كان المهندس ورجل الأعمال الياباني الشهير سويتشيرو هوندا الياباني في زيارة لأحد مصانعه وأراد أن يسلم على أحد العمال، سحب العامل الياباني يده بسرعة؛ لكونها مغطاة بالشحم، إلا أن "سويتشير" أسرع منه وهو يجذب يده قائلًا: "لماذا تسحبها؟ أنا أحب الشحم"
من قال أننا لا نحب الشحم
تذكرت تلك القصة وأنا أطالع عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورًا للعمال والفنيين في حقول النفط وهم يعملون لأيام متواصلة من أجل إصلاح انسداد الأنبوب الناقل، الأمر الذي جعل السيارات في العاصمة الخرطوم وبقية المدن تتراص في صفوف تصل لكيلومترات أمام محطات الوقود.
تحول الأمر لما يشبه الملحمة الوطنية وخلال أسبوع كان الرأي العام يتابع انسياب النفط ساعة بساعة، فمجرد اتهام عناصر النظام البائد بمحاولة خلق الأزمة، قلب الطاولة تمامًا، فتوحد الجميع
ربما هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها عطل في الخط الناقل، لكن ردة الفعل هي المختلفة هذه المرة، فقد تحول الأمر لما يشبه الملحمة الوطنية وكأن الجميع في معركة، وخلال أسبوع كان الرأي العام يتابع انسياب النفط ساعة بساعة، وتتزايد المقالات التي تشرح الأمر الفني والتقني بشكل مبسط. فمجرد اتهام عناصر النظام البائد بمحاولة خلق الأزمة، قلب الطاولة تمامًا، فتوحد الجميع.
صور العمال وعلى أجسادهم الشحم إحتفى بها السودانيين بنفس طريقة "سويتشيرو" فمن قال أنا لا نحب الشحم!
اقرأ/ي أيضًا: كبرى الشركات الحكومية تقر بتراجع إنتاج الذهب ومديرها يكشف التفاصيل
لجنة المسح الخاصة
تدين اليابان لهذه اللجنة بكل ما هي عليه الآن، فاللجنة التي انتهت حكومية، وتصدر توصيات رسمية وتضع السياسات؛ لم تبدأ هكذا. المهندسان (أوكيتا) و(جوتا) كانا قد توقعا الهزيمة قبل شهر، ليغادرا معا من مكان عملهما في العاصمة الصينية بكين إلى طوكيو، لتكون ضربة البداية لنقاش عن "ماذا سنفعل بعد الهزيمة؟"
في اليوم التالي لإعلان اليابان استسلامها كانت النقاشات قد بدأت، وبدافع الحس الوطني انضم لهما أكاديميون وسياسيون من مختلف التوجهات. كانت الاجتماعات اليومية والخطط والاستراتيجيات كلها تجيب عن سؤال واحد: كيف سنبني اليابان؟
وكانت اللحظة الفاصلة هي عندما أعلنت الحكومة اليابانية تبنيها لتلك الخطط، وأعلنت عبر وزارة خارجيتها اعتماد لجنة المسح الخاص .
الآن وفي خضم الجذوة الثورية المتقدة هذه في السودان، تذهب الحكومة بعيدًا وهي تغازل المجتمع الدولي وتنفذ الاشتراطات التي من شأنها إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو أمر على الرغم من أهميته إلا أنه ليس الحل السحري لمشاكل البلاد، فمن قبل كانت العقوبات الأميريكية هي الشماعة التي يعلق عليها نظام الإنقاذ كل إخفاقاته ولم يتغير شيء بعد رفعها، لدرجة أن بعض السودانيين يعتقدون أنها لا تزال سارية.
الحكومة الانتقالية أو حكومة الثورة تدخل شهرها الخامس الآن، دون أن تطرح أي رؤية أومشروع وطني أوخطة محددة تستفيد بها من الالتفاف والتأييد الشعبي منقطع النظير الذي يحفها.
