19-يوليو-2024
دبابة - الجيش السوداني

تقول الوثائق التاريخية بخصوص علاقة الجيش بالمنظومات السياسية السودانية على ضآلتها وقلتها، إن أول اختراق جرى للمؤسسة العسكرية قامت به طلائع الطلاب الشيوعيين قبيل الاستقلال مع بادرة الانفتاح السياسي الديمقراطي في عام 1954، إذ سمحت الأوضاع حينها بدخول طائفة محدودة من العناصر اليسارية إلى حوزة المؤسسة الحصينة التي سبق وجودها الأحزاب والكيانات السياسية بصورتها الحديثة. ويعتقد محمد محجوب عثمان أن الفضل في تأطير البناء التنظيمي اليساري داخل الجيش يعود بشكل رئيس إلى المقدم بابكر النور بتأثير مباشر من حركة يوليو 1952 المصرية.

بدا الرهان اليساري معلقاً حينها على توافق المسار العملي مع الرؤى النظرية في مراكمة ما أسماه محجوب الرصيد الوطني الثوري للحركة الشعبية داخل الجيش

بدا الرهان اليساري معلقاً حينها على توافق المسار العملي مع الرؤى النظرية في مراكمة ما أسماه محجوب الرصيد الوطني الثوري للحركة الشعبية داخل الجيش، استناداً إلى القول المأثور لفردريك إنجلز في مؤلفه الشهير "دور القوة في التاريخ": "أن ثمة قوتين حاسمتين في المجتمع هما حركة الجماهير المنظمة والجيش". ومع تعثر مسار التغيير الثوري لحزب الطبقة العاملة في السودان، برز اتجاه يسعى إلى الوثوب لأريكة السلطة بإجراء تغيير فوقي عبر الانقلاب، عوض إنجاز ثورة الجماهير كذات فاعلة بالتاريخ.

الجندي والدولة في الأفق الإفريقي

رصد بنك التنمية الإفريقي ما يزيد على مائتي انقلاب عسكري في إفريقيا منذ الستينات وحتى عام 2012، مؤكداً أن 45% من تلك الانقلابات نجحت في الإطاحة بأنظمة الحكم القائمة، مما جعل قضية العلاقات المدنية العسكرية تتموضع في عمق السجالات النظرية والعملية لتأسيس الدولة الإفريقية بما هي بنية ما بعد استعمارية وبحث طبيعة الأنظمة السياسية ورهاناتها الديمقراطية والتنموية، على التباين الشاسع بين المعالجات المنهجية الغربية التي ذهبت بها تراكمات التجربة والخبرة الديمقراطية أفقاً راسخاً في مقابل حالة التعثر الإفريقي التي تتماهى فيها الرؤى النظرية مع اضطراب المسار العملي.

واستناداً إلى كتاب "الجندي والدولة" لصامويل هانتغنتون المنشور عام 1957 بوصفه أهم تأطير للعلاقات المدنية العسكرية من واقع التجربة الغربية، يخلص الدكتور السيد علي أبو فرحة، أستاذ العلوم السياسية بالجامعات المصرية، إلى دراسة التأثير العسكري على السياسة في إفريقيا من خلال ثلاثة محددات: محدد وظيفي ويعنى به مستوى التهديد الخارجي على الدولة، ومحدد أيديولوجي يرتبط بطبيعة المنظومة الفكرية التي يستند عليها المجتمع من حيث نزوعه الليبرالي أو المحافظ، ومحدد البنية الدستورية للنظام السياسي أهو برلماني أم رئاسي وانعكاسهما على حالة التماسك والاستقرار والمشروعية. ويتفق أبو فرحة مع هانتغنتون في أهمية العلاقة بين كبار قادة المؤسسة العسكرية وأبنية الدولة في تحليل طبيعة العلاقة العسكرية المدنية واختبار المستوى المهني للجيوش ونزوع النخبة العسكرية للتدخل في السياسة الإفريقية عن طريق الانقلاب أو التسرب العسكري بما هو زحف ناعم على المفاصل والمواقع المدنية أو من خلال المحاصصة على المكاسب والمنافع والنفوذ.

