يقول نور الدين وهو يعمل عتالًا في سوق مدينة الأبيض بشمال كردفان لـ"الترا سودان" إن عمله قد توقف منذ الخامس والعشرين من رمضان، مبينًا أنه وزملاؤه لم يتمكنوا من إفراغ أي جرار في مخازن التجار التي ظلوا يعملون بها لأكثر من (32) عامًا. وكل ما يمكن لنور الدين القيام به الآن هو نظافة المخزن وإعادة ترتيبه وحراسة الدكان، حين يتغيب صاحبه لأداء بعض الواجبات وتوصيل بعض الأغراض، مقابل أجر زهيد لا يسد رمقًا ولا يكفي منصرفات الأسرة.
يشير صاحب ملحمة في الأبيض بشمال كردفان إلى انخفاض البيع بأكثر من (80%)، فيما كشف صاحب صيدلية عن انخفاض المبيعات بـ(50% – 60%)
يقول نور الدين إن الحال تبدل بعد الحرب المندلعة منذ 15 نيسان/أبريل الماضي بين الجيش والدعم السريع، فقبلها كان نور الدين ورفاقه يفرغون (10) جرارات سعة (50 – 60) طنًا في اليوم تدخل إلى سوق المدينة من الخرطوم وأم درمان، وشحن أكثر من (20) عربة نقل (لوري) إلى القرى المجاورة. وكان عدد (الكلة) –وهي مجموعة الأفراد الذين يقومون بالشحن والتفريغ– يتراوح بين (10 - 15) فردًا، ويتحصل الواحد منهم على (15) ألف جنيه في اليوم الواحد تكفي احتياجات أسرته – وفقًا لنور الدين. والسبب يعود إلى انقطاع الطرق الداخلة والخارجة من المدينة، وليس الخريف هذه المرة.
وتعاني مدينة الأبيض من الحصار المفروض عليها جراء انتشار قوات الدعم السريع في الممرات المؤدية إلى المدينة الواقعة على مناطق إستراتيجية تربط وسط السودان بإقليم دارفور.
يقول محمد سليمان وهو تاجر بسوق الأبيض: "انخفضت كمية البضائع الواردة إلى السوق الذي كانت تدخله قبل الحرب (100) جرار عن طرق الأسفلت عبر كوستي والرهد والطريق الغربي الذي يعبر مدينة بارا". وكانت بالمدينة –بحسب هذا التاجر– عدة شركات تجارية لتوزيع السلع الغذائية ووكلاء لكل مطاحن الدقيق مثل شركات (سيقا وويتا وسيم والأبلج) إلى جانب شركة "كوفتي" وموردين للسكر من التجار العموميين.
وتخرج من الأبيض "اللواري" ذات السعات الأقل نحو الشرق والغرب والجنوب لأن المدينة تعد مركز توزيع لما حولها من قرى ومدن بالإضافة إلى ولايات دارفور وجنوب كردفان. ويأتيها وارد المحاصيل الزراعية لا سيما الصمغ العربي الذي تعد بورصته أكبر بورصة للصمغ العربي في العالم، إلى جانب الحبوب الزيتية التي تعد من أهم سلع الصادر لا سيما السمسم الذي تعتمد عليه أيضًا معاصر الزيوت المحلية التي يصل عددها إلى (20) معصرة، ولذلك تدخل إلى المدينة في بداية الموسم آلاف الشاحنات.
ويوضح سليمان في حديثه لـ"الترا سودان" أن هذا الوضع قد تغير الآن؛ إذ انخفض عدد الجرارات القادمة إلى المدينة من (100) إلى (10) جرارات فقط. ومؤخرًا توقفت تمامًا بعد أن تعرضت لاعتداء من قبل قوات مسلحة ترتدي زي الدعم السريع، فيما أنكرت قيادتها بالولاية أي صلة لها بتلك القوات في لقاء جمعها بقيادات في الإدارة الأهلية كانت قد توسطت لحماية مرفق الكهرباء وفتح ممرات آمنة وعدم الاعتداء على الأهالي. لكن مثل هذه التأكيدات لم تمنع الخطر على طرق الأسفلت أو تقلل من أثره على انسياب حركة المرور، وبدلًا عن وصول الإمداد من الخرطوم، أصبحت الجرارات تتوقف في مدينة "أم روابة" التي تقع على بعد (150) كيلومترًا شرق الأبيض، ووردت إليها الكثير من السلع من الخرطوم ويخشى عليها أصحابها من النهب، ومن هناك تتسرب إلى الأبيض عبر كثير من الطرق، تحملها ما تعرف بـ"لواري الحلال" التي كانت تعمل بين القرى؛ فالأبيض مدينة تتميز بتعدد الطرق إليها، ولذلك يصعب تأمينها، كما يصعب حصارها للسبب نفسه.
ومن المفارقات أنه ورغم التكلفة العالية إلا أن أسعار السلع ما زالت في متناول اليد لضعف القوة الشرائية بسبب عدم قدرة أهالي القرى المجاورة على الوصول إلى المدينة والذين تعتمد عليهم حركة البيع بنسبة عالية تصل إلى النصف، ثم لعدم صرف المرتبات لأكثر من شهرين.
يشير صاحب ملحمة إلى انخفاض المبيعات بأكثر من (80%)، فيما كشف صاحب صيدلية انخفاض المبيعات إلى نسبة تتراوح بين (50% – 60%) رغم أن الدواء من السلع التي يعد الاقتصاديون الطلب عليها صلبًا ولا يتأثر بحركة العرض والطلب.
وقال طبيب باطنية لـ"التر سودان" إن الحالات التي ينظرها قد تراجعت من (60) حالة في اليوم إلى ثلاث حالات، وفي بعض الأيام تكون حالة واحدة؛ بسبب عجز المرضى من خارج المدينة عن الوصول إليها لانعدام الأمن على الطرقات. وأضاف أنه يكتفى بالتواصل مع أصحاب الحالات المزمنة عبر "الواتساب" لتزويدهم ببعض النصائح والإرشادات.
ومع ذلك، يقول تاجر جملة في سوق الأبيض إنه "ليست هناك ندرة في السلع"، وينفي أي مظهر من مظاهر الأزمة، بل ويؤكد أن هناك "وفرة في السلع الأساسية". ويعزي الأمر إلى ورودها من مدن أخرى، بل وتكدسها في كل من مدني والمناقل وكوستي، مما أدى إلى انخفاض أسعارها؛ مثل الدقيق من النوع الجيد والذي انخفض سعره من (34) ألف جنيه إلى (22) ألف جنيه، والسكر من (53) ألف جنيه إلى (47) ألف جنيه – وفقًا لهذا التاجر. والمشكلة –بحسب التاجر الذي فضل حجب اسمه– هي تعذر نقل السلع إلى قرى الولاية ومدنها، بل إن بعض القرى أصبحت تتحصل على احتياجاتها من مدينتي "أم روابة" و"النهود" اللتين يصل إليهما الدقيق من بورتسودان عن طريق كسلا والقضارف، مما أثر سلبًا على حركة البيع في سوق الأبيض.
ويضيف هذا التاجر في إفادته لـ"الترا سودان" أنه ليس هناك سلعة فيها شح غير الصابون الذي ينتج في الخرطوم. ويرجع خلو المحال التجارية من السلع إلى أن تخزينها في المنازل خوفًا من النهب والسرقة بعد تعرض السوق لحوادث مماثلة لأكثر من مرة خلال هذه الفترة التي تجاوزت الشهرين.