اقرأ/ي أيضًا: اقتصاد السودان.. ماذا يقول ثلاثة خبراء عن أبرز المشاكل والحلول المقترحة؟
لجنة مسح خصة سودانية
سويتشيرو نفسه في عندما كان طفلًا في أسرة فقيرة، يعمل والده في إصلاح الدراجات الهوائية، ترك التعليم ليساعد والده في ورشته الصغيرة، وليدير بعدها ورشته الخاصة في تصنيع بعض قطع غيار شركة (تويوتا)؛ كان ضحية الحرب، فالقصف الأمريكي طال ورشته ليبدأ من جديد، ووفق التسهيلات التي وضعتها (لجنة المسح الخاصة) بدأ عمله الجديد ليرد على الولايات المتحدة الأمريكية قصفًا بقصف، هذه المرة كانت منتجات مصانعه بعد أعوام تسيطر على السوق العالمية في مجال الدراجات النارية، لتدفع الولايات المتحدة ثمن قصفها لورشته، وتجد نفسها تضخ من عملتها في الاقتصاد الياباني، فماركة (هوندا) الشهيرة لا يستطيع أحد مجابهتها في السوق وقتها.
الآن هل يبدو الاقتصاد السوداني منهارًا؟ نعم بالتأكيد. وهل يعني هذا أن السودان بلد فقير؟ الإجابة قطعًا لا. فالسودان غني بالموارد فقط يحتاج إلى "لجنة المسح" الخاصة به. فالزراعة والثروة الحيوانية والتعدين مضافًا إليهم الموقع الإستراتيجي المميز، بمقدورهم أن يجعلوا منه واحدًا من أقوى الإقتصاديات في المنطقة.
الحكومة الانتقالية في سعيها لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعادة السودان إلى الأسرة الدولية، تنظر بعيدًا إلى الاقتصاد فلا يمكن النهوض به بدون (التمويل) وهنا بيت القصيد، ففي روايته الشهيرة (دومة ود حامد) يخلص الروائي السوداني الطيب صالح إلى أن الأمرين يمكن القيام بهما؛ حيث يمكن للدومة أن تبقى ويمكن إنشاء المرسى المقترح.
فلا يتعارض سعي الحكومة في إنتظار الفرج من المجتمع الدولي مع بحثها عن خطط بديلة، فالاقتصاد السوداني، رغم كل ما يحيط به، يعد واحدًا من أفضل عشرة اقتصاديات بالمجمل في القارة، تبقى علته في أن حجم رأس المال المتداول خارج الإطار الرسمي هو الأكبر. فلوأن لجنة الخبراء استطاعت أن تضع الخطط التي يمكن من خلالها إدخال رؤوس الأموال هذه إلى الدورة الاقتصادية الرسمية، سيتغير الكثير، ويمكنها بعد طرح رؤيتها وخطتها استقطاب المزيد من التمويل عن طريق السودانيين العاملين بالخارج الذين يقدر عددهم بخمسة ملايين.
إن استنفار الطاقات الشعبية، المشتعلة أصلًا بفعل الثورة، يمكنه أن يحيل الأمر في قطاع الزراعة إلى زيادة تقارب الضعفين وكذلك في قطاع الثروة الحيوانية والتعدين، وإذا ذهبت الخطة خطوة إلى الأمام بثورة صناعية تبدأ بالصناعة التحويلية سيتغير الأمر تمامًا، فالسودان الذي يصدّر الصمغ العربي كخام الآن يمكنه زيادة العائد بنسب تتراوح ما بين الـ20% إلى الـ30% فقط لو قام بتصديره بعد طحنه.
يمكن تحويل مناطق النزاع الغنية بالموارد إلى مناطق منتجة بفتح الاستثمارات الخارجية فيها والدخول في شراكات مع القطاع الخاص المحلي وشركات المساهمة العامة
نجاح هذه التجربة المحلية المعتمدة على التمويل الذاتي سيكون مغريًا للعديد من المستثمرين الأجانب للدخول في شراكات بعد تلقيهم الضمانات الكاملة وفق شروط تحقق لكل الأطراف الفائدة المرجوة.
توقف آلة الحرب حاليًا بعد الثورة لن يطول، بغض النظر عن التوصل إلى اتفاق سلام بين الفرقاء السياسيين أوعدمه، مالم تحل الأسباب الحقيقية للحرب وأولها التنمية، يمكن ببساطة تحويل مناطق النزاع الغنية بالموارد إلى مناطق منتجة عن طريق فتح الاستثمارات الخارجية فيها والدخول في شراكات مع القطاع الخاص المحلي وشركات المساهمة العامة وليكن نصيب الحكومة من الأرباح خدمات تنموية تقدم للمناطق وفق دراسات اجتماعية.
اقرأ/ي أيضًا:
الحزب الشيوعي يكشف تحديات الإصلاح الزراعي ويطرح حلوله
مجموعة أصدقاء السودان.. طوق نجاة أم رحلة تيه جديدة؟