ويؤكد أبو فرحة أن تدخل العسكر في السياسة الإفريقية، كما تدلل الشواهد الإحصائية والعيانية، يكاد يرقى إلى تموقعه في الدراسات الإفريقية بوصفه متغيراً مستقلاً، وأن الهيمنة المدنية تظل في أحسن الأحوال متغيراً تابعاً. ويستدل الدكتور السيد بدراسة مسحية أجريت في 45 دولة إفريقية لبحث دوافع تدخل العسكريين في الشأن السياسي الإفريقي، تراوحت في مجملها بين ستة دوافع رئيسة تفرع عنها سبعة عشر دافعاً فرعياً، أهمها الدوافع المتعلقة بالأداء الحكومي (الفساد، القمع، انتشار العنف، فشل الحكم النيابي في الإيفاء بتطلعات الشعوب)، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية (التنافس الإثني والقبلي، الإخفاق الاقتصادي، المجاعات)، وانقسام النخبة (الاختلاف حول السياسات والبرامج، الاختلاف على الأجندة الأيديولوجية والمذهبية)، والعوامل المتعلقة بالطموح الذاتي أو إعادة نخبة إلى الحكم أو تحرير سجناء أو حتى الإفلات من العقاب، والدوافع العسكرية المحضة والصراع الجيلي والمصلحي بين النخب العسكرية، والعوامل المتصلة بالتدخلات الخارجية. وهي عوامل تتفاوت بحسب الدول الإفريقية ودول الجنوب تقديماً وتأخيراً، بيد أنها تنطبق على نحو صاعق في الحالة السودانية بدرجات متباينة وفق زوايا النظر من جهة الذات الباحثة وموضوع البحث وسياقاته.

عقم الأيديولوجية

ومن عمق تناقضات الواقع السياسي وعقم المشروعات الأيديولوجية لنخب ما بعد الاستقلال، صار للجيش حضوراً وتأثيراً على مجمل الأوضاع العمومية بالبلاد. ليصبح الانقلاب وجهاً آخر لاستئناف العملية السياسية حين انغلاق الأفق السلطوي بسبب احتدام التنافس الحزبي بين القوى التقليدية، كما حدث في عام 1958 عندما دعا الأميرلاي عبد الله خليل الجنرال إبراهيم عبود لاستلام السلطة ليقطع الطريق أمام عودة القوى الاتحادية إلى الحكم، أو كما حدث في مايو 1969 جراء احتداد الصراع بين قوى اليسار واليمين وما جرى من طرد لعضوية الحزب الشيوعي من برلمان الحكم النيابي الثاني. ليأتي انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 في أعقاب مذكرة الجيش الشهيرة، والذي تساوق مع تخطيط نخب الإسلاميين للوثوب إلى السلطة كما جرى الاعتراف من عراب النظام والتنظيم الدكتور حسن الترابي في أطول شهادة مسجلة على مجمل الوقائع التاريخية والتي بثت عقب رحيله ضمن برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة القطرية.

أفاض المؤرخ السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في تحرير العلاقة الملتبسة بين الجيش والنخب المدنية في كتابه "المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"

لقد أفاض المؤرخ السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في تحرير العلاقة الملتبسة بين الجيش والنخب المدنية في كتابه "المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" قائلاً: "حين تكون القوى السياسية المستحكمة بنظامها البرلماني ذي الأغلبية الميكانيكية الطائفية، عاجزة عن العبور بالكيان السوداني من جدلية التجزئة إلى جدلية الوحدة، وحين تكون هذه القوى غير مستوعبة للمتغيرات الاجتماعية التي تفترض اقتسام قاعدة اتخاذ القرار مع القوى الحديثة، وحين تكون عاجزة عن تفهم تطلعات الجيل الجديد، وحين تكون دون مستوى القدرة على تفهم أسباب الانهيار الاقتصادي، فإن مجمل الأزمات سرعان ما تلقي بأحمالها وأثقالها على عاتق القوات المسلحة بوصفها أكثر المؤسسات التنفيذية تأثراً في تكوين المجتمع".

