13-فبراير-2020

أطفال جبال النوبة يختبئون في الكهوف من القصف (Enough Project)

"اتفقنا على مثول الذين صدرت بحقهم أوامر قبض أمام المحكمة الجنائية الدولية"

كان ذلك تصريح عضو مجلس السيادة الانتقالي محمد حسن التعايشي من حاضرة جنوب السودان مدينة جوبا المستضيفة لمباحثات السلام بين الحكومة الانتقالية السودانية وحركات الكفاح المسلح. أتبع التعايشي إعلانه التاريخي بحديث مقتضب ولكنه كان نافذًا وشاعريًا عن العدالة وشفاء الجراح.

ها هي البلاد التي لطالما لعنّا حالها تتبسم أخيرًا، وها نحن ذا نكتب الفصول الأخيرة من الملحمة، ونضحك أخيرًا، نضحك كثيرًا، كأنّا ما بكينا يومًا

كان ذلك التصريح الحاسم يشبه حجرًا رُمي في بحر ذاكرتي. أيقظ التعايشي بكلماته في خاطري أيامًا كانت من أحلك أيام السودان. كان الدكتاتور المعزول حينها في قمة سكرة جبروته، يقتل الأبرياء شرقًا وغربًا، يخطف ويعذب، يهدد ويتوعد، وخلفه آلة السدنة تُنكل بالسودانيين كلما أشتد التفاف الحبل حول عنقه، علّ ذلك يبعد عنه أجله المحتوم.

اقرأ/ي أيضًا: اجتثاث ثقافة الموت

تذكرت أشياء وأشياء وأنا أتابع حديث التعايشي؛ حرب الجنوب الجنونية، وصور الفظاعات في دارفور، حكايات الناجين من أتون الحرب، قرًى محروقة بالعشرات، جثث مجهولة في الصحراء، آليات عسكرية تتشمس، مجاهدين و "جنجويد"

تذكرت كم كنت يافعًا وبريئًا وأنا أرى القمع الوحشي والعنف المروِّع لآلة القتل وجهًا لوجه لأول مرة وهي تصطاد الرفاق في "شارع المين" التاريخي بجامعة الخرطوم في مارس 2009 بعد صدور مذكرة مدعي المحكمة الجنائية الدولية حينها "لويس مورينهو أوكامبو" بحق رأس النظام. كان الرفاق مجللين بهيبة كأنهم يبشرون بنبوءة وهم يصرِّحون علانية بوقوفهم بقوة مع مذكرة التوقيف والعدالة. ومثل الأنبياء هم أيضاً تعرضوا للضرب والطرد والسجن والتعذيب. كان مشهدًا مهولًا ولكن وقفتهم بخط النار كانت بحق رائعةً قوية.

 تعلمنا الدرس منهم أنا وزملائي، ورأينا معنى الإيمان بالقضية في الدم واللهيب. وعندما عادوا من السجن السياسي تبدو عليهم آثار التعذيب الوحشي وفي أعينهم نفس البريق الذي لم تطفئه أقبية الظلام، بريق التحدي والإصرار الذي صار طبيعيًا ومعتاداً اليوم في شوارع الخرطوم؛ تعلمنا أن قضية يقف خلفها مثل هؤلاء لن تموت. وها هي النبوءة تتحق بتصريحات السيادي، فليبتهج إذًا جمع الثائرين.

البارحة وأنا أشاهد المقطع القصير، مرت بخاطري أشياء أعرفها وأشياء لا أعرفها، امتلأ قلبي بمشاعر كثيرة معقدة؛ شعرت ولأول مرة بإمكانية تحقق العدالة في السودان، كنت فرحًا بما وصلنا إليه، ها هي البلاد التي لطالما لعنّا حالها تتبسم أخيرًا، وها نحن ذا نكتب الفصول الأخيرة من الملحمة، ونضحك أخيرًا، نضحك كثيرًا، كأنّا ما بكينا يومًا.

اقرأ/ي أيضًا: فصول من قصة أيلول السوداني الدامي

لكن لا لم ننس الفجيعة. أطياف الأمس حاضرة في الذاكرة، في كل مكان وفي كل شيء؛ في عيون الأطفال وفي الأطراف الصناعية، في قلوب الأمهات الثكالى وفي انكسار الرجال. لا لن تفارقنا الفجيعة، هي بعض من لحمنا الحي الآن، صارت أعيننا التي نرى بها وأيدينا التي سنبطش بها كل ظالم وجبار.

إن العدالة في الأصل فكرة رومانسية. تجعلنا تمظهراتها الإجرائية ننسى ذلك أحيانًا، ولكننا نعلم أن مثول الدكتاتور أمام محكمة الجنايات الدولية أو أي محكمة أخرى لن يعيد الشهداء والمفقودين لذويهم، ولن تزيل العدالة الفظاعات من ذاكرتهم، لن تمحو الجراح. لكن بواسطة العدالة فقط يمكن للإنسان أن يسمو على الفجيعة، عن طريق تحقيقها فقط يمكن للإنسان أن يرى العظمة والجلال الذي بإمكانه. فها هو سفاح الأمس، القاتل الدموي الشنيع، صاغرًا ذليلًا، مصيره بين يدي ذات الضحايا. وها هو ذا الآمر الناهي صاحب الكلمة الأخيرة في عهده البائد، يرزح تحت رحمة الجماهير، لا يملك من أمر نفسه شيئًا. فيا للعظمة ويا للجلال يا صانع التاريخ يا شعبي.

