11-يوليو-2020

أمل وعبلة

"تأخذ محاولة التعرف على مدخل حقيقي لشخصية أمل شكل الصعوبة؛ حينما نصطدم فيه بعالم متناقضٍ تمامًا، يعكس ثنائيةً حادة كلٌ من طرفيها يدمر الآخر، ويشتت الكثير من أشكالها. إنه الشيء ونقيضه في لحظةٍ نفسية واحدة، يصعب الإمساك بها والعثور عليه فيها"

هكذا تفتتح أرملة أمل دنقل المتوفى في العام 1981 إثر مضاعفات السرطان، الصحفية عبلة الرويني، كتابها عن الشاعر المصري الراحل، في كتابها عنه الذي أسمته "الجنوبي" في تيمّنٍ بنشأته ومولده في الصعيد المصري، الذي حمل تناقضًا حادًا مع بيئة القاهرة التي قضى فيها شاعرنا صاحب السيرة.

قذفت الأقدار بعبلة الرويني بين يدي شاعرٍ ينتمي إلى الصعيد المصري، ومثقفٍ من مثقفي السبعينات من القرن الماضي أولئك الذين يؤمنون بالأفكار اليسارية والعدالة الاجتماعية

عبلة، التي بدأت علاقتها مع أمل بمشروع حوار لصالح الصحيفة التي تعمل بها، تنتمي لإحدى العائلات الأرستقراطية العريقة، قذفتها الأقدار بين يدي شاعرٍ ينتمي إلى الصعيد المصري، ومثقفٍ من مثقفي السبعينات من القرن الماضي، أولئك الذين يؤمنون بالأفكار اليسارية ومشاريع العدالة الاجتماعية، ويزيد أمل على ذلك أنه إنسان صقله الفقر والحياة القاسية، ما جعل إيمانه بأفكار العدالة إيمانًا قطعيًا، لا يقبل المساومة وأنصاف المواقف.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى المامبو السوداني

عانت عبلة أثناء حياتها مع دنقل، فبالإضافة إلى فقره، والانتقال من شقة إلى شقة وغرف الفنادق الرخيصة، كان هناك خمره الذي يفضله عل كل شيء، حتى على ليلة الزواج الأولى في شهر عسلهما، حينما تركها وحيدة وذهب إلى إلى صديقٍ ليتسامرا في حضرة الكحول، فثمّة الكثير مما تجهله تلك الفتاة الأرستقراطية عن حياة الشعراء.

أيضًا يدخل عامل فارق السن بوصفه عاملًا أساسيًا في علاقيتهما، فربما يراها أمل كطفلته، حينما قال في قصيدةٍ متحدثًا عنها، هو الذي يكبرها بثلاثة عشر عامًا: "هل أنتِ طفلتي المستحيلة، أم أمي الأرملة" ففي أول مرة قابلته كانت متوترة من النظرات التي رمقها بها الحاضرون في "مقهى ريش"، المقهى الواقع في القاهرة بوصفه ملتقى المثقفين والشعراء ومعاتيه المجتمع، حيث يتلازمون دائمًا منذ ميشيل فوكو وسفينة الحمقى، فلاحظ أمل ارتباك عبلة، فسألها إن كانت تشعر بالضيق، أجابته بالإيجاب، فاقترح عليها المغادرة من هذا المقهى "الشعبي" لتتفاجأ، بعد موافقتها واستبشارها بالهرب من ذلك المكان الذي رمته فيها مهنتها الصحفية، ثم قلبها لاحقًا، بذهابهم إلى "حانة" بدلًا عن المقهى "الشعبي".

اقرأ/ي أيضًا: جماعة عمل الثقافية.. تطلق دعوة للكتابة والتوثيق لنهر النيل

رصدت عبلة حياة أمل بدقة، كاشفة عن تأثره بالأفكار اليسارية، والوجودية، وافتتانه بنتشة "سرًا"، ثم كشفت عن نمط حياة غريب، وأنفة في أحلك لحظات حياته، حينما أصابه السرطان بعد أشهر قليلة من زواجهما، لتبدأ رحلة العلاج التي حولها أمل بشاعريته لقصيدة طويلة، انتهت "بأوراق الغرفة 8" لتجسد حياة شاعر تمسك بالأنفة حتى وهو يصارع الموت، حيث لم تكن حياة أمل مثالية في غالبها، فثمة الشامتون الذين كانوا يزورون أمل في مشفاه وهم يعرضون عليه المساعدة المادية في خساسة وضيعة، فكان يرفض، متمسكًا بأخلاقه الصعيدية رغم آلام السرطان ودنو الموت.