يكاد هذا النص المجتزأ من حاج حمد يرد روحاً على نحو مختلف في كتابات منصور خالد، آخرها "شذرات: من، وهوامش على، سيرة ذاتية" التي خط فيها سيرته الموضوعية في الجزء الثاني (جيل البطولات وجيل التضحيات: أين وكيف تنكبا الطريق؟ وتحديداً عند حديثه في باب صعود العسكر ورياء السياسة واسترساله في ملابسات تسليم السلطة إلى الفريق إبراهيم عبود وفي كلامه عن دور الجيش والأنصار في السياسة والطريق إلى مايو). وإن يتفق حاج حمد ومنصور خالد على عمق خلافهما في قضية تدخل الجيش في السياسة السودانية ليعد هذا مؤشراً على تساوق الخلاصات مع بداهة المقدمات المنطقية للمشكل السوداني في هذا المنحى.

في البدء كانت الحرب

يعتقد محمد فقيري، أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي، أن مشكلة المؤسسة العسكرية أتت من تلقاء انحراف الفعل السياسي ليس بسبب طموح قيادتها وإنما بسبب اشتعال الحرب الأهلية قبيل الاستقلال وتورط أي سلطة تتصدى للشأن العمومي في إدارة الحرب والتعاطي المباشر مع تداعياتها، أياً كانت طبيعة نظامها ديمقراطياً أو عسكرياً، فضلاً عن انعقاد تحالف بين النخب السياسية والعسكرية وإنشاء أنظمة متطاولة على نسق ما هو دائر من هيمنة الحزب الواحد كما حدث في مايو 1969 ويونيو 1989، واكتساب الجيش أرضية خصبة في إدارة العمل السياسي التكتيكي وما شكله من حضور لافت في الفعل السياسي سيما في مرحلة نظام الإنقاذ.

أكبر مشكلة، كما يقول فقيري، هو اعتقاد الإسلاميين أن الجيش سيف لهم لا عليهم، وهو تصور مرتبط بالعلاقة التي نشأت في إطار حرب الجنوب ودعم الإسلاميين للمؤسسة العسكرية حتى قبل أن تثب إلى أريكة السلطة على نحو محكم. ويدلل أمين الفكر السابق على ما رسخ في الوعي الجمعي للإسلاميين من خلال مشاركة عناصرهم في حرب الجنوب وانخراطهم في إسناد الجيش ضد الحركة الشعبية واستمرارهم في التعويل على ذات الرهان القديم في مرحلة ما بعد سقوط نظامهم.

وفي المقابل، يرى فقيري أن قوى اليسار تنظر إلى بنية الدولة وأجهزتها الحيوية والصلبة كحالة شاخصة لانتظام خصمهم اللدود في ثناياها وعمق مفاعيلها وعدم ممايزة العناصر والقيادات الأمنية والع

سكرية عن الولاء لمنظومة الإسلاميين، والذهاب إلى أقصى مدى ممكن من وصم المؤسسة العسكرية بأنها إحدى روافد وأدوات الفعل السياسي والسلطوي لهم مما أسهم، بحسب اعتقاد محمد فقيري، في تعقيد المشهد وتركيبه.

بأس التناقض وبؤس التصورات

ويرد فقيري حالة التناقض الأمني والعسكري ما بين الجيش والدعم السريع والمخابرات وبأس استعدائها القائم في حرب أبريل إلى بؤس تصورات النخبة المدنية حول تأسيس جيش قومي مهني ينتظم في تكوينه شتات المجموعات والقوات المسلحة المتباينة وفق عقيدة عسكرية وطنية مضبوطة. وكحال النخب السياسية، حاولت أطرافها أن تعقد تحالفات مع الجيش مثلما حدث في فترة ما بعد سقوط الإنقاذ حين بنت قوى الحرية والتغيير سلطتها بشراكة مع العسكر لضرب خصومها من الإسلاميين وتأسيس بنية انتقامية لها شرطتها ولجنتها المسماة بتفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو، وانتهى تناقضات هذا التحالف الهش إلى انقلاب المؤسسة العسكرية عليهم في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021.

