في حال مراجعة المهتمين بمسيرة وتاريخ الأغنية السودانية، ومحطاتها المهمة في التطوير، سيقف المراجعون لا محالة عند محطة أحمد المصطفى، الذي استحق بمعيّة المغني الأكبر الحاج محمد أحمد سرور، لقب: عميد الأغنية السودانية. والذي نهضتْ الأغنية السودانية في شكلها الحديث على يديه وتجربته.
أحمد المصطفى تاريخٌ طويلٌ من إنتاج الجديد من الأغنية السودانية، في طريقة تقديمها وأدائها، وكذالك في لونيتها
المغني أحمد المصطفى، تاريخٌ طويلٌ من إنتاج الجديد من الأغنية السودانية، في طريقة تقديمها وأدائها، وكذالك في لونيتها الجديدة. ولا يختلف من ذلك التاريخ الطويل، السمتْ الذي ظهر به، واستطاع عبره المساهمة في تغيير نظرة المجتمعية غير الجيدة للمغني.
اقرأ/ي أيضًا: "سينما الجيران" في الخرطوم
سيرة المغني أحمد المصطفى الذاتية، تقول بأنّه من مواليد العام 1915، على أكثر الروايات الراجحة، لأنّه شخصيًا وفي أكثر من مرةٍ كان يُفيد بتاريخ مختلف عن تاريخ ولادته. وهو أمر يرجعُ إلى عدم التقيُّدِ بالضبط في تاريخ المواليد في ذلك الوقت السوداني، خاصة للذين لم يُولدوا في المدن الكبيرة. كما في حالة أحمد المصطفى الذي وُلد بقرية الدبيبة بشرق النيل. وهي منطقة لها صيتها في تخريج العديد من المساهمين والفاعلين في الأغنية السودانية، أمثال: محمد أحمد الجاغريو الشاعر، وكذا خلف الله حمد، وسيد خليفة وغيرهم.
بدأت علاقة أحمد المصطفى مع الغناء باكرًا، شأنه شأن الكثير من المغنيين، عبر الأغنيات الشعبية، وغناء الدوبيت والحقيبة، وكذلك تلحين وأداء الأناشيد المدرسية، والتي في الغالب لا تبتعدُ ألحانها كثيرًا عن الألحان السائدة وقتها، من الغناء الشعبي، أو غناء الحقيبة. وكذلك بما كان يُطالعه من أغنيات المغني المصري محمد عبدالوهاب، التي كانت تُنشر بالمجلات المصرية التي كانت تصل إلى السودان. أو عبر أغنياته التي كانت تُبث عبر شاشات سينما الخرطوم وأم درمان.
غير أنّ المحطة الملهمة في تجربته كانت عمله وهو لم يعد صبيًا مع رجل الأعمال المعروف عبدالمنعم محمد، المسمى عليه ميدان المولد. وهو ذاته الذي عناهُ محمد المهدي المجذوب في قصيدته الشهيرة "ليلة المولد"، بقوله: "وزهى ميدانُ عبد المنعم/ ذلك المنعم حيّاهُ الغمام".
عمل الصبي أحمد المصطفى، ضمن المكاتب الإدارية والمحاسبية لرجل الأعمال عبدالمنعم محمد، والذي كان باعتراف المصطفى نفسه، أنّه كان يُعامله مثل ابنه، لأنّه لم يُرزق بابن. ولقي رعايةً امتدتْ إلى مساعدته في التعليم، وامتدتْ إلى وقوفه معه عندما اختط لنفسه طريقًا آخر، هو طريق الغناء، بعد أنْ التزم قاطعًا بأنْ يُقدّم نموذجًا مختلفًا عن مغنيي تلك الفترة، في غنائه، وسلوكه. وهو ما كان مستقبلًا من مميزات أحمد المصطفى، وتجربته الغنائية.
مجموعة من التنميطات المجتمعية التي كانت تلحق بشخصية المغني طوال عقود العشرينات والثلاثينات، وربما العقود التي سبقتها، وإنْ بشكلٍ أخف. وتراكمت هذه الصور النمطية المجتمعية للمغنيين السودانيين ووصلتْ مداها في إطلاق صفة: الصعلوك. وربما تكون قد غذّتْها العديد من سلوكيات المغنيين السودانيين في تلك العقود، من الخلاعة والتهتّك، طريقة اهتمامهم بالإزياء ومخالطة الناس، وليس الأمر على الإطلاق لشملهم جميعًا.
وعلى ذلك، يحكي المجايلون للمغني أحمد المصطفى، أنّه كان حريصًا على أنْ محو تلك الصور النمطية المجتمعية للمغنيين السودانيين، عبر سلوك لا يخلو من صرامةٍ انتهجها منذ بداية دخوله حقل الغناء. ويستندوا على ذلك، في عنايته البالغة في الزي، وفي تعامله من الآخرين، وفرض شخصيته التي يتوجّب على الناس تقبلها واحترامها. ويذكر في مذكراته التي كانت تُنشر في مجلة الإذاعة والتلفزيون، أنّه لم يتعاطَ خمرًا في يومٍ من الأيام، ولم يُظهر في جلسةً فنية خاصة أو عامة سلوكًا فيه خلاعة.
ليس ذلك فقط، وإنّما كان قاسيًا وصارمًا مع زملائه من المغنيين، فما كان يسمحُ لأحدٍ منهم الدخول إلى اتحاد الفنانيين وهو يرتدي جُلبابًا غير لائق، أو صندلًا في قدميه، أو غير مرتّب الشعر. ويحكي عدد من الأجيال التي تلته، أنّه كان يمنعهم من الدخول إلى اتحاد الفنانين حتى يرتدوا الزي اللائق. وكان رأيه في ذلك أنّ مظهر المغني جزء من احترام الناس له. وإنْ لم تحترم نفسك في طريقة لبسك، أو طريقة تعاملك مع الآخرين، أو حتى ما تُقدّمه من أعمال غنائية، فإنّ الناس لن يحترموك، ولا تتوقع منهم احترامًا.
وظل ذلك حاله وسلوكه، طوال جلوسه في مقعد نقيب الفنانيين السودانيين لدوراتٍ متتالية. بل إنّ نشره للسلوك الذي يعتقد بأنّه الواجب أنْ يكون عليه المغني السوداني، كان حريصًا عليه حتى وهو في رحلاته الفنية خارج السودان، إذ هو أول فنان يُسجّل زيارةً لهيئة الإذاعة البريطانية لتسجيل أعماله في استديوهاتها بالعاصمة البريطانية: لندن.
بعض المتابعين والمهتمين بتجربة المغني أحمد المصطفى؛ يُصنفونها ضمن المدرسة الرومانسية، لكنه نوّع من تجربته بين الرومانسي والوطني والـ"حقيبي". وقدّم عددًا وافرًا من الأغنيات الوطنية: فتاة الوطن، أنا أم درمان، نحنا في السودان، وطن النجوم، وغيرها.
وبمناسبة وطن النجوم، للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي، فقد انفتح المغني أحمد المصطفى على عدد من الشعراء الفصحى العرب، فتغنى بكلماتهم مثل: أحمد رامي. وفي السودان تنوّعت تجربته في التعامل مع شعراء كُثر، مثل: حسين بازرعة، أبوآمنة حامد، السر دوليب. لكن تجربته في التعامل مع الشعراء، تتجلّى بارزةً مع كلٍ من: محمد أحمد الجاغريو الذي ابتدأت معه تجربته الغنائية. بجانب: عبدالمنعم عبدالحي، وحسن عوض أبوالعلا. والذي تغنى له بعددٍ وافر من القصائد، مثل: سفري السبّب لي أزايا، رحماك يا ملاك، وحبيب الروح.
كان المغني أحمد المصطفى حريصًا على إضافة الجديد في أغنياته، وتجديد القديم منها
وحتى وفاته في الثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر في العام 1999، كان المغني أحمد المصطفى حريصًا على إضافة الجديد في أغنياته، وتجديد القديم منها، لكنه رحل متأثرًا بمضاعفات الملاريا، تاركًا وراءه أكثر من سبعين أغنيةً، في تعاملاته مع أكثر من ثلاثين شاعرًا.
اقرأ/ي أيضًا