27-مايو-2024
جنود بالجيش السوداني يحملون علم السودان

الجيش السوداني

تطرح حرب الخامس عشر من أبريل جملة من المفارقات والتساؤلات والالتباسات والنقاط المعتمة، التي باتت تعتصي على أهل النظر والاختصاص، لدرجة ساغ معها الاختلاف الواسع في تفسيرها وتوصيفها وتعريفها. تارة باعتبارها "حرب جنرالين" انقلبا على شريكهم المدني، وأخرى كما رآها قطاع من الفاعلين المدنيين بوصفها حرب "الفلول" لقطع الطريق أمام التحول المدني، أو هي في المقابل "تمردٌ" قامت به قوات الدعم السريع لتفرض وجودها في معادلات السلطة تحت مظان حماية الانتقال.

من أهم المفارقات التي ترصدها الذوات المراقبة لحرب 15 أبريل، الاستجابات المتفاوتة لمعسكرات الجيش على امتداد جغرافية السودان صموداً وسقوطاً

ولم يزل النقاش مفتوحاً حول دواعي الحرب وتداعياتها على مستوى الاجتماع والاقتصاد والظلال الجيوسياسية في منطقة الساحل والقرن الإفريقي. ومن أهم المفارقات التي ترصدها الذوات المراقبة، الاستجابات المتفاوتة لمعسكرات الجيش على امتداد جغرافية السودان صموداً وسقوطاً: كيف ولماذا صمدت القيادة العامة والمدرعات وسلاح المهندسين وسلاح الإشارة طيلة هذه المدة على كثافة الهجوم عليها بشراً ونيراناً؟ ولماذا صمدت نيالا لأكثر من ستة أشهر حسوماً بينما سقطت ولاية الجزيرة على نحو سريع وصاعق؟ وكيف قاوم الهجانة أرتالاً متتابعة على مقارها ومناطقها الحيوية؟ ولماذا لم تزل بابنوسة مستبسلة في وجه هجمات متوالية من عناصر الدعم السريع في كردفان؟ وماذا يجري في تخوم سنار وعلى مشارف الفاو؟ ولماذا استطاع الجيش أن يسترد محور الإذاعة ولم يستطع استعادة المصفاة برغم محاولاته الحثيثة؟ كيف نفهم منطق المعارك ونطاقاتها؟ وما هو السبيل إلى إدراك المفاعيل التي تصنع حدث الحرب؟ أهي كامنة في التخطيط والتكتيك الحربي أم البيئة الاجتماعية المحيطة التي توفر خطوط الإمداد من السلاح والجنود؟

تفاعل استخبارات المعركة

ويرى مصدر عسكري رفيع، آثر حجب هويته، أن المعركة الراهنة بالغة التعقيد وشديدة التركيب، لجهة أن الجيش يواجه خصماً عنيداً ومثابراً ومدعوماً في آن، وهو مع ذلك كان حتى قبيل نشوب المعركة يشارك القوات المسلحة مهام الحماية في المدن والأقاليم المضطربة، باعتباره قوة الجيش الساندة. ويؤكد ذات المصدر أن حضور الدعم السريع الطاغي في عمق المشهد الأمني والعسكري، وانتشاره الواسع في التجنيد والتحشيد، لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن السياق العام والتناقضات التي جعلت ذلك ممكناً ومأذوناً ومسموحاً به على افتراض وظيفته الساندة. وعلى عظم الاختراق الذي حدث، فإن الجيش أدار المعركة بكفاءة عالية يعكس عمقه المؤسسي ونجاعة عقيدته الدفاعية، معللاً صمود فرق وحاميات أكثر من غيرها بسبب تماسك الحواضن الاجتماعية وحسن تدبير العمليات وسرعة تفاعل استخبارات المعركة.

وبالنظر إلى الهدف الأقصى للحرب، يعتقد المصدر أن الدعم السريع فشل في تحقيق رهانه وهو الاستيلاء على السلطة وفرض مشروعه الذي تبدد على مصدات صبر الجيش وتماسكه. وهو لم يزل ماضياً في مساره المدروس رغم عثرات الخطى وتكالب الأعداء، بحسب قوله.

البيئة المحيطة

ويعتقد د. حسن حسين قاسم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة والمختص في قضايا الجيش والمليشيات والأمننة، أن ثمة عوامل ترجح احتمالات السقوط والصمود لفرق الجيش المنتشرة عبر الولايات، فضلاً عن رئاسات الأسلحة كالمدرعات بالخرطوم جنوب والمهندسين بأم درمان والإشارة ببحري ورئاسات القوات البرية والبحرية والجوية بالقيادة العامة. أهم هذه العوامل -بحسب قاسم- هي البيئة المحيطة حال كونها صديقة أم معادية.