رومانسية العدالة تتجلى أيضا في عبقريتها، في قدرتها على الإلهام. كنا حتى عهد قريب لا نحلم بلحظةٍ مثل اللحظة الراهنة، كانت الآفاق مسدودة أمامنا، تطاول بنا الأمد، فاختار بعضنا المخاطرة بالرحيل ليصير "وليمةً لأعشاب المتوسط"، ونجا البعض ليعيش موتًا آخرًا في المنافي البعيدة، بينما ظل البقية يعيشون داخل الحدود مثل الموتى الأحياء، يمشون بعيون مفرغة وقلوبٍ كسيرة، لا يحلمون سوى بالرحيل أو الخلاص. وها نحن الآن في ترفٍ من الأحلام، لا نعرف أيها نختار تحقيقه، بل ونجادل في العدالة نفسها؛ أيها نريد، ماذا يناسبنا من أشكالها. تلك العدالة الفالتة، العدالة التي لم تكن ولا حتى حلمًا من الأحلام في أيام الفجيعة، بل كان كل ما نرجوه حينها هو الفكاك من القيد، كان كل همنا النجاة من المذبحة.

لا أظن أن هنالك شيئا أكثر رومانسية من المشاعر العميقة والمعقدة التي يمكن أن تقدح زنادها إمكانية تحقق العدالة بعد كل هذه السنين الملتهبة وكل هذه الآلام التي اختبرناها. فالعدالة هي في آخر الأمر شكل من أشكال التعبير، نوعٌ من الشعر؛ إنها التمظهر الأخير لصرخات المقهورين وأنّات المعذّبين. إنها الشكل النهائي والنافذ لرفضنا ما فعله بنا المعزول وزبانيته في سنواتهم الثلاثون الملعونة. فبكاء الثكالى ولعنات المغيّبين لا تتبدد في فراغ النجوم، ولكنها تعود بالأغلال والسلاسل، تسكن الأسمنت والحديد؛ تحيل ليل الظالم جحيمه المقيم، ليرحل بعدها وهو يعرف بلا أدنى شك، كم رفضناه ونبذناه.

ذلك عن رومانسية العدالة بشكلها الشاعري. ولكن وبالإضافة لكل تلك الفضائل؛ فإنّ للعدالة وظيفة جوهرية في تحقيق السلام. تحمل بلادنا أوزارًا تنوء عن حملها جبالها، ولن تطهرها سوى يد العدالة الناجزة، وبدونها لن تعود الأشياء لحالتها الطبيعية، بدونها لن تعود البلاد لبراءتها الأولى. المرارات تغطي على كل شيء الآن، إنها تسمم الأجواء وتزكم الأنوف، لا يمكنك أن تطلب ممن ما زال يستشعر ألم الفقد المُلِح والظلم الفادح أن يجلس ساكنًا؛ إن الألم دائمًا سيطالب بأن يُحسّ به. وحدها العدالة "ستشفي تلك الجراح" إذا ما استلفنا حديث عضو السيادي الرزين محمد التعايشي.

إن الذين تعذبوا والذين تغربوا والذين تشردوا، أمهات الآلاف من الشهداء، جمهرة المغبونين والمفجوعين كلهم ونحن؛ جميعنا في انتظار لحظة فارقة كهذه، تعيد الأمور إلى نصابها، ترجع العادية للحياة في السودان.

لا أظن أن هنالك شيئا أكثر رومانسية من المشاعر العميقة والمعقدة التي يمكن أن تقدح زنادها إمكانية تحقق العدالة بعد كل هذه السنين الملتهبة وكل هذه الآلام التي اختبرناها

في رومانسيتها وفي تحققها على أرض الواقع تضمن لنا هذه العدالة، أن لا يحدث مثل هذا الذي حدث أبدًا مرة ثانية. السودان لن يرجع للخلف مجددًا، الظالمون لا لن يعودوا من جديد كما صدحت هتافات الثوار. هذا الأمل وهذا الإيمان بمستقبل البلاد -هدايا ثورتنا العظيمة الخالدة- خلفهم الشباب بصدورهم العارية ومعهم قوى الشعب الحية؛ هي المدخلات الوحيدة اللازمة لجعل تصريحات التعايشي واقعًا معاشًا في القريب العاجل. إنها الضامن الوحيد لتحقق العدالة والتي بدورها هي السبيل الأوحد للسلام. إما هذا أو الطوفان!

 

اقرأ/ي أيضًا:

في ذكرى سبتمبر السوداني

بين محطة التقدُّم وموسم الهجرة