يرى فقيري أن اصطفاف الإسلاميين بكتائبهم وعناصرهم القتالية إلى جانب الجيش في حربهم ضد الدعم السريع، والاستثمار في حالة الرفض الشعبي العارم لانتهاكات الحرب، على أمل أن تفيد النخب الإسلامية من استعادة نفوذها في مرحلة ما بعد انتصار الجيش في الحرب

يرى فقيري أن اصطفاف الإسلاميين بكتائبهم وعناصرهم القتالية إلى جانب الجيش في حربهم ضد الدعم السريع، والاستثمار في حالة الرفض الشعبي العارم لانتهاكات الحرب، على أمل أن تفيد النخب الإسلامية من استعادة نفوذها في مرحلة ما بعد انتصار الجيش في الحرب. ويذهب فقيري في خضم تعقيدات المشهد الراهن إلى عجز النخبة السياسية عن اختراق يتم بموجبه إجراء تحول حقيقي يستشرف أفقاً جديداً يلم شتات التناقض الغائر بما يتجاوز الغبن الاجتماعي والمأزق التاريخي المصاحب للاجتماع السياسي السوداني.

قدرة الجيش على التأسيس وعوائق التسيس

ويعتقد أمين الفكر بالمؤتمر الشعبي أن المؤسسة العسكرية تملك القدرة على إحداث هذا التحول الضروري والبنائي في آن، لأنها تحوز على التفاف جماهيري كبير يمكنها من أن تمضي إلى تأسيس نظام ديمقراطي جديد، إلا أن ثمة عوائق تعترض هذا المسار، أهمها بنظر فقيري طموح القيادات العسكرية ونزعتها نحو السلطة، فضلاً عن الضغوط الدولية والإقليمية الرافضة لنشوء بنية ديمقراطية فيدرالية وتأسيس نموذج جاذب يغري الإقليم بالتأسي والاحتذاء بسبب ما تعانيه دول المحيط الإفريقي والعربي في هذا الصدد منذ مرحلة ما بعد الاستقلال. ويمتد هذا الأمر، بحسب فقيري، إلى القوى العالمية التي ترى في قيام نظام ديمقراطي خصماً على مصالحها الاستراتيجية والحيوية في السودان.

ويرى فقيري أن تفشي حالة الكراهية بين القوى المدنية يزيد التعقيدات الماثلة ويعطل مسارات التغيير نحو الديمقراطية واللامركزية السياسية، علاوة على ما أحدثته الحرب من شروخ عميقة في التساكن والمواطنة وصعود القبيلة والتحيزات المناطقية والعرقية والهويات الجزئية. ولكي لا نفلت اللحظة التاريخية المواتية للخروج من أزمات الاجتماع السياسي السوداني المزمنة، يشدد فقيري على ضرورة التسامي على الجراح والاهتداء إلى نماذج وإجراءات ناجعة في العدالة الانتقالية والخروج بأقل الخسائر الممكنة.

وعلى كثافة المفارقات التي أنتجتها الحرب أو أنتجت بدورها حرباً مشتعلة منذ الخامس عشر من أبريل 2023، تبقى تجاذبات المؤسسة العسكرية ما بين مظان التسيس ومطالب التأسيس والانحياز إلى المصالح المادية المباشرة، عوض الانسياق وراء سراب الأجندة السلطوية التي ترسمها تطلعات ذاتية أو نخبوية ضيقة، تقف بالضد من رغبة الجماهير كذات فاعلة بالتاريخ في ظرف بالغ الحساسية ولحظة متحرجة تكون معها الدولة أو لا تكون. وهذا مبحث آخر نستشرفه في اكتناه الأفق القادم في مقالة قادمة.