د. حسن حسين قاسم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة: البيئة المحيطة شكلت عاملاً حاسماً في صمود فرق الجيش على نحو مكثف

ويعتبر قاسم من خلال استقرائه للأحداث والوقائع التي جرت خلال الحرب الدائرة أن البيئة المحيطة شكلت عاملاً حاسماً في صمود فرق الجيش على نحو مكثف. وفي هذا المقام تنتصب نماذج عيانية شاخصة يرصدها أستاذ العلوم السياسية ليس أولها رئاسات الأسلحة في العاصمة ولا آخرها ما يحدث في الفاشر من صمود مشهود برغم ضراوة المعارك في شرق الفاشر وشمالها حتى اللحظة الراهنة. مؤكداً في الآن نفسه صعوبة اختبار أنماط البيئة المحيطة على واقع الانقسام المجتمعي بصورة خاصة في دارفور، التي تضم خمس فرق رئيسة، بسبب اشتداد الخطاب الهوياتي المرتكز إلى خطوط تقسيم إثني وقبلي ومناطقي حاد ومحتدم يغذي الحرب ويتغذى منها.

ويرى المختص في قضايا الأمننة أن خطاب الدعم السريع، على قدرته التحشيدية والتعبوية، لم يستطع أن يحدث انقساماً في بنية الجيش بدليل أن قادة عسكريين وميدانيين مؤثرين ينحدرون من ذات الأصول القبلية ظلوا يقاتلون الدعم السريع على علو مناشدات بعض القيادات العشائرية المتكررة والمنشورة على الملأ. ويعتقد حسين أنه أمر يفضح تهافت خطاب الهويات الجزئية وينتصر لقومية ومهنية الجيش وتعاليه على المنطق العصبي "في أسوأ تبدياته"، بحسب قوله.

سياسة التجنيد

وفي سياق متصل، يرى صالح عبد الرحمن، المهتم بقضايا الجيش، أن ثمة فوارق واضحة بين فرق الجيش على مستوى الجهوزية وإعداد الجنود المقاتلين وأعدادهم ومستوى التسليح والتمترس القتالي، مبيناً أن الفرقة الخامسة بالأبيض والرابعة بالدمازين والرابعة عشرة بكادوقلي والسادسة عشرة بنيالا هي أكثر الفرق استعداداً، ما جعلها الأقدر على مواجهة سيل الهجمات المتواترة من قوات الدعم السريع بخلاف باقي الفرق العسكرية الكائنة بالشمالية ونهر النيل والجزيرة والنيل الأبيض، والتي يغلب عليها الطابع الإداري بسبب وقوعها في مناطق آمنة تاريخياً.

صالح عبد الرحمن: سقوط الفرقة السادسة عشرة بنيالا بعد صمود أسطوري جاء على وقع حصار عنيف مارسته قوات الدعم السريع

وأكد أن سقوط الفرقة السادسة عشرة بنيالا بعد صمود أسطوري جاء على وقع حصار عنيف مارسته قوات الدعم السريع مما اضطرها إلى الانسحاب إلى الفاشر على نحو منظم حافظ على أرواح المقاتلين والمعدات والأسلحة. مشيراً إلى أن سياسة التجنيد من ذات المناطق كان لها دور واضح في ثبات الفرق، كما ظهر بجلاء في أنموذج بابنوسة والأبيض وغيرها من الفرق والحاميات.

مسارات الإمداد ومستوى التسليح

على صعيد متصل، يعدد أستاذ العلوم السياسية حسن حسين عوامل فنية تتعلق بمسارات الإمداد ومستوى التسليح وخبرة القيادات وتقديراتها وما يسميه "تواشج البنية الداخلية للفرقة" على مستوى الضباط والجنود وصلابة العقيدة القتالية. ويستفيض قاسم في التركيز على عامل الإعداد والتسليح من حيث الذخائر والمدافع والأسلحة النوعية، فضلاً عن خدمات الاستطلاع والاستخبار واختراق الخصم مع انسياب عمليات الإمداد والتشوين، مؤكداً أن عامل التسليح يحتل أولوية قصوى في حسم الصراع باعتباره الجانب المادي المباشر الذي تدور معه المعارك وجوداً وعدماً.

ويؤكد خبير الأمننة على أهمية ومركزية دور القيادة وخبرتها في ترجيح احتمالات الصمود والسقوط، علاوة على مرونتها في اتخاذ التدابير والقرارات وقدرتها على الثبات وحمل الضباط والجنود على المبادأة والحفاظ على الزخم. ويقول حسن حسين إنه لا غنى بأي حال عن كفاءة الجندي المقاتل وتعهده بالتدريب المتواصل وترتيب مأكله ومشربه وسائر متعلقاته واستتمام جاهزيته واستعداده النفسي والذهني. ولا يحدث هذا الأمر بحسب حسن إلا في وجود عقيدة قتالية واضحة المعالم مشدودة إلى آفاق ومعاني قيمية واعتبارية ومعيارية عالية، مدللاً على واقعة ثبات الحرس الرئاسي في أول اشتعال المعركة بوصفها حدثاً فارقاً غيّر وجهة الأحداث. الأمر الذي تكرر في سلاح المهندسين والإشارة بحسب إفادة حسن، ولكنه حدث على نحو أوضح في المدرعات التي هوجمت بكثافة مبالغة من حيث عدد المحاولات ومن حيث الأعداد المشاركة في الهجوم ومن حيث الكثافة النيرانية المستخدمة.

تقديرات القيادة

ويعطي حسن حسين حيزاً أكبر لأثر تقديرات القيادة في ترجيح الصمود أو الانسحاب، والحسابات العقلانية المترتبة على أي قرار هي الأنسب وفق السياقات والمعطيات المتوفرة، والتي لا تخلو أحياناً -بحسب رؤيته- من خلل يرافق مستوى التصور والتنفيذ بدرجات متفاوتة. ومن ذلك ما جرى في جبل أولياء وألقى بظلاله على معركة مدني وتمدد الدعم السريع في مساحات من النيل الأبيض مع تعويض خسارة كبري شمبات، بخلاف انسحاب الجيش من الجنينة بعد صمود دام أكثر من أربعة أيام بيد أنها سقطت بسبب انقطاع خطوط الإمداد وتحول البيئة إلى إطار عدائي لا يمكن احتماله أو التعايش معه.

وبحسب خبير الأمننة، ذات الأمر حدث في شرق دارفور، في الضعين تحديداً، حيث آثرت القيادة العسكرية أن تنسحب مع مضاغطات البيئة المحيطة الجانحة إلى الدعم السريع والمؤيدة له. أما وسط دارفور فهو مسار مختلف يشبه ما حدث في جبل أولياء ولا يخلو من خلل استعجل الانسحاب. وتظل نيالا حدثاً فارقاً بسبب انقسام البيئة المحيطة ما بين نصرة الجيش أو مناصبته العداء من المكونات الاجتماعية المناصرة للدعم، غير أن ما حمل قيادة الفرقة للانسحاب هو انقطاع خطوط الإمداد وشدة الحصار وكثافة الهجوم.

ويرى حسن حسين أن الذي جرى في الجزيرة وقبله في جبل أولياء هو سوء تقدير من القيادات العسكرية والميدانية، علاوة على طبيعة الفرقة الأولى مشاه بمدني التي لم تكن فرقة قتالية وربما لم يكن قائدها على ذات الكفاءة والخبرة التي امتاز بها قادة أكفاء كاللواء ياسر فضل الله، الذي لم يستجب لابتزاز الدعم السريع ومحاولات شرائه حتى قُتل غيلة داخل مكتبه. واستمر من بعده القائد جودات في ذات المسار إلى أن حقق أنجح انسحاب وحافظ على كسوب الفرقة من جنود وسلاح. ذات الأمر ينسحب على القائد كرمود في حامية بابنوسة.

معركة الفاشر

وبخصوص معركة الفاشر، يرى حسن حسين أن البيئة المحيطة صديقة للفرقة وحلفائها من القوات المشتركة التي تضم عناصر أشداء في إدارة المعارك وذات طبيعة هجومية، واستطاعت حتى الآن أن تكف بأس الدعم السريع وترد غلوائه برغم حشده الكثيف واستجلابه لما يسمى بالفزع من الحزام الرملي في النيجر وتشاد ومالي. ويصف قاسم قيادة الجيش هناك بامتلاكها القدرة والخبرة القتالية والوعي بتعقيدات الحرب، إلا أنها تعاني من تعثر في مسارات الإمداد وانقطاعات في خطوطه بسبب انتشار وحصار الدعم السريع استناداً على ميزته العددية وإحاطته بدعم مفتوح من المحاور الإقليمية التي تنفق بسخاء على الحرب الدائرة وتقدم لوجستيات وسلاح عبر خطوات مرصودة كما تشير إلى ذلك كثير من التقارير الاستخباراتية وحتى الصحفية الموثوقة.

خبير: معركة الفاشر ستكون معركة حاسمة في سياق الحرب وستسفر نتائجها عن تغير كبير في معادلات الواقع

يقول حسن حسين إن معركة الفاشر ستكون معركة حاسمة في سياق الحرب وستسفر نتائجها عن تغير كبير في معادلات الواقع مثلها مثل النيل الأبيض وسنار. وربما رهان الفاشر أعمق من أي معركة أخرى. ويذهب قاسم إلى تفاوت أثر العوامل في ترجيح احتمالات السقوط والصمود من حيث الدرجة والنوع، إذ يمكن لعامل واحد أن يؤدي إلى السقوط بينما تتصاعد وتيرة الصمود في ظل تحقق أكثر من عامل. معتبراً أن البيئة مهمة في ترجيح الثبات والاستبسال كما حدث في الفرقة 22 ببابنوسة وكما حدث في الأبيض منذ اشتعال الحرب.

ختامًا

وعلى قيمة ما سطره علماء اجتماع الحرب حول رصد أسباب السقوط والصمود وترجيح عامل على آخر وفق السياقات الظرفية، فإن كثيرًا من نقاط الالتباس لم تستجلَ بعد في معارك الخامس عشر من أبريل التي تضح أبرز مفارقاتها ما بين صمود فرق جيش الغربية أطول من فرق الوسط. إذ تبدو المعالجات والاستقراءات التي ترد في سياق التفسير والمقاربة قادرة على طرح الأسئلة الصحيحة، وهي تخط جملاً واضحة في تحرير المسائل أكثر من تقرير الأحكام.