خرّ صلاح عبد الصبور ميتًا، أثناء ما كان يحاول أن يدافع عن نفسه بالقول، ورفع يديه محاولًا تفادي الهجوم وشرح لماذا هو قبل الوظيفة

ثمة حادثة في حياة دنقل كان لها أثر كبير في إيمانه بشاعرية الالتزام السياسي، وقد أفردت لها عبلة حديثا مطولَا في كتابها عن أمل، هي حادثة وفاة الشاعر المصري صلاح عبد الصبور، حيث في تلك الأيام كانت الدولة قد أوكلت إلى صلاح إحدى الوظائف الحكومية التشريفية، وصادف في يوم وفاته أن كانت هناك جلسة سمر تضم مجموعة من أصدقائه، كتقديرٍ له.

تحكي عبلة أن أمل كان متخوفًا في ذلك اليوم من هذا اللقاء، حيث كان من السهل، بحسب ما حكت، توقّع بعض الحساسيات السياسية في ظل مكانة عبد الصبور الجديدة، بوصفه موظفًا لدى الدولة، وكان هؤلاء الشعراء الفوضويون الشباب لا يعرفون شاعرًا موظفًا حتى، ناهيك عن موظف دولة، فأمل نفسه كانت احدى أزماته هي عدم قدرته في الالتزام على وظيفة.

عندما بدأت الجلسة، وراحت الأرواح تعبّر عن نفسها، ما كان من أحد الشعراء الحاضرين في تلك الليلة إلا أن انفجر في وجه صلاح صارخًا: "انت بعت يا صلاح.. بعت.. بعت بالرخيص".

وما هي إلا ثوانٍ حتى خرّ صلاح عبد الصبور ميتًا، أثناء ما كان يحاول أن يدافع عن نفسه بالقول، ورفع يديه محاولًا تفادي الهجوم وشرح لماذا هو قبل الوظيفة، لكن القدر كان أبلغ إبانة.

صلاح عبد الصبور
صلاح عبد الصبور

تتحدث عبلة عن هذه الحادثة بحذرٍ شديدٍ، تحاول أن تسرد تفاصيل محددة، كون أن أشخاصًا آخرين كانوا حضورًا ساعتها، وذكرتهم بالاسم، وفي أثناء سردها للتفاصيل أكّدت أنّ أمل تجنب الحديث عن هذه الحادثة في مقبل الأيام، قائلة إنها -الحادثة- منحته ايمانًا أكثر بالشعر.

في آخر لحظات حياته عانى أمل من تبعات العلاج، وظلّ جسده مختبرًا لأنواع جديدة من علاج السرطان في ذلك الوقت، حيث أظهر جسده مقاومة غريبة لآثار السموم التي كانت تُضخ في جسده المتهالك.

صوّرت عبلة لحظات المعاناة في آخر ثواني حياته بأنها إرادة الجسد الشاعر وتمسكه بالحياة، حتى اللحظة الأخيرة التي طلب فيها أمل من عبلة أن تسحب عن جسده إبرة السائل العلاجي، الذي كان يَنَسرب في جسده الذي كان يجاهد الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: بعد اثنين وعشرين عامًا... الورد ينبتُ في العيلفون مجددًا

قبلها كان أمل قد طلب بهدوء نقله إلى مستشفى متخصصٍ بأمراض الكُلى، هو الشاعر الذي كان يعاني السرطان، لكنه أحسّ بسريان العلاج في كِليتيه، جاء الرد قاسيًا وباردًا من أحد الأطباء الذين كانوا حضورًا، بأنه لا ينفع نقلك لمستشفى الكُلى لأنك يبدو أنك أصبت بالفشل الكلوي تمامًا.

طلب أمل من عبلة أن تسحب إبرة المحلول الوريدي الذي كان يضخ في جسده. سحبتها؛ ليغط بعدها أمل في غيبوبة أبدية

طلب ساعتها أمل من عبلة، بإيماءات منه، أن تسحب إبرة المحلول الوريدي الذي كان يضخ في جسده. سحبتها؛ ليغط بعدها أمل في غيبوبة أبدية، عبّرت عنها الرويني في الفصل الأخير من الكتاب، والذي عنونته بـ"غيبوبة الموسيقى"، وهو الفصل الذي حوى كلماتًا معدودةً ودقيقة، ليرحل بعدها أمل بعد أن تسحب منه عبلة إبرة المحلول.

اقرأ/ي أيضًا

لماذا يفترض عثمان عجبين أنّنا لم نُغنِّ بعد؟

كورونا على طاولة الأدب