زيد أمين العلاقات الخارجية بحزب المستقبل، أن ثمة أوجه شبه بين البيشي وحميدتي في الخلفيات الاجتماعية والنزوع العسكري، انطلاقًا من ناصية العمل في تجارة المواشي، مما أسهم في التقارب الوجداني والتآلف المزاجي. ذاكرًا ومذكرًا بارتباط القيادة في الدعم السريع بالإمساك بكل الخيوط من مال وعلاقات وإمداد وتجنيد وتحشيد وإدارة الجانب السياسي والمدني في الفضاء الجغرافي المهيمن عليه بخلاف القيادة الوظيفية في المؤسسة العسكرية المتصلة بالشأن العسكري.
ولأجل ذلك يعتقد الواثق أن أثر غياب القائد الأول في المنطقة لا يمكن تعويضه بأي حال، على عكس الجيش الذي يقوم على التراتبية الهرمية وتوزيع المهام، ويعتمد على الإحلال والإبدال من خلال تغيير المواقع أو الذهاب إلى التقاعد.
ويمضي الواثق إلى ترجيح فرضية الفراغ القيادي برحيل البيشي، لكونه ظل مضطلعاً بدور تركيبي استثمر فيه زمنًا مديدًا على امتداد جغرافية المنطقة من الرماش إلى الدمازين. الأمر الذي سيرتد على الحواضن الاجتماعية المرتبطة بقيادتها الميدانية على نحو عضوي لا فكاك معه، و إقحامها في خوف وجودي وارتياب حول استمرارها واستقرارها وإحداث قلق جيوسياسي داخلي لارتباطها بتخوم جنوب السودان وإثيوبيا.
وبمثل ما ألقى انتقال المعارك إلى محور سنار من ظلال رمزية وفعلية بحسب الواثق، فإن حدث انتقال القائد البيشي من شأنه أن يؤدي إلى إسقاطات لا تقل تعقيدًا عن فعل الحرب، لما تشكله المنطقة من ثقل اقتصادي وسكاني كبير بحسبانها سرة السودان القديم، ومهد حضارته برغم الانقطاعات التاريخية في سير التطور السياسي بفعل الاستعمار وتعثر نخب ما بعد الاستقلال.
ارتدادات حدث مقتل البيشي بما ينطوي من هزيمة لحاضنته الاجتماعية وحلفائها المحليين، سيدخل تلك القواعد في قلق على أسئلة المصير والمستقبل كونها تتموضع في بيئة اجتماعية مغلقة
ويؤكد أبوزيد أن ارتدادات حدث مقتل البيشي بما ينطوي من هزيمة لحاضنته الاجتماعية وحلفائها المحليين، سيدخل تلك القواعد في قلق على أسئلة المصير والمستقبل كونها تتموضع في بيئة اجتماعية مغلقة، على خلاف انفتاح الأفق في كردفان ودارفور على دول الجوار والتداخل السكاني على امتداد دول الحزام الرملي في غرب إفريقيا.
يضاف إلى ذلك بحسب الواثق الفوارق البائنة بين الحواضن المستوطنة في منطقة سنار وما جاورها، وتلك الموجودة في دارفور وكردفان من حيث الميل إلى التعايش والسلم الأهلي عوضًا عن الإغارة والغزو والحركة المرتبطة بمسارات الرعي واختلاف الطبائع باختلاف نحلة المعاش بحسب مقولة ابن